تعرض مطار السليمانية التابع لإقليم كردستان العراق مساء الجمعة، لهجوم صاروخي شنته طائرة تركية مسيرة، ألحق أضرارًا جانبية بالمطار، ووصف الهجوم بأنه محاولة لاستهداف شخصية قيادية في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” كانت موجودة بالمطار.
ورغم أن أغلب الأنباء تحدثت عن أن هذه الشخصية هي “مظلوم عبدي”، وهو ما تم نفيه لاحقًا، فإن أنباء كردية أخرى تحدثت عن أن عبدي اجتمع بشخصيات أمريكية وقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني في مقر مكافحة الإرهاب بالسليمانية، وبعد الاجتماع توجه إلى المطار، وحينها استهدفت طائرة مسيرة موقعًا قريبًا من مكان وجوده.
أثيرت العديد من التكهنات عن طبيعة الشخصية التي حاولت تركيا استهدافها، في تكرار لسيناريو حادثة سقوط طائرتين مروحيتين تتبعان للاتحاد الوطني الكردستاني في محيط محافظة دهوك الشهر الماضي، قتل على إثرها 9 عناصر يتبعون لقوات سوريا الديمقراطية، بسبب سوء الأحوال الجوية كما تم الإعلان عن ذلك، إلا أن هذه الحوادث المتكررة، تكشف من جهة أخرى عن تضامن إقليمي عابر للحدود بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني “اليكتي” وقوات سوريا الديمقراطية، كما أنها تكشف من جهة أخرى عن جانب خفي من هذا التضامن، وهو إيران التي نجحت بتوثيقه خلال الفترة الماضية.
الهجوم على مطار السليمانية جاء بعد تحولات مهمة، أبرزها غلق تركيا للمجال الجوي أمام الرحلات التركية القادمة إلى المطار الأسبوع الماضي
هذه الصورة تكشف بدورها عمق الصراع الجيوسياسي التركي الإيراني في شمال العراق، فقد نجحت كلتا القوتين بنقل الصراع إلى داخل العراق، فتستهدف إيران عبر وكلائها حليف تركيا – الحزب الديمقراطي الكردستاني “البارتي” -، في مقابل ذلك تستهدف تركيا حلفاء إيران – حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية -، ما أدخل العراق في معادلات أمنية صعبة للغاية، ووفر بدوره فرصة لتركيا وإيران ساحة لتصفية الحسابات، وتحويل الأزمات الداخلية لنجاحات خارجية.
يمكن الإشارة هنا إلى أن الهجوم على مطار السليمانية جاء بعد تحولات مهمة، أبرزها غلق تركيا للمجال الجوي أمام الرحلات التركية القادمة إلى المطار الأسبوع الماضي، كما أنه جاء بعد صدور قرار محكمة التجارة الدولية في باريس نهاية الشهر الماضي، الذي فرض على تركيا دفع تعويضات للعراق بقيمة 1.4 مليار دولار، نتيجة تصديرها للنفط القادم من إقليم كردستان العراق دون إذن وزارة النفط العراقية، ما يشير بدروه إلى أن هذا الهجوم كان تحذيريًا أكثر من كونه يسعى لاستهداف شخصية بعينها، كما أنه قد يشكل مدخلًا لإرسال رسائل واضحة لحكومة بغداد، بتعديل شروط التفاوض على إعادة تصدير النفط مرة أخرى عبر الأراضي التركية.
ردود فعل متباينة
أدانت بغداد عملية القصف التركي لمطار السليمانية، ووصفت الحادث بـ”الاعتداءات السافرة”، وتوعد الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد باتخاذ موقف حازم حال تكررت هذه الاعتداءات، وعبرت الرئاسة في بيان عن إدانتها لهذه الاعتداءات على العراق وسيادته، مؤكدة “عدم وجود مبرر قانوني يخول للقوات التركية الاستمرار على نهجها في ترويع المدنيين الآمنين بذريعة وجود قوات مناوئة لها على الأراضي العراقية”.
كما أدانت رئاسة إقليم كردستان العراق الهجوم، وقالت في بيان: “تتكرر العمليات العسكرية التركية على إقليم كردستان، وآخرها قصف مطار السليمانية المدني، وفي هذا الصدد نطالب الحكومة التركية بتحمل المسؤولية وتقديم اعتذار رسمي عن هذه التصرفات، ووقف هذه الاعتداءات، وحل مشكلاتهم الداخلية عن طريق فتح منافذ الحوار مع الأطراف المعنية، وفي حال تكرار هذه الاعتداءات سيكون هناك موقف حازم لمنع تكرارها مستقبلًا”.
وفي هذا السياق أيضًا أدان رئيس تحالف الفتح هادي العامري، القصف الذي تعرض له مطار السليمانية، مطالبًا تركيا “بالكف عن هذه العمليات الاستفزازية”، وقال العامري: “قصف مطار السليمانية المدني غير مبرر تحت أي ذريعة كانت ولا نقبل به”، مضيفًا “نطالب تركيا بالكف عن هذه العمليات الاستفزازية، وإلا سنضطر للذهاب إلى طرق أخرى، وذلك من خلال قطع الاستيراد من تركيا”.
كما أدان قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، السبت، القصف، وقدر في تغريدة أن “الموقف المساند” الذي قدمه الاتحاد الوطني الكردستاني على رأس السليمانية “لأشقائه في سوريا يزعج تركيا”، وقال “سنستمر في علاقاتنا المبدئية مع أشقائنا وحلفائنا في السليمانية، وإننا في صف واحد ضد هذه الانتهاكات”.
تجدر الإشارة إلى أن هذه العلاقة المتينة بدأت منذ مطلع العام الحاليّ عندما زار زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وبلور على إثر ذلك تحالفًا كرديًا بالضد من أربيل، التي يرتبط معها بعلاقات معقدة للغاية.
صراع داخلي بأبعاد إقليمية
وفي إطار ما تقدم، دخلت العلاقة بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في تعقيدات كبيرة، ليس في سياق الهجوم الأخير فحسب، وإنما منذ بدء الخلاف الداخلي داخل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بين بافل طالباني ولاهور شيخ جنكي، إذ وقف الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جانب لاهور ودعم مواقفه السياسية المطالبة بتزعم الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو ما اعتبره طالباني محاولة من الديمقراطي الكردستاني لتنفيذ انقلاب على قيادة الحزب التاريخية، وما عمق من هذه الأزمة الخلاف على قضايا أخرى، أبرزها كركوك والإدارة المشتركة لإقليم كرستان العراق.
وفيما يتعلق بالهجوم الأخير، ينظر الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تحركات بافل طالباني ومحاولة تشكيله تحالف كردي عابر للحدود، على أنها تأتي في سياق احتواء تحركات الحزب، فقد نجح طالباني وعبر علاقته الجيدة مع عبدي، في تشكيل محور كردي مضاد لأربيل، وأصبحت أربيل محاطة من الشرق والغرب، بل يمكن أن تؤدي هذه العلاقة إلى تهديد سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني على بعض مناطق الإقليم، خصوصًا أن الاجتماع الأخير الذي عقد في مطار السليمانية كان يحظى برعاية أمريكية واضحة، وهو ما قد يعيد بدوره تشكيل المعادلة السياسية في الإقليم مستقبلًا.
الدور التركي والإيراني، ورعاية كل منهما لطرف كردي، عقد المشهد السياسي في الإقليم، وامتداد ذلك للعلاقة مع بغداد أيضًا
ما يؤكد عمق الأزمة بين الطرفين، صدور تصريحات متبادلة بين قيادة الحزبين إثر الهجوم الأخير، يتهم كل منهما الآخر بالتسبب به، إذ رد المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان العراق جوتيار عادل على نائب رئيس حكومة الإقليم قوباد طالباني، وقال عادل في بيان له: “حكومة إقليم كردستان قلقة بشأن الأوضاع في جميع مناطق الإقليم، ونبذل قصارى جهدنا للقضاء على آثار الإدارتين، ونكون قادرين على خدمة جميع مواطنينا دون عقبات أو تمييز”، وأضاف “لكن الجهة السياسية التي يمثلها السيد قوباد طالباني تعرقل عمل الحكومة ومؤسساتها، وجعلت الحكومة في السليمانية تحت سيطرة أجندة حزبه، لذلك فإن مواطني المنطقة في وضع سيئ”.
إجملًا لم تكن الخلافات الداخلية وحدها من لعب دورًا في تعقيد العلاقة بين الحزبين الكرديين، بل إن الدور التركي والإيراني، ورعاية كل منهما لطرف كردي، عقد المشهد السياسي في الإقليم، وامتداد ذلك للعلاقة مع بغداد أيضًا، إذ أظهرت الطموحات الاقتصادية للحزب الديمقراطي الكردستاني، بتحقيق استقلال نفطي وطاقوي عن بغداد، والتمتع بحرية تصدير النفط إلى تركيا، معارضة إيرانية واضحة، وهو ما عرض بدوره العديد من الحقول النفطية التابعة للإقليم لهجمات صاروخية من جماعات وكيلة لإيران، ما يجعل المشهد السياسي في إقليم كردستان العراق يحمل درجة كبيرة من عدم اليقين بمستقبله، في ظل الأزمة الداخلية وضعف الحكومة المركزية واندفاع تركي إيراني واضح للعيان.