ترجمة وتحرير: نون بوست
في 27 آذار/ مارس 2007، بعد حوالي 450 سنة من رعاية إليزابيث الأولى لبعثات العبيد لجون هوكينز إلى غرب إفريقيا، زارت إليزابيث الثانية كنيسة وستمنستر للاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لإلغاء بريطانيا لتجارة الرق. ألقى رئيس أساقفة كانتربري روان ويليامز خطبة ركزت على إرث العبودية “المستمرة بشكل بشع” قائلًا “علينا، نحن ورثة الدول الراعية للعبودية وتجارة الرق في الماضي، مواجهة حقيقة أن جزءًا كبيرًا من ازدهارنا التاريخي بُني على هذه الفظائع”.
بعد لحظات، اندفع متظاهر أسود أمام المحراب مقاطعًا الخطبة بهتافات تقول “هذه إهانة لنا”. راقبت الملكة إليزابيث ما يحدث بصمت بينما حاول حراس الأمن طرد هذا المتظاهر المدعو تويين أغبيتو، وهو مؤسس منظمة “ليغالي” الأفريقية لحقوق الإنسان. وأثناء محاولة طرده بالقوة، أشار أغبيتو إلى الملكة صارخًا “أنتِ، الملكة، يجب أن تخجلي من نفسك، يجب أن تعتذري”. والتزامًا بالبروتوكول الخاص بها وبروتوكول إليزابيث الأولى “أشاهد وألتزم الصمت”، لم تقل الملكة إليزابيث شيئًا.
خارج كنيسة وستمنستر، أخبر أغبيتو الصحافة أن النظام الملكي البريطاني قد تأخر كثيرًا في طلب الاعتذار موضحًا “يجب أن تقدم الملكة اعتذارًا. لقد كانت إليزابيث الأولى مسؤولة عن الأمر. فهي من أمرت جون هوكينز بأخذ سفينته. لقد شجعت العائلة المالكة والحكومة والكنيسة على هذا الأمر”.
في ذلك الوقت، استبعد المعلقون بأغلبية ساحقة أغبيتو ووصفوه بأنه “مجنون” رغم الدعوات السابقة لتدارك الظلم التاريخي للعبودية. لكن الإطلاق الرسمي للجنة تعويض الكاريكوم في سنة 2014، واحتجاجات حركة “حياة السود مهمة” التي اجتاحت المملكة المتحدة في سنة 2020، والدعوات المتزايدة في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي لقطع العلاقات مع الملكية البريطانية والضغط من أجل تقديم التعويضات في أعقاب وفاة الملكة، تقدم دليلًا صارخًا على أن أغبيتو لم يكن المنادي الوحيد في كنيسة وستمنستر بضرورة الاعتذار عن أهوال العبودية. في الواقع، طالب الأشخاص المنحدرون من أصل أفريقي باتخاذ إجراءات وإخضاع بريطانيا ونظامها الملكي للمساءلة.
تتكرّر أهوال العبودية اللاإنسانية حتى في الأرشيف
في كتابه “الأفكار والمشاعر حول شر العبودية (1787)، حذّر أوتوبا كوغوانو، مؤيد إلغاء العبودية، الجمهور البريطاني وجورج الثالث قائلا: “يجب أن يتردد صوت شكوانا في آذانكم بينما تتلاطم الأمواج حول الشواطئ المحيطة بدولتكم. وإذا لم يؤثر فيكم، فقد يعلو هذا الصوت ليصبح مثل هزيم الرعد”. وقد وافقت ماري برنس، أول امرأة سوداء تنشر رواية عن استعبادها في بريطانيا سنة 1831، على مشاركة قصة حياتها المروعة للتأكد من “أن يسمع الناس الطيبون في إنجلترا ما شعر به العبيد وعانوا منه”.
في ذلك الوقت وحتى الآن، من النادر أن يستمع البريطانيون إلى أصوات العبيد. فلم يتم تصميم نظام العبيد عبر المحيط الأطلسي الذي شيّأ الأسرى، وحوّل الأفارقة وأحفادهم إلى ملكية بشرية، لتوثيق تجاربهم أو وجهات نظرهم. لقد كان هدفه الوحيد جني الأرباح لمشغليه. وعلى حد تعبير الروائي البريطاني-الكيتي كاريل فيليبس في كتابه “الصوت الأطلسي“، فقد “تم نقلك في قارب خشبي عبر البحر إلى مكان عُقد فيه لسانك”.
يمتد هذا الصمت الإجباري إلى أرشيف العبودية. فعلى الرغم من أن الأرشيف مليء بالقصص إلا أن الأصوات التي يمثلها قليلة ومجزأة ناهيك عن كونها بعيدة كل البعد عن الحيادية، وتمثّل في معظم الحالات أصوات المستعبِدين الذين لا تزال وجهات نظرهم وروياتهم للأحداث تؤثر على القراء المستقبليين. وعلى حد تعبير المؤرخ الهايتي ميشيل رولف ترويلوت “فإن القوة تاريخيًا تبدأ من المصدر”.
إنها تبدأ من الدفاتر التي بقيت، وسجلات السفن، وسجلات شركات تجارة الرقيق، ودفاتر حسابات المزارع التي تصنف المواليد والوفيات، وفي مجلدات مراسلات الدولة بين المسؤولين البريطانيين والإداريين الاستعماريين المحفوظة في أرفف الأرشيف. من خلال هذه المخطوطات، يُمكن للمؤرخين الوصول إلى السجلات المؤسسية لنظام العبيد في المحيط الأطلسي ولكن نادرًا ما يجدون مصادر تتعلق بالمستعبَدين.
تتكرّر أهوال العبودية اللاإنسانية حتى في الأرشيف. وقد جادلت المؤرخة ماريسا فوينتس بأن “تشيئة المستعبَدين سمحت للسلطات باختزالهم إلى مجرد سلع ذات قيمة تُباع وتُشترى لتحقيق الربح وإنماء الثروة وتوريثها. هذه التشيئة جعلت صدى العنف واضحًا في الأرشيف”. يمكن رؤية كيفية اختزال الأفارقة في سلع في وثيقة أرشيفية شاركتُها مع صحيفة “الغارديان” تعود لسنة 1689 تُوضّح تحويل ألف جنيه إسترليني من أسهم الشركة الملكية الأفريقية لتجارة الرقيق إلى الملك ويليام الثالث من قبل إدوارد كولستون، نائب مدير الشركة وأحد رموز تجارة العبيد.
إنصافًا الحقيقة، يجب على مؤرخي العبودية التعامل مع الطبيعة الإشكالية للأرشيف. لكن القيود المفروضة على الأرشيف لا تفسّر سبب عدم اعتذار الملكية البريطانية عن صلاتها التاريخية بالعبودية – خاصة مع اقتراب تتويج الملك تشارلز الثالث. ومع أن الأثر الورقي لتورط الملكية البريطانية في العبودية غير مكتمل إلا أنه واسع النطاق. وحسب ما قالته المؤرخة سعيدية هارتمان في كتابها “خسارة الأم” فإن “المال يتضاعف إذا كان يغذّيه دم الإنسان”. ولا جدال في أن الملوك البريطانيين وأفراد العائلة المالكة استثمروا واستفادوا من تجارة الرقيق والعبودية عبر المحيط الأطلسي.
مع ذلك، إذا سمعنا أي شيء عن دور بريطانيا أو التاج البريطاني في استعباد وموت ملايين الأفارقة فإن التركيز دائمًا ما ينصب على إلغاء العبودية وليس التورط فيها. إن إعادة كتابة التاريخ المتعمّدة هذه وهذا النسيان المغرض يردّد صدى رواية انتصار للتقدم الوطني بدأها منذ أكثر من قرنين المدافع عن إلغاء الرق الشهير توماس كلاركسون. وفي حديثه عن التأييد الشعبي لإلغاء الرق في سنة 1808، قال كلاركسون “أشعر بسعادة عارمة. لقد ابتهجت به لأنه دليل على حسن التصرف العام لأبناء وطني”.
ساهم إصدار تشريع لإلغاء تجارة الرقيق في سنة 1807 ثم إلغاء العبودية نفسها في سنة 1833 (بعد فترة من “التدريب” الإجباري) قبل عقود من إلغائها في الولايات المتحدة في إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية لبريطانيا، ليتم استبدال دور البلاد المركزي ودور النظام الملكي في توسيع تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي وأهوال العبودية بتاريخ وطني احتفالي يركز على القناعة المسيحية لدعاة إلغاء العبودية البيض في بريطانيا.
يزخر أرشيف العبودية بالأدلة على تورط العائلة الملكية فيما وصفته الأمم المتحدة بأنه “أعظم جريمة ضد الإنسانية” في العصر الحديث
قدّمت بريطانيا نفسها للعالم على أنها دولة ألغت العبودية منذ سنة 1807 وحاولت إقناع نفسها بأنها أمة حررت العبيد ورفضت العبودية البشرية ودافعت عن حقوق العبيد السابقين وأحفادهم باعتبارهم رعايا متساوين. ووفقًا لهذه الرواية الوطنية، فإنه على الرغم من أن العبودية مثلت “وصمة عار في تاريخ أوروبا المتحضرة” – على حد تعبير الأمير ألبرت في سنة 1840 – كانت بريطانيا هي التي قادت الطريق نحو القضاء عليها.
لكن هذه الرواية من التاريخ البريطاني ليست سوى أسطورة وطنية مشوشة تمجّد نفسها بنفسها، وهي أسطورة لا تقل تضليلًا عن أسطورة الاستثنائية الأمريكية. فتاريخ العبودية عبر المحيط الأطلسي قصة مشتركة بين التاريخ البريطاني والأمريكي. ومع أنها منفصلة إلا أن خيوطها المتشابكة تنسج نفس الحكاية الدنيئة، ما يعني أنه لا يمكن فهم إحداهما بالكامل دون الأخرى.
أكدت المؤرخة كاثرين هول، رئيسة مشروع إرث العبودية البريطانية في جامعة لندن، أن “أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الغنية في الغرب قد تمتعوا جميعًا إلى حد كبير وإن كان بشكل غير متساوٍ بثمار الرأسمالية العرقية. نحن جميعًا ناجون من العبودية وليس فقط أولئك الذين يمكنهم تتبع شجرة أنسابهم بشكل مباشر”.
يزخر أرشيف العبودية بالأدلة على تورط العائلة الملكية فيما وصفته الأمم المتحدة بأنه “أعظم جريمة ضد الإنسانية” في العصر الحديث. ومن جهته، تحدث الملك تشارلز لأول مرة عن دعمه إجراء بحث مدقق في الروابط التاريخية للنظام الملكي البريطاني مع نظام العبودية عبر الأطلسي، ولكن يجب فعل المزيد للاستماع والاستجابة لأحفاد المستعبَدين.
المصدر: صحيفة الغارديان