حلَّ رمضان على اللبنانيين هذا العام وسط أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة شغلتهم عن كثير من الاهتمامات، وغيّرت العديد من العادات والتقاليد التي كانت ترافق شهر رمضان المبارك، غير أنها لم تشغلهم كثيرًا عن الصيام وأداء واجباتهم الدينية الأخرى، ومن بين هذه الواجبات التذكير والتذاكر وشرح القضايا الفقهية والعقدية والسلوكية التي جاء بها الإسلام، تعزيزًا للفهم الصحيح لهذا الدين، والتزامًا بأخلاق الإسلام وقضاياه.
وقد كانت بعض المناشط الدعوية في رمضان ملفتة لناحية شكلها ومضمونها وطريقة أدائها، غير أن ما يُسجّل أيضًا أن أغلب، إن لم نقل كلّ هذه المناشط الدعوية كانت منصبّة على تذكير المسلمين بدينهم وعقيدتهم وأخلاق الإسلام والتعريف بسيرة نبيهم، على قاعدة قول الله تعالى: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ﴾ (الغاشية، آية 21)، أو قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ﴾ (الأعلى، آية 9)؛ أكثر ممّا كانت متوجّهة إلى دعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام، على قاعدة قوله تعالى: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ﴾ (النحل، آية 125).
مع العلم أن لبنان فيه نسبة لا يُستهان بها من غير المسلمين الذين يحتاجون إلى برامج دعوية متخصّصة ومركّزة، وربما يعود السبب في ذلك إلى أن اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية يعيشون حالة من التقوقع والانغلاق على الذات، بما في ذلك المسلمين جراء الشعور الأقلوي الذي تولّد عند أغلبهم، بسبب الهواجس والحروب التي مرَّ بها لبنان.
ولذلك قد يكون التركيز على مسألة التذكير في وسط المسلمين هو التحدّي الحقيقي بالنسبة إلى المؤسسات الدعوية والعلمائية والمرجعية الدينية في لبنان، خاصة في ظلّ الهجمة الشرسة التي تستهدف قيم المجتمع بشكل عام وقيم الأسرة بشكل خاص، وفي ظلّ التحديات السياسية التي تعصف بلبنان وتولّد فيه شعورًا لدى الجميع أنّ تواجده في البلد ودوره فيه محلّ استهداف، ما يحتّم عليه التركيز على لمّ الصف وإعادة الاعتبار للانتماء أكثر من أي شيء آخر.
مجالس النور
لعلّ من أبرز المناشط الدعوية التذكيرية التي شهدها لبنان في شهر رمضان هذا العام تنظيم 3 لقاءات إرشادية إنشادية مفتوحة تحت عنوان “مجالس النور”، جمعت أعدادًا غفيرة من المسلمين اللبنانيين برعاية رسمية من دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية، وبمشاركة واسعة من الجمعيات والأندية والمؤسسات المهتمّة عادة بالأنشطة الدعوية والتوعوية والتربوية، فضلًا عن علماء ومشايخ معروفين ولهم دورهم ونشاطهم الدعوي.
نظمت هذه اللقاءات في مدينة صيدا، وهي بوابة الجنوب اللبناني، إذ شارك الآلاف من المصلّين والعديد من العلماء في لقاء مفتوح في إحدى ساحات المدينة بعد صلاتَي العشاء والتراويح، وقدّم خلاله العلماء، كلٌّ حسب تخصّصه، موعظة إرشادية توجيهية، كما شارك في هذا اللقاء المنشد محمد كندو الذي أضفى على اللقاء بأناشيده وابتهالاته جوًّا حرّك مشاعر الإيمان في نفوس المشاركين.
وفي مدينة بيروت شهدت العاصمة لقاءً مماثلًا في المدينة الرياضية الدولية، حيث احتشد الآلاف أيضًا للاستماع إلى مواعظ وكلمات ودروس العلماء المشاركين، وإلى أناشيد المنشد محمد كندو، وكانت الأجواء في المدينة الرياضية إيمانية بامتياز، وتركت انطباعات جيدة في نفوس المشاركين وفي أجواء العاصمة بشكل عام.
ومن المقرّر أيضًا أن تشهد مدينة طرابلس لقاءً مماثلًا خلال الأيام المقبلة والمتبقية من شهر رمضان المبارك، حيث يجتمع كبار علماء طرابلس مع المؤمنين في صعيد واحد للذكر والتذاكر والتعلُّم.
ولم تخلُ هذه المناشط الدعوية التذكيرية بطريقتها العفوية من حمل رسائل سياسية بشكل غير مباشر، في بلد تُعتبر السياسة فيه خبزًا يوميًّا، فالمدن الثلاثة الرئيسية، بيروت وطرابلس وصيدا، هي مدن أغلبية أهلها وسكّانها من المسلمين السنّة.
وهم يشعرون في ظلّ غياب المرجعية السياسية الجامعة، وفي ظلّ افتقارهم الحالي إلى العمق العربي الذي كان حاضرًا على الدوام خلال العقود الماضية في المعادلة اللبنانية، بحاجتهم إلى الظهور بمظهر قوي، وبصورة لا تترك لأي طامع فرصة التفكير بأخذ دورهم في النظام السياسي أو تواجدهم في البلد.
ولذلك، الصور الجامعة القوية التي خرجت من هذه اللقاءات قالت بطريقة غير مباشرة: “إنّنا ما زلنا هنا، وما زال دورنا كما هو، وهذه الجموع المشاركة في هذه اللقاءات خير دليل على وحدة الكلمة والهدف”.
لقاءات مسجدية
وعلى غرار اللقاءات المفتوحة التي تمّ ذكرها، تنظّم لجان المساجد في أغلب المناطق اللبنانية لقاءات مسجدية لتدارُس كتاب من الكتب، كـ”الأربعين النووية”، على مدى بضع ساعات، ويشارك في الغالب في هذه اللقاءات المسجدية إمام وخطيب المسجد وثلّة من العلماء والمشايخ من أبناء المدينة أو المنطقة.
يتناوب كلّ عالم أو شيخ منهم على شرح بعض فصول الكتاب المتصلة بمسائل فقهية أو عقدية أو تاريخية أو تربوية، ويحضر عادة في هذه اللقاءات المسجدية أبناء الأحياء في المدن، وأبناء القرى والبلدات في الأرياف، كما يشارك فيها الرجال والنساء والأطفال، وغالبًا ما تترك هذه الأجواء الإيمانية ارتياحًا في نفوس المشاركين.
وإلى اللقاءات المسجدية تحرص لجان المساجد وخطباؤها وأئمتها على تنظيم دروس مسجدية للمصلّين عقب الصلوات المفروضة، وغالبًا ما تكون هذه الدروس بعد صلاتَي العصر والفجر من كل يوم، وتشهد إقبالًا متفاوتًا بحسب كل مسجد وإمام ومنطقة.
وتعتمد هذه الدروس بشكل عام منهجية واحدة، بحيث يداوم فيها المصلّون كما لو أنّهم يتلقون الدروس في مدارس عادية، وتركّز هذه الدروس على السيرة والأخلاق وتشرح العقيدة الإسلامية، وتتناول المسائل الفقهية المتصلة بالصوم والصلاة والزكاة وغيرها.
وإلى هذه الدروس المركزة يعمد أئمة صلاة التراويح إلى إلقاء مواعظ على المصلّين بعد انتهاء صلاة التراويح أو بين ركعاتها، تتناول جوانب متعدّدة ممّا يحتاجه المسلم في حياته، سواء لناحية التزكية أو الإقبال على الله أو غيرها من المواضيع.
محاضرات متنقّلة وإعلام دعوي
عمدت بعض المؤسسات المهتمّة بالدعوة والتذكير إلى وضع برامج لمحاضرات متنقلة يقدّمها علماء معروفون ومحل ثقة المسلمين، بحيث يطوف بعض المشايخ والعلماء على المحافظات والمناطق اللبنانية ويلقون محاضرات دينية في قاعات أو في مساجد، ويتمّ توجيه الدعوة للجميع لحضور هذه المحاضرات.
كما عمد بعض العلماء والمؤسسات المهتمّة بهذا الجانب إلى استثمار وسائل التواصل الاجتماعي، فتمَّ إنتاج مواد إعلامية مركّزة بالصوت والصورة، وجرى نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، خاصة في الأوساط الشبابية المهتمّة بشبكات التواصل الاجتماعي.
كما نظّمت مؤسسات إعلامية برامج هادفة على مستوى التوعية والتذكير، كما في إذاعتَي “القرآن الكريم” و”الفجر”، إذ تبثّ كلّ إذاعة منهما برامج دينية توعوية وتعريفية لعلماء من سائر أنحاء العالم الإسلامي، وتنظّم مسابقات عبر الأثير تلقى تفاعلًا واسعًا، بحيث تركّز الأسئلة المطروحة فيها على المعاني الرمضانية، أو تكون أجوبتها من السيرة النبوية الشريفة أو من الفقه الإسلامي.
هي مناشط تذكيرية تتركّز في أوساط المسلمين أكثر ممّا هي خطاب دعوي لغيرهم، لكنّها تصلح أيضًا كمادة تقدَّم لكل متلقّف، ويبقى التحدي الأبرز أمام المسلمين في لبنان الحفاظ على أبنائهم أمام الهجمة الشرسة التي تستهدف قيم المجتمع الإسلامي والعربي، والحفاظ على دورهم وحضورهم في لبنان أمام محاولات تفريغ الحواضر المسلمة من أبنائها، وحمل دعوة الله إلى غيرهم من الناس في بلد تنوّعت تركيبته السكانية بشكل كبير.