تمارس البرلمانات في الأنظمة الديمقراطية وظيفتين أساسيتين هما التشريع والرقابة على السلطات التنفيذية، لكن الوضع يختلف في منطقتنا العربية، فوظيفة أغلب المجالس تقتصر على سن قوانين تخدم السلطة، رغم أن الدستور يمنحها اختصاصات رقابية أيضًا.
في هذا التقرير لنون بوست، سنرصد أبرز التجارب البرلمانية في الوطن العربي، مع التركيز على تاريخ كل تجربة وأبرز المحطات التي مرت بها، دون أن ننسى الحديث عن اختصاصاتها الدستورية وما تطبقه على أرض الواقع.
تجربة برلمانية مهمة في الكويت
تعيش الكويت انسدادًا سياسيًا وصراعًا بين برلمانين: الأول تشكل سنة 2020 والثاني في 2022، وكل واحد منهما يدعي الشرعية، فالأول يحظى بشرعية قرار المحكمة الدستورية بعودته، وبطلان وجود الثاني الذي تشكل بقرار أميري بعد حل البرلمان القديم، هذه الحادثة تدعونا لتسليط الضوء على البرلمان الكويتي، ومعرفة أبرز محطاته.
يعود تأسيس مجلس الأمة الكويتي إلى 23 يناير/كانون الثاني 1963، لتشكل الكويت بذلك حالة فريدة من نوعها في محيط مجلس التعاون الخليجي، إذ سبقت باقي دول المجلس في تبني نظام برلماني، ما مكن هذا البلد الخليجي من تبوء مراتب متقدمة عربيًا في مؤشر حالة الديمقراطية.
يتكون المجلس حاليًّا من 50 عضوًا يختارهم الشعب من خلال الانتخاب العام السري المباشر، فضلًا عن وزراء الحكومة الذين يشترط الدستور ألا يزيد عددهم على ثلث إجمالي الأعضاء (أي 16 وزيرًا)، وبإمكان الحكومة اختيار عضو برلماني أو أكثر لمنصب وزير، فيكون في هذه الحالة وزيرًا في السلطة التنفيذية ونائبًا في السلطة التشريعية، ويسمى “الوزير المحلل”.
يتمتع المجلس بنفوذ قوي، إذ يخول له الدستور استجواب رئيس الحكومة والوزراء، فضلًا عن التصويت على حجب الثقة، وعرفت أروقة البرلمان العديد من الاستجوابات كان أولها استجواب وزير الشؤون الاجتماعية والعمل عبد الله مشاري في يونيو/حزيران 1963، فيما كان مجلس 2009 هو أول مجلس يطلب استجواب رئيس الوزراء.
يعتبر غياب الأحزاب السياسية في الكويت وبقاء السلطة التنفيذية تحت رئاسة عضو من الأسرة الحاكمة، أحد أبرز أسباب تواصل الانسداد السياسي في البلاد
إضافة إلى ذلك، عرف المجلس خلال هذه العقود الست محطات كثيرة وأحداثًا بارزة أدت إلى حله في عدة فصول تشريعية، آخرها مجلس 2022 الذي صدر قرار بحله، كما أسفر بعضها عن استقالة مجموعة من النواب.
حمل مجلس 1963 البداية الأولى للحياة البرلمانية في هذه الدولة النفطية، ومعه دشنت الكويت حكاية استقالة النواب، حيث شهد ذلك المجلس استقالة 8 نواب، احتجاجًا على إقرار قوانين مقيدة للحريات، وفق النواب المستقلين.
تكرر الأمر نفسه في برلمان 1967، إذ استقال 7 نواب اعتراضًا على اتهاماتهم بـ”تزوير الانتخابات”، وفي سنة 2014 استقال خمسة نواب، بعد أن رفض البرلمان استجواب رئيس الوزراء جابر مبارك الصباح بشأن مزاعم عن فساد وسوء إدارة، وفي سنة 2021 استقال نائب.
فضلًا عن تكرر الاستقالات، شهدت الكويت حل البرلمان في 10 مرات من جملة 16 برلمانًا – أي أكثر من النصف – وقد اختلفت أسباب الحل في كل مرة من المرات العشرة، لكنها غالبًا ما ترجع إلى خلافات بين المجلس والحكومة تؤدي في أغلب الأحيان إلى تأزم العلاقة بين الطرفين.
مثلًا، تم حل مجلس 1975 بأمر أميري عام 1976 بعد أن قدمت الحكومة استقالتها على خلفية ما اعتبرته تعطيلًا من المجلس للعديد من مشروعات القوانين، وفي عام 1986، حُل المجلس بعد ما عرف بـ”أزمة المناخ”، بعد انهيار سوق المناخ غير الرسمي للأوراق المالية، وما تلا ذلك من استجوابات للمسؤولين أدت إلى استحالة التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
أما في الحالات الثماني المتبقية (أعوام 1999، 2006، 2008، 2009، 2011، 2012، 2016، 2022)، فقد تم الحل المجلس بمرسوم أميري وفقًا للمادة 107 من الدستور التي تنص على وجوب إجراء انتخابات في ميعاد لا يجاوز الشهرين.
هذا التأرجح بين الاستقالات وحل البرلمان وإقالة الحكومة، يؤكد وجود خلل في منظومة الحكم بالكويت، وفي العلاقة بين البرلمان والحكومة والعائلة الحاكمة، ما يقتضي ضرورة إعادة النظر في القواعد والقوانين واللوائح التي تحدد عمل البرلمان وشكل العلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية.
نتيجة هذا الصراع بين السلطة التنفيذية والتشريعية، تعطلت العديد من المشاريع التنموية في البلاد، كما تعطلت جهود الإصلاح المالي والاقتصادي وتواصل اعتماد الدولة على النفط في تمويل نحو 90% من ميزانيتها، في وقت عرفت فيه الدول المجاورة انفتاحًا على مجالات أخرى لتنويع اقتصادها.
وغالبًا ما يتهم نواب المجلس حكومة بلادهم بمحاولة تجاوز الدستور أو إلغاء الحياة البرلمانية، فيما تتهم الحكومة النواب بتعطيل التشريعات التي تعود بالنفع على المواطنين، فتكون النتيجة إما حل المجلس وإما استقالة الحكومة، وفي كلتا الحالتين تتعطل الحياة البرلمانية ويتعطل عمل الحكومة.
ويعتبر غياب الأحزاب السياسية في الكويت وبقاء السلطة التنفيذية تحت رئاسة عضو من الأسرة الحاكمة، أحد أبرز أسباب تواصل الانسداد السياسي في البلاد، ففي غياب الأحزاب لا يمكن أن نتكلم عن ديمقراطية مكتملة.
عودة إلى تاريخ المجلس، نرى أن العمل النيابي في الكويت انقطع لمدة 6 سنوات، نتيجة الغزو العراقي للبلاد في تسعينيات القرن الماضي، ومن المحطات المهمة للمجلس، موافقته على إعطاء المرأة حقها في الترشح والانتخاب سنة 2005.
بعد القضاء على الثورة البحرينية، حافظ البرلمان على وجوده، لكن دوره تقلص أكثر وأصبح هامشيًا والكلمة الأخيرة للأسرة الحاكمة
يعتبر مجلس 2008 أول مجلس تجري انتخابات أعضائه وفق نظام الدوائر الخمسة، فيما تميز مجلس 2012، بأنه أول برلمان يُنتخب أعضاؤه بنظام الصوت الواحد بعد إصدار مرسوم بضرورة تعديل قانون الانتخاب، أما مجلس 2013، فهو أول مجلس بعد تحصين المحكمة الدستورية لمرسوم الصوت الواحد.
ويذكر التاريخ، اقتحام البرلمان الكويتي في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، من متظاهرين رفقة نواب معارضين للمطالبة باستقالة رئيس مجلس الوزراء حينها ناصر المحمد الصباح بسبب وجود شبهات فساد حوله، ما دفع الصباح إلى الاستقالة من منصبه، وصدر على إثر ذلك مرسوم أميري بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة.
رغم كل هذه الصراعات والأزمات داخل البرلمان الكويتي، تبقى تجربة الكويت البرلمانية فريدة ومميزة، ذلك أن الكويت هي الدولة الوحيدة في محيطها الخليجي التي يستطيع برلمانها أن يسحب الثقة من الحكومة ويستجوب الوزراء ويعترض على القوانين.
البحرين.. تجربة برلمانية بدأت مبكرًا وتوقفت في مراحل عدة
نبقى في منطقة الخليج، إذ تبرز تجربة برلمانية أخرى في دولة البحرين من المهم الحديث عنها. تجربة بدأت إرهاصاتها مبكرًا تحديدًا في ثلاثينيات القرن العشرين، حين ظهرت مطالب شعبية متكررة بإقامة مجلس شورى للبلاد يحد من التدخل البريطاني في إدارة شؤونها.
تجددت هذه المطالب سنة 1938، وفي منتصف الخمسينيات توحدت مختلف التيارات السياسية بالبحرين في ظل هيئة موحدة أطلق عليها “الهيئة التنفيذية العليا” التي غيرت اسمها لاحقًا إلى “هيئة الاتحاد الوطني” بعد أن تم الاعتراف بها من الحكومة كحركة سياسية، وطالبت بالعديد من القضايا أهمها إنشاء مجلس تشريعي وسن دستور للبلاد.
لكن البداية الحقيقية للعمل البرلماني في البلاد، كانت عقب الاستقلال من الاحتلال البريطاني مباشرة، إذ أصدر الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة مرسومًا بقانون رقم (12) لسنة 1972 بشأن إنشاء مجلس تأسيسي لإعداد دستور للدولة، وهي إحدى أبرز الخطوات نحو إرساء دعائم حكم ديمقراطي في البحرين.
وجاء في مقدمة المرسوم أنه “رغبة منا في إرساء الحكم في البلاد على أسس قويمة من الديمقراطية والعدل، وفي ظل نظام دستوري برلماني يوطد حكم الشورى ويتفق مع ظروف البلاد وتراثها العربي والإسلامي، وبناء على ما عرضه مجلس الوزراء وبعد موافقة مجلس الوزراء رسمنا بالقانون الآتي.. المادة الأولى.. ينشأ مجلس تأسيسي لوضع مشروع دستور للبلاد”.
انتخب البحرينيون 22 عضوًا للمجلس التأسيسي المكلف بوضع الدستور، وعين الأمير 8 أعضاء وانضم إليهم 12 وزيرًا بحكم مناصبهم (الأغلبية للمنتخبين)، وانعقدت الجلسة الأولى لهذا المجلس يوم 16 ديسمبر/كانون الأول 1972.
أقر المجلس التأسيسي يوم 9 يونيو/حزيران 1973 دستور دولة البحرين، ورفع المجلس الدستور الجديد للأمير فصادق عليه وأصدره يوم 6 ديسمبر/كانون الأول 1973 وتم نشره في الجريدة الرسمية واشتمل على 109 مواد.
أولى ثمرات الدستور، انتخاب مجلس وطني يتمتع بصلاحيات تشريعية ورقابية أصيلة، وكان أغلبية أعضائه (74% تقريبًا) نوابًا للشعب منتخبين في حين كان يمثل الأعضاء المعينين بحكم مناصبهم – وهم الوزراء – ما نسبته 26% تقريبًا من أعضاء المجلس، غير أن هذه التجربة لم يقدر لها أن تتواصل كثيرًا.
بعد سنتين فقط، تم حل المجلس الوطني بأمر أميري دون إبداء أسباب، ما مثل انتكاسة للتجربة البرلمانية البحرينية، وأرجع بعض المتابعين للشأن البحريني آنذاك قرار الأمير إلى خشيته من تعرض بلاده إلى فتنة داخلية نتيجة الانقسامات المذهبية.
قُبرت التجربة البرلمانية الأولى في البحرين بسرعة، وتوقف العمل البرلماني في البلاد لقرابة 3 عقود، خلالها تكررت المطالب الشعبية بعودة البرلمان، لكن إجابة النظام تراوحت بين الرفض والمراوغة، ففي سنة 1992، أصدر الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان أمرًا أميريًا رقم (9) لسنة 1992 بإنشاء مجلس شورى معين، وهو ما زاد من احتقان الوضع أكثر.
غلبت مظاهر “التصفيق” و”التملق” على البرلمان السوري في السنوات الأخيرة، إذ لا مكانة له ولا دور غير التصفيق لممثلي حكومة نظام بشار الأسد
شهدت سنة 2002، عودة الحياة البرلمانية في البلاد، وسبقها إقرار العديد من القوانين والإصلاحات المهمة التي مهدت لهذا الأمر، منها إقرار “ميثاق العمل الوطني” و”العفو العام” والسماح بتأسيس نقابات عملية ومنح العمال حق الإضراب، والموافقة على تأسيس جمعيات سياسية ونسائية واجتماعية في البلاد.
وفي 14 فبراير/شباط 2002، صدر دستور جديد في البحرين نقل البلاد من إمارة إلى ملكية دستورية ذات نظام برلماني، ونص الدستور الجديد على إعادة تأسيس نظام برلماني في البحرين، وأقر مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية في الحكومة.
يعتبر مجلس النواب وفق الدستور الجديد (يتكون من 40 نائبًا منتخبًا)، أحد جناحي السلطة التشريعية في البحرين والمكونة من مجلسي الشورى والنواب وله أن يقترح القوانين ويشرعها، فضلًا عن استجواب الوزراء وسحب الثقة منهم وتشكيل لجان تحقيق وتقديم الاقتراحات بشأن تعديل الدستور.
أعادت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2002 إحياء البرلمان البحريني بعد تعليقه طيلة 27 سنة، لكن مهمة النواب لم تكن سهلة، فأغلب الصلاحيات لم تُفعل، كما كانت هناك بعض القيود في الدستور، فمثلًا يمكن للنواب وفق الدستور إعداد اقتراحات لمشاريع قوانين، لكن الحكومة وحدها تستطيع طرح مشاريع القوانين للتصويت، وأن للملك الكلمة الفصل في أي خلاف تشريعي.
جعلت هذه القيود الدستورية عمل النواب صعبًا، كما برزت من حين لآخر تهديدات حكومية غير مباشرة بـ”إنهاء التجربة الديمقراطية” في البلاد، ما عرقل عمل النواب أكثر وجعل دورهم في أغلب الأحيان هامشيًا دون تأثير يُذكر.
سنة 2004، حاول المجلس الاضطلاع بمهمته الرقابية، واستدعى 3 وزراء لمساءلتهم في علاقة بقضية صندوقي تقاعد تديرهما الحكومة، لكن ضغوطات هذه الأخيرة وإغراءاتها جعلت النواب يقصرون الأمر على بعض الأسئلة للوزراء دون التصويت على سحب الثقة منهم، رغم أن لجنة برلمانية قدمت تقريرًا مؤلفًا من 1200 صفحة إلى مجلس النواب تشرح فيه بالتفصيل سوء الإدارة والفساد المتفشي بين كبار مسؤولي الصندوقين.
صحيح أن مساءلة هؤلاء الوزراء كانت شكلية في أغلبها، لكنها كانت ذات أهمية تاريخية كبرى لأنها ساعدت، على حد قول أحد النواب، على “إرساء تقاليد برلمانية من دون إفساد العلاقات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية”.
بقيت الحياة البرلمانية على هذه الشاكلة إلى حدود سنة 2011، حين تأثرت المعارضة بالثورات في العالم العربي، ما دفعها للمطالبة بمزيد من الإصلاحات السياسية وتحويل البحرين إلى مملكة دستورية بشكل فعلي.
شهدت البلاد في فبراير/شباط 2011 ثورة سميت “ثورة اللؤلؤ” متأثرة بثورة الياسمين في تونس والثورة المصرية، لكن تم إجهاضها باستخدام القوة العسكرية البحرينية وقوات درع الجزيرة، وأعقب ذلك تراجع مستوى الحريات وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
بعد القضاء على الثورة، حافظ البرلمان على وجوده، لكن دوره تقلص أكثر وأصبح هامشيًا والكلمة الأخيرة للأسرة الحاكمة، حتى إنها غيرت تقسيم المناطق الانتخابية لضمان عدم وصول المعارضين للبرلمان، وسنت قانون العزل السياسي، واستخدمت “سلسلة من التكتيكات الأخرى لإبقاء النشطاء وأعضاء أحزاب المعارضة السابقين خارج المناصب العامة وغيرها من جوانب الحياة العامة”، وفق هيومن رايتس ووتش.
البرلمان السوري.. من النفوذ الفعلي إلى “التصفيق”
غلبت مظاهر “التصفيق” و”التملق” على البرلمان السوري في السنوات الأخيرة، إذ لا مكانة له ولا دور غير التصفيق لممثلي حكومة نظام بشار الأسد، لكن من المهم التأكيد على أن البرلمان في سوريا كان له دور كبير في استقلال البلاد وبناء الدولة.
تعود أولى الممارسات البرلمانية في سوريا إلى سنة 1919، ففي 19 يونيو/حزيران من تلك السنة انعقدت أول سلطة تشريعية في البلاد، وهي المؤتمر السوري العام المكون من 85 عضوًا، ومن أبرز القرارات التي اتخذها هذا المجلس إعلان استقلال سوريا في 8 مارس/آذار 1920، وتتويج فيصل بن الحسين ملكًا عليها، لكن الحلفاء رفضوا الاعتراف بالاستقلال، ومن ثم أفضت معركة ميسلون إلى حل المملكة، والمؤتمر العام في يوليو/تموز 1920.
خلال فترة الانتداب الفرنسي، تشكلت العديد من المجالس النيابية، أغلبها تم تعيين أعضائها، ورغم محاولة المندوب الفرنسي السيطرة على عمل المجلس، فإن النواب انتزعوا العديد من الصلاحيات المهمة من ذلك صياغة مشروع دستور جديد سنة 1929.
مع سيطرة حزب البعث على السلطة، تم حل البرلمان وتولى مجلس قيادة الثورة مهام السلطة التشريعية في سوريا
تمكنت المجالس النيابية المشكلة بناءً على هذا الدستور، من تحقيق خطوات استقلالية في البلاد، كعدم طلب موافقة المندوب الفرنسي على التشريعات النافذة منذ 1941، ورفض المصادقة على معاهدة الصداقة والتحالف مع فرنسا “لمساسها بحقوق الأمة”.
يذكر التاريخ حادثة تدمير البرلمان في 29 مايو/أيار 1945، ففي ذلك اليوم أمرت قوات السنغال التابعة لجيش الشرق الفرنسي، حرس المجلس النيابي أن يُنزلوا العلم السوري ويرفعوا العلم الفرنسي، فرفض الجنود السوريون فعل ذلك، فرد السنغاليون بإطلاق النار عليهم وقتلوا 29 منهم ومن ثم اقتحموا مبنى البرلمان وعاثوا فيه فسادًا.
بعد الاستقلال، حاول البرلمان تسيير البلاد، لكنه دخل في صراع مع العسكر، وهو ما بدأ بانقلاب مارس/آذار 1949 بقيادة حسني الزعيم، ردًا على الانتقادات اللاذعة التي وجهت للجيش وقياداته من البرلمان في جلسة مغلقة لمناقشة السياسة العسكرية ومسؤولية الهزيمة في حرب فلسطين.
من سنة 1949 إلى 1963 – تاريخ انقلاب اللجنة العسكرية في حزب البعث على القيادة المدنية في البلاد – عرفت سوريا انقلابات عديدة، في بعضها تم تقليص نفوذ البرلمان وبعضها الآخر تم منحه صلاحيات أكبر، وتراوح نظام الحكم بين الجمهوري الرئاسي والبرلماني.
مع سيطرة حزب البعث على السلطة، تم حل البرلمان وتولى مجلس قيادة الثورة مهام السلطة التشريعية في سوريا، وفي الفترات التي أحدث فيها برلمان، كان بالتعيين من السلطة التنفيذية لا بالانتخاب، ما أدى إلى تراجع دور المجلس النيابي.
سنة 1973، أعيدت الانتخابات، لكن ألغيت التعددية السياسية عبر حصرها بالجبهة الوطنية التقدمية – التي يقودها حزب البعث – التي فازت في جميع الانتخابات الـ17 التالية، وحتى انتخابات 2012 لم تدخل أي كتلة غير جبهوية للمجلس، بينما في انتخابات 2012 دخلت كتلة صغيرة من خمسة نواب لكسر احتكار الجبهة.
منذ احتكار حزب البعث للسلطة، تراجع دور مجلس الشعب، من حيث الصلاحيات، كما من حيث التطبيق في الحياة السياسية السورية، ففي كل انتخابات تكون النتائج معروفة مسبقًا، وتدعم هذا الأمر عقب اندلاع الثورة سنة 2011.
البرلمان التونسي.. مراحل مهمة في تاريخ البلاد
قبل نحو شهر من الآن، افتتح البرلمان التونسي الجديد جلسته الأولى إثر انعقاده للمرة الأولى بحضور النواب الذين انتخبوا في ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني، بعد تصويت شهد مشاركة منخفضة للغاية بلغت 11%.
برلمان جديد ستكون سلطاته محدودة مقارنة بالبرلمان السابق الذي حله الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو/تموز عام 2021 بموجب مرسوم وصفته أغلب القوى السياسية في البلاد “بالانقلاب”، لكن لو نعود قليلًا إلى الوراء للتعرف على تاريخ العمل البرلماني في تونس.
يرجع إنشاء أول برلمان تونسي حديث إلى منتصف القرن التاسع عشر (1861) تاريخ إنشاء محمد الصادق باي للمجلس الأكبر الذي كان يضم 60 شخصية يعينهم الباي، ومن مهامه وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الموازنات ومراقبة الوزراء ودراسة مشروع الميزانية بطلب من الملك، إلا أن هذه المؤسسة لم تعمر طويلًا، فقد وقع حلها بعد ثورة علي بن غذاهم سنة 1864.
بعد سنة 2011، عرف البرلمان التونسي تغيرات كبرى، إذ لم تعد وظيفته صورية وأصبحت أغلب السلطات عنده
خلال الاحتلال الفرنسي، نادى التونسيون بضرورة بعث برلمان وطني يتمتع بصلاحيات التشريع بوصفه خطوة نحو الاستقلال، وقد استشهد خلال تلك المظاهرات 22 مناضلًا وطنيًا برصاص الاحتلال الفرنسي، وبعد الاستقلال دأبت الدولة التونسية على إحياء هذه الذكرى بعنوان “عيد الشهداء” كل يوم 9 أبريل/نيسان من كل سنة.
بعد الاستقلال سنة 1956 أحدث المجلس القومي التأسيسي بناءً على أمر من محمد الأمين باي، وأعلن المجلس النظام الجمهوري وقام بإصدار أول دستور للجمهورية التونسية سنة 1959، وبعدها تم إحداث مجلس الأمة الذي بقي المجلس الوحيد للسلطة التشريعية إلى سنة 2002 تاريخ قرار بعث غرفة عليا بعد المصادقة عليها إثر استفتاء مايو/أيار 2002.
خلال حكم الحبيب بورقيبة، لم تتمكن الأحزاب المعارضة من دخول البرلمان التونسي، لأنه عرف تبعية مطلقة للسلطة الحاكمة التي أدارت – من خلال وزارة الداخلية، وعلى امتداد 31 عامًا – الانتخابات التشريعية وفرز الأصوات وإعلان النتائج.
سنة 1987، ومع تسلم زين العابدين بن علي الحكم، بدأت بعض بوادر الانفتاح السياسي تلقي بظلالها على المشهد العام في تونس، وسُمح للمعارضة بالترشح للبرلمان، لكن نظام بورقيبة استنسخ نفسه فتم تزوير انتخابات 1989، ليسيطر نواب حزب التجمع الدستوري الديمقراطي على المجلس من ذلك الوقت إلى سنة 2011.
بذلك كانت مهمة البرلمان زمن بورقيبة وبن علي، صورية، فلا معارضة حقيقية فيه وأغلب نشاطه يرتكز على مباركة قرارات السلطة والمصادقة على مشاريع القوانين التي تخدمها، وتخدم بالأخص العائلات الحاكمة.
تغير الوضع عقب ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، إذ تم حل مجلسي النواب والمستشارين، وعوض مؤقتًا بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ثم تم إجراء انتخابات في أكتوبر/تشرين الأول لانتخاب مجلس تأسيسي.
وتم تنصيب المجلس الوطني التأسيسي الذي قام بالمهام التشريعية لمدة 3 سنوات وأنجز الدستور الجديد للبلاد، ومن ثم سلم العهدة إلى مجلس النواب الشعب في مدته النيابية الأولى عام 2014 ثم الثانية عام 2019.
بعد سنة 2011، عرف البرلمان التونسي تغيرات كبرى، إذ لم تعد وظيفته صورية، وأصبحت أغلب السلطات عنده، فهو من يشرع القوانين والحزب الأغلبي في المجلس يعين رئيس الحكومة والبرلمان من يصادق عليها، وله أن يسحب الثقة منها أو من أي وزير وللمجلس أيضًا مساءلة مسؤولي الدولة، وله أن يسحب الثقة من الرئيس أيضًا.
سيطرت حركة النهضة على أغلب مقاعد البرلمان منذ سنة 2011، وشهد المجلس في عهدها حراكًا كبيرًا، في شكل مغاير لما كان عليه الوضع قبل الثورة، فهو مركز السلطة وأغلب القرارات تصدر منه، فدستور 2014 أقر نظامًا برلمانيًا معدلًا.
لم يستسغ الرئيس قيس سعيد سيطرة البرلمان على مقاليد الحكم في البلاد، فقرر الانقلاب عليه ليلة 25 يوليو/تموز 2021، فعلق أعماله وجمد عضوية جميع النواب ورفع الحصانة عنهم لأول مرة في تاريخ تونس، ليعقب ذلك حله في 30 مارس/آذار 2022.
يُذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها حل البرلمان التونسي، فقد سبق أن تم حله يوم 9 سبتمبر/أيلول 1981، حين أصدر الحبيب بورقيبة القرار الدستوري عدد 81-78 القاضي بحل مجلس النواب المنتخب في 1979، نتيجة سلسلة من الأزمات التي عاشتها البلاد في تلك الفترة.
أما المناسبة الثانية كانت يوم 2 مارس/آذار 1989 حين أعلن زين العابدين بن علي – الذي تولى السلطة في 1987 – حل البرلمان المنتخب في 1986، ودعا إلى انتخابات تشريعية ورئاسية أقيمت في 9 أبريل/نيسان 1989.
البرلمان المصري.. حلم كبير أفسده العسكر
بدأت الحياة البرلمانية في مصر في وقت مبكر في القرن التاسع عشر، في عهد الوالي محمد علي باشا، الذي أنشأ “المجلس العالي” سنة 1824، ثم “مجلس الشورى” سنة 1829 الذي تشكل من 156 عضوًا من كبار الموظفين والعلماء ومأموري الأقاليم وأعيان القطر المصري، لكن دوره اقتصر على إبداء الرأي في المسائل الإدارية العامة من دون إلزام الوالي بتنفيذها.
تعطل هذا المجلس بعد انتهاء حكم محمد علي، وأنشأ بعده الخديوي إسماعيل أول مجلس نيابي في أكتوبر/تشرين الأول 1866 – مجلس شورى النواب – تكون من 76 نائبًا ينتخبهم الشعب من طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية كل ثلاث سنوات، للتعبير عن مصالحهم في مواجهة السلطة التنفيذية، مع ذلك كان رأي هذا المجلس استشاريًا أيضًا وغير إلزامي.
انتظر المصريون حتى سنة 1923، حتى يتمكنوا من رؤية أول مجلس نيابي حقيقي له سلطة مساءلة الحكومة فعليًا، وقد كانت عضوية مجلس النواب بالكامل بالانتخاب، وخلاله ظهرت الأحزاب وسيطر حزب الوفد بزعامة سعد زغلول عليه.
لكن هذا البرلمان لم يدم طويلًا، إذ تم حله بعد حادثة قتل السير “لى ستاك” قائد الجيش المصري نهاية سنة 1924، وقد تتابعت على مصر في الفترة من عام 1923 وحتى سنة 1952 عشر هيئات نيابية، ولم تكمل منها مدتها التشريعية إلا هيئة واحدة فقط.
بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي ومسكه بزمام الأمور في مصر، تشكل برلمان جديد له الحق في تعيين 5% من أعضائه، وعاد البرلمان بذلك لدوره المعهود زمن العسكر
يطلق لقب أقصر برلمان في مصر على البرلمان الثاني، الذي لم تتجاوز مدة انعقاده 8 ساعات فقط، إذ عقد أولى جلساته وآخرها في يوم 23 مارس/آذار 1925، فعندما انتخب الزعيم سعد زغلول رئيسًا للمجلس، قام الملك أحمد فؤاد الأول بإصدار قرار حل البرلمان في نفس يوم انعقاده.
يعود سبب عدم إكمال البرلمانات المصرية في تلك الفترة لمدتها التشريعية إلى الصراع الكبير بينها وبين الاحتلال البريطاني والملك أيضًا، فالبرلمان يُريد ممارسة كل سلطاته التي أقرها دستور 1923، فيما يرفض البريطانيون والملك ذلك.
من أبرز الأحداث التي عرفها البرلمان المصري في تلك الحقبة التاريخية، قتل رئيس الوزراء أحمد ماهر بثلاث رصاصات في البهو الفرعوني للبرلمان يوم 24 فبراير/شباط 1945، وذلك بعد دقائق من إلقائه خطابًا في البرلمان مؤيدًا لدخول مصر الحرب العالمية الثانية إلى جانب الإنجليز.
توقف العمل البرلماني في مصر من سنة 1952، تاريخ استيلاء العسكر على السلطة إلى سنة 1957، حيث شكل في يوليو/تموز من تلك السنة “مجلس الأمة” مكونًا من 350 عضوًا منتخبًا، إلا أنه لم يستمر إلا لأشهر معدودة، وحُل بقيام الوحدة مع سورية، وإلغاء دستور 1956، وصدر دستور مؤقت شُكل على أساسه مجلس أمة مشترك من المعينين (400 عضو من مصر، و200 عضو من سوريا).
في يونيو/حزيران 1961، سقطت الوحدة وصدر دستور مؤقت آخر في مارس/آذار 1964، أُنشئ بموجبه مجلس الأمة من 350 عضوًا منتخبًا، نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين، إضافة إلى عشرة نواب يعينهم رئيس الجمهورية.
استمر الوضع على هذا النحو إلى غاية 1971، تاريخ تولي محمد أنور السادات الحكم، وإصدار “الدستور الدائم” الذي نص على إنشاء مجلس الشعب يتولى سلطة التشريع ويقر السياسة العامة للدولة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.
عُرف هذا المجلس بأنه أول مجلس نيابي في تاريخ مصر يستكمل مدته الدستورية، بمعنى أنه استمر في ممارسة نشاطه لمدة خمس سنوات كاملة، مع ذلك لم تكن له سلطة تذكر، فكل السلطات عند القيادة العسكرية.
عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، توجه أكثر من 30 مليون مصري لانتخاب برلمان جديد، يُمارسون من خلاله السلطة ويكون مُعاكسًا لما كان عليه الوضع قبل الثورة، لكن البرلمان الذي سيطر عليه الإخوان المسلمون لم يستمر سوى 6 أشهر قبل حله بقرار من سلطة استثنائية.
بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي ومسكه بزمام الأمور في مصر، تشكل برلمان جديد له الحق في تعيين 5% من أعضائه، وعاد البرلمان بذلك لدوره المعهود زمن العسكر، أي كما كان عليه قبل الثورة، للتصفيق ومباركة قرارات السلطة التنفيذية.
يمكن القول إن هذه أبرز التجارب البرلمانية في الوطن العربي، فلئن وجدت برلمانات في باقي الدول، فإن دورها كان في أغلب الفترات محدودًا، تسيطر عليه السلطة التنفيذية، ووجودها لم يكن إلا لتزيين النظام والتسويق له خارجيًا.