انتهى عصر الدعم غير المشروط، وأفل نجم مرحلة منح الشيكات على بياض، ولا بد من شروط إصلاحية – بعضها قاسية – للموافقة على تقديم خطط الإنقاذ المالي.. كان هذا ملخص التقرير الذي نشرته صحيفة Wall Street Journal الأمريكية، الجمعة 7 أبريل/نيسان 2023، بشأن مسألة الدعم السعودي الخليجي لمصر خلال المرحلة المقبلة لانتشال الاقتصاد المصري من مأزقه الحاليّ.
التقرير الذي استند إلى مصادر مصرية سعودية مطلعة كشف عن تغير واضح في موقف المملكة والخليج بصفة عامة بشأن المساعدات الخارجية المقدمة للدول، وهو ما يتناغم حرفيًا مع التصريحات الصادرة عن وزير المالية السعودي محمد الجدعان في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، خلال مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، حين قال “إننا اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة من دون شروط، ونحن نغير ذلك، نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول بالفعل إننا بحاجة إلى رؤية إصلاحات.. نفرض ضرائب على شعبنا ونتوقع من الآخرين فعل الأمر نفسه وأن يبذلوا جهدًا، نريد المساعدة لكننا نريد منكم الاضطلاع بدوركم”، كاشفًا النقاب عن تغير إستراتيجية بلاده في تقديم المساعدات لحلفائها والخاصة بتقديم منح مباشرة وودائع دون شروط.
تصريح الجدعان حينها كان يتسم بالعمومية ولم يختص القاهرة بالاسم، وهو ما منح البعض أريحية في عدم تحميله فوق طاقته خشية تعكير الأجواء بين البلدين، غير أن ما نشرته الصحيفة الأمريكية بالأمس كان أكثر وضوحًا وشفافية، بل تجاوز ذلك إلى التدخل في مسائل قد تراها القاهرة سيادية وشأن داخلي ليس لأحد الاقتراب منها، فهل أوشك شهر العسل بين مصر وحلفائها الخليجيين على الانتهاء؟
صحيفة “وول ستريت جورنال” تنقل عن مسؤولين إخطار #السعودية ودول خليجية لمصر بضرورة خفض قيمة العملة لتنفيذ خطط إنقاذ مالية وتقليص دور الجيش في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص pic.twitter.com/1860bpzr8U
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 7, 2023
شروط قاسية.. وتدخلات
الصحيفة نقلت عن المسؤولين المصريين والسعوديين أبرز الشروط التي طلبتها دول الخليج من القاهرة للموافقة على خطط الإنقاذ المالي، منها تقليص الجيش مشاركته في الاقتصاد، وانسحاب الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية من المشهد بشكل أكبر لحساب شركات القطاع الخاص التي تعرضت لانتكاسات كبيرة خلال السنوات الماضية بسبب تغول الاقتصاد العسكري.
كذلك المطالبة بتخفيض قيمة العملة المحلية (الجنيه) وتوفير قدر أكبر من المرونة السوقية، حيث يرى الخليجيون أن قيمة الجنيه لا يزال مبالغًا فيها، وهو السبب الذي أدى إلى توقف المفاوضات بين القاهرة وصناديق الثروة السيادية والشركات في الخليج، بشأن أصول حكومية مصرية مختلفة.
بدا أن المملكة ومعها الإمارات تتعامل مع هذا الملف ببرغماتية بحتة، لا تراعي فيها الأبعاد السياسية والأخوية في العلاقات مع الجيران والحلفاء
ومن المطالب التي قد تراها القاهرة تدخلًا في شؤونها وسياستها الاقتصادية إعادة النظر في التعيينات الحاليّة والتي ثبت فشلها بالتجربة، وضرورة تعيين قيادات أكثر فاعلية لإدارة الشؤون المالية المصرية بعد سنوات من سوء الإدارة والفساد، الأمر الذي انعكس سلبًا على مؤشرات الأداء العام للاقتصاد الوطني المصري.
وتتناغم شروط الخليج مع نظيرتها المقدمة من صندوق النقد الدولي الذي توقع أن تحصل مصر – حال التزامها بتلك الشروط – على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار من الخليج خلال السنوات الأربعة المقبلة، مع التشديد على أهمية لجوء القاهرة لإستراتيجية بيع الأصول من أجل تلبية الاحتياجات المالية وسد العجز المتفاقم، وهي الإستراتيجية التي تبنتها الحكومة خلال العامين الماضيين وأسفرت عن بيع عشرات الشركات والكيانات المملوكة للدولة لصناديق الاستثمار الخليجية وعلى رأسها السعودية والإماراتية.
البحث عن الربحية.. لا المساعدة
شهدت المملكة نقلة محورية في رؤيتها للأموال التي تضخها في الأسواق الخارجية، فالأمر لم يعد سياسة فقط كما كان في السابق، حين لجأت لورقة المال والمساعدات من أجل تحقيق أهداف سياسية أو تجميل صورة ما أو شراء ولاء كيانات أو حكومات بعينها، إذ بات الوضع اليوم مختلفًا، فالبعد الاقتصادي واستهداف الربحية وجني العوائد والمكاسب بات رقمًا صعبًا في المعادلة.
وفي ضوء سياسة تنوع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على عائدات النفط دون غيرها، لجأت المملكة إلى تعديد استثماراتها الخارجية لتحقيق أكبر قدر من الأرباح، وتعد مصر سوقًا كبيرًا لتحقيق تلك الأهداف، لكن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر في بعض السياسات لأجل جني المكاسب، ومن بينها خفض قيمة الجنيه ومرونة أكبر في الحزم الاستثمارية المقدمة وتقليص تدخلات الحكومة والجيش معًا في العملية الاقتصادية، بما يسمح لدول الخليج بالاستحواذ على حصص كبيرة في قطاعات النمو المصري، وهو ما بدأ يتحقق بالفعل من خلال الهيمنة – مع الإمارات – على الأصول المصرية خلال العامين الماضيين.
وتتفق صحيفة “نيويورك تايمز” مع هذا الطرح حين أشارت في تقريرها المنشور في الثاني من أبريل/نيسان الجاري، إلى أن محمد بن سلمان منذ أن أصبح والده ملكًا في 2015 يستهدف تحقيق عوائد استثمارية أكبر لبلاده في الشرق الأوسط، وذلك من خلال التوجه القومي الذي تبناه مؤخرًا تحت عنوان “السعودية أولًا” والذي بدت إرهاصاته في إعلان الصندوق السيادي السعودي استثماره 24 مليار دولار في مصر والعراق والأردن والبحرين والسودان وعمان، وهو الاستثمار الذي يرجى من خلاله تحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وبدا أن المملكة ومعها الإمارات تتعامل مع هذا الملف ببرغماتية بحتة، لا تراعي فيها الأبعاد السياسية والأخوية في العلاقات مع الجيران والحلفاء، حيث استغلت تخفيض مصر لقيمة عملتها، والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها حاليًا، لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة من خلال شراء الأصول بأسعار مخفضة، وهو ما اعتبره المصريون استغلالًا للوضع لجني الأرباح وليس مساعدة لهم، وفق ما ذهبت الصحيفة الأمريكية.
فشل دبلوماسية الزيارات
في الساعات الأولى من فجر الإثنين 3 أبريل/نيسان 2023 أجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، زيارة خاطفة غير معلنة، لمدينة جدة السعودية، حيث التقى ولي العهد وعقدا جلسة ثنائية على مائدة السحور، الزيارة رغم أنها حملت الكثير من العناوين لكن عنوانها الأبرز كان البحث عن المزيد من الدعم السعودي لإنقاذ الاقتصاد المصري من عثراته الحاليّة التي تفاقمت أكثر مع زيادة ثقل الدين الذي وصل لمستويات تاريخية.
الإعلام المصري النخبوي، استبشر خيرًا بتلك الزيارة وتداعياتها على الشأن الداخلي المصري، لا سيما أن بن سلمان كان على رأس مستقبلي السيسي في المطار، فيما تناقلت كاميرات الصحافة العديد من الصور للزعيمين تعكس – أو هكذا تبدو – العلاقات الدافئة بينهما، رغم التوتر التي يخيم على الأجواء منذ أشهر.
وبينما كان السيسي ومعه أنصاره يؤمّلون أنفسهم بنتائج سريعة وعاجلة لتلك الزيارة تتمثل في استثمارات سعودية جديدة في السوق المصري، يبدو أن الأمر لم يأتِ على مستوى الطموحات، حيث فشل الرئيس المصري في تحقيق الهدف الأساسي من تلك الجولة الخاطفة حسبما نقلت “وول ستريت جورنال” عن مصادرها المطلعة.
عدم استجابة المملكة لدبلوماسية الزيارات والاتصالات التي يتبناها السيسي مؤخرًا لتلطيف الأجواء مع الحليف الخليجي تعكس إصرارًا واضحًا لدى القيادة السعودية على المضي قدمًا في إستراتيجية المساعدات المشروطة وتغليب الأرباح على الاستثمارات السياسية، وهو ما قد يُفقد نظام السيسي الداعم الأكبر له خلال السنوات العشر الأخيرة.
سواء رضخت القاهرة للشروط السعودية أم لم ترضخ، وبعيدًا عما إذا أعادت المملكة النظر في إستراتيجية استثماراتها في السوق المصري من عدمه، فإن العلاقات بين البلدين تعرضت لشرخ كبير في جدارها المتماسك منذ سنوات
وبلغ حجم ما قدمته دول الخليج مجتمعة للنظام المصري من 2013 – 2020 قرابة 97 مليار دولار ( للسعودية منها 46 مليار) في صورة ودائع بنكية واستثمارات مباشرة ومساعدات عينية، وفي عام 2022 وجراء تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أودعت الحكومات الخليجية 13 مليار دولار في البنك المركزي المصري ( 5 مليار دولار منهم أودعتها السعودية) لمساعدة القاهرة على النهوض باقتصادها في مواجهة الأزمة العالمية.
لكن الوضع سرعان ما تغير خلال العام الماضي، حيث بدأت المملكة ومعها بعض العواصم الخليجية في إعادة النظر في مساعداتها المقدمة للقاهرة، وربطها بحزم إصلاحية قاسية، تزامن ذلك مع اشتراطات صندوق النقد الدولي للإفراج عن دفعات القرض المقدم للحكومة المصرية والبالغ 3 مليارات دولار، وكان من نتاج ذلك تخلي الرياض عن تعهداتها السابقة بضخ 10 مليار دولار استثمارات في السوق المصري، فيما رفضت الإمارات أن تؤدي دور الضامن لصندق النقد من خلال تحويل نسبة من قيمة القرض الإجمالية إلى مصر في صورة وديعة بالبنك المركزي المصري، بحسب “وول ستريت جورنال”.
وول ستريت جورنال : السيسي حصل من دول الخليج على 97 مليار دولار، واقتصاده الآن في حالة يرثى لها، وزيارته للسعودية كانت للحصول على مزيد من المال، لكنه لم يحصل على شيء، السعوديون والإماراتيون اشترطوا تغيير طاقم إدارة الاقتصاد وتقليص دور الجيش وتخفيض قيمة الجنيه لأن قيمته مبالغ فيها
— جمال سلطان (@GamalSultan1) April 7, 2023
هل أوشك شهر العسل على الانتهاء؟
لا يمكن الحديث عن تلك التطورات الضبابية في مسار العلاقات المصرية السعودية بمعزل عن إرهاصاتها الأولى المندلعة منذ أشهر، حيث السجال الإعلامي الفج بين رموز إعلامية ونخبوية محسوبة على النظامين في القاهرة والرياض، فلم يكن هجوم الكاتب السعودي المقرب من دوائر صنع القرار في المملكة، تركي الحمد، ومن قبله مستشار رئاسة أمن الدولة السعودي، والمقرب من بن سلمان، اللواء بسام عطية، على القاهرة، في مقابل هجوم الإعلاميين المصريين، محمد الباز وعبدالرازق توفيق، المقربين من السلطات المصرية، على الرياض، دون الحصول على ضوء أخضر من السلطات هنا وهناك، وهو ما يؤكد التوتر المكتوم بين البلدين رغم مساعي طمسه وإخفاءه.
وفي تقرير سابق لـ”نون بوست” حدد 3 ملفات رئيسية اعتبرها السبب المحوري وراء التوتر بين القاهرة والرياض، أولها: الاستثمارات السعودية في مصر، التي أثرت بشكل كبير في مستوى العلاقات بين البلدين خلال الأيام الأخيرة، ثانيًا: ملف تيران وصنافير، وهو الملف الأكثر حساسية في مسار العلاقات بين البلدين خلال العامين الماضيين تحديدًا، ثالثًا: المنح والمساعدات السعودية التي حولت المملكة إلى صندوق نقد جديد يملي شروطه على المصريين.
التقرير أرجع إعادة السعودية النظر في إستراتيجية دعمها للنظام المصري اقتصاديًا إلى تراجع حاجتها للقاهرة في المرحلة الحاليّة، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل 5 أو 6 سنوات مثلًا، حين كان ولي العهد في أشد الاحتياج للدعم المصري في مواجهة الضغوط والتحديات التي يواجهها في الداخل والخارج، لكن بعد توسعة النفوذ السعودي والتغيرات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة والتي صبت بطبيعة الحال في صالح المملكة، بجانب سوء إدارة الدولة المصرية وتحولها إلى عبء إضافي على الدولة السعودية، كل ذلك دفع المملكة إلى التزحزح قليلًا عن الدعم المطلق للقاهرة، ما دفع الأخيرة لطرق أبواب الإماراتيين والكويتيين، وفتح قنوات اتصال مع الدوحة وأنقرة، لكن ذلك لم يعوضها عن الحليف السعودي كونه أكبر الداعمين في خارطة الحلفاء والقوى الإقليمية.
فشل زيارة السيسي في تحقيق أهدافها ربما يزيد توتر الأجواء مع الرياض، حتى وإن لم يتم الإعلان عن ذلك بشكل مباشر، ما يفتح الباب لمزيد من الضغوط السعودية التي من المتوقع أن تمارسها على القاهرة لإعادة صنبور الاستثمارات، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب بمنطق برغماتي بحت، وتبقى استجابة الجانب المصري ورضوخه لتلك الإملاءات هي المحدد الأساسي لاستمرار الدعم السعودي من عدمه.
وسواء رضخت القاهرة للشروط السعودية – وهو الاحتمال الأقرب في ظل الأجواء الصعبة التي تواجهها مصر حاليًا – أم لم ترضخ، وبعيدًا عما إذا أعادت المملكة النظر في إستراتيجية استثماراتها في السوق المصري من عدمه، فإن العلاقات بين البلدين تعرضت لشرخ كبير في جدارها المتماسك منذ سنوات، فيما يبدو أن شهر العسل الممتد طيلة عقد كامل يلملم أوراقه، أو على الأقل لم يعد بذات الصفاء المعهود، فما هو قادم لن يكون بأي حال من الأحوال كما كان قبل عامين.