تزامنًا مع الاحتفال بقدوم شهر رمضان، وفي حدث حضره السيسي وكبار رجال الدولة بمناسبة يوم “المرأة المصرية والأم المثالية” في مركز المنارة للمؤتمرات شرق القاهرة، بشّر السيسي الرأي العام بالإفراج عن جميع الغارمات في السجون المصرية.
في التعريف الاصطلاحي السائد في معجم الاجتماع المصري، يطلق مصطلح “الغارمة” على تلك السيدة التي تستدين من شركات الإقراض لشراء لوازم تجهيز ابنتها للزواج، والتي تُحبَس بناءً على الاتهام الموجّه إليها من مقرض المال، حال إثبات تخلفها عن السداد وفقًا للاتفاق المبرم بين الطرفَين، وهي ظاهرة تحيل إلى التغيرات التي مسّت المجتمع المصري في العقود الأخيرة ضمن ترتيبات الزواج.
إذ إن أهل العروس صاروا ملزمين عُرفًا بتحمّل جانب غير بسيط من تجهيزات بيت الزوجية، وهو ما ينبني عليه لوازم قانونية مستحدثة، خلافًا للتقليد الإسلامي الحاثّ على اضطلاع الزوج بتحمل تأثيث بيت الزوجية كاملًا وفقًا لاستطاعته.
احتفى الإعلام الرسمي هذا العام بهذا القرار على نحو لافت، رغم أنه صار قرارًا فلكلوريًّا سنويًّا يصدر كل عام في هذا التوقيت، على غرار العفو الرئاسي الصادر عن المحبوسين ممّن تنطبق عليهم الشروط القانونية، قبل اكتمال مدة العقوبة المنصوص عليها في القانون والتي قررها القاضي في حكمه النهائي، تزامنًا مع الأعياد القومية.
ورغم أن إجمالي عدد النساء الغارمات المفرج عنهن هذا العام بناءً على العفو الرئاسي لم يتجاوز 40 سيدة، فإن السيسي حرص أيضًا على إبراز القرار، بعد أيام قليلة من تنفيذه، خلال مناسبة أخرى استضاف فيها عددًا من المفرج عنهن، تحت شعار “إفطار الأسرة المصرية” في حي الأسمرات بالمقطم، وهو ما حظيَ أيضًا بتغطية إعلامية واسعة.. فما سرّ هذه الحفاوة بقرار شديد البيروقراطية والروتينية والبساطة مثل هذا القرار؟
السيسي والمرأة
منذ تقديمه للرأي العام وزيرًا للدفاع عام 2012، وما تبع ذلك من نقلات في مساره المهني، برز، كإحدى الثيمات الرئيسية لخطاب وسلوك السيسي، الاهتمام الجارف، الذي يصل أحيانًا حدّ التكلف، بالأيقونة النسائية، ضمن مكونات المشهد الاجتماعي والسياسي في مصر.
ففي حشد عسكري مبكّر وسط كبار الضباط، جرى نشره لاحقًا من منصات معارضة باعتباره مادة “مسرّبة”، إبّان شغله منصب وزير الدفاع، برّر السيسي اختيار العقيد أحمد محمد علي، المتحدث العسكري الأول باسم وزارة الدفاع المصرية، وهو منصب مستحدث بعد انتهاء فترة حكم المجلس العسكري الانتقالية، باعتباره “جاذبًا للستات“، بنصِّ كلام السيسي، وهو ما أثار موجة من التساؤلات والانتقادات حينها.
أشار السيسي كذلك في مناسبات قومية ذات طابع اجتماعي إلى أنه كان يحظى بحبٍّ وتفضيل جارف من نساء العائلة، نظرًا إلى الطريقة المميزة التي كان يعامل بها كل النساء، وفي موقف مماثل أوصى السيسي الرجال بأنه من الذوق واللياقة، قبل أي إشارة إلى قوة القانون، ألّا يكلم الرجل المرأة، أيًّا كانت علاقته بها، إلا واضعًا يدَيه خلف ظهره، مضيفًا أنه لا يتردد في إعلان انحيازه للمرأة، حتى لو أدّى ذلك إلى إغضاب البعض.
وينسَب إلى السيسي ترجمة تلك التصريحات في صورة تحسينات نوعية في وضع المرأة ضمن السلَّم الإداري للحكومة، حيث ارتفع عدد النساء “المعيّنات” في الوزارات والمجالس النيابية بشكل واضح، وفي عام 2017 أصدر السيسي قرارًا بتعيين سيدة، لأول مرة، في منصب محافظ إحدى المدن المصرية، دمياط شمال البلاد.
كما أمر السيسي بإدخال النساء إلى نطاقات قضائية وقانونية جديدة، وهي الإجراءات التي، رغم بساطتها وخلوّها من المضامين الحقيقية، تشهد دعاية إعلامية رسمية واسعة، باعتبارها دليلًا على تحديث ومدنية “الجمهورية الجديدة”.
من المعلوم أن الأيقونة النسائية، ضمن عدة أيقونات أخرى، مثل الشباب وملفات البيئة، من الأدوات الخطابية التي تعتمد عليها الدولة المصرية في تبرير سجلّها الحقوقي السيّئ للمجتمع الغربي
ويفسّر روبرت سبرنغبورغ، الباحث المتخصص في الشأن المصري، تكلُّف السيسي في إظهار عنايته الفائقة بالأيقونة النسائية، بأنه، أي السيسي، يسعى طوال الوقت إلى كسب تأييد تلك الشريحة الواسعة من المجتمع، بما ينعكس إيجابًا قدر الإمكان على صورته كمدعوم من أطياف مختلفة من النسيج المصري، أمام الداخل والخارج.
فأمام تلك العناية، نجح السيسي والإعلام الرسمي في إبراز الحضور النسائي الكثيف في المناسبات السياسية التي يصفها السيسي بالوطنية، وخاصة شريحة النساء من منتصف العمر، خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في عهده، والتي خلت عادة من الحضور الشبابي، وقبل ذلك خلال دعوات التظاهر التي وجّه إليها السيسي، في وقت مبكر، لاستظهار الدعم الشعبي لإجراءات ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013.
كما اعترف السيسي، في مناسبات بعضها ذات طابع دولي، أنه بفضل الاستثمار في تلك العلاقة -السيسي من ناحية وخطاب التمييز الإيجابي الموجّه إلى النساء من ناحية أخرى- استطاع أيضًا تمرير سياساته الاقتصادية غير المسبوقة في شدّتها، من رفع للدعم وفرض للضرائب وتوسُّع في الاستدانة على المواطن، إذ لم يكن سيستطيع تمرير تلك السياسات لولا دعم المرأة ورباطة جأشها في إدارة بيتها، وفقًا لنصّ كلامه.
ومن المعلوم أنَّ الأيقونة النسائية، ضمن عدة أيقونات أخرى، مثل الشباب وملفات البيئة، وحماية الأقليات، ومنع تدفُّق المهاجرين، ومحاربة الإرهاب، والاستقرار على الحدود الشرقية (إسرائيل) وتأمين الممرات الملاحية الاستراتيجية؛ من الأدوات الخطابية التي تعتمد عليها الدولة المصرية في تبرير سجلّها الحقوقي السيّئ للمجتمع الغربي، والتخويف من عواقب صعود جماعات متطرفة إلى السلطة، بما يؤثر سلبًا على تلك الأجندة المدعومة غربيًّا.
السيسي وهندسة الأسرة
في إفطار الأسرة المصرية الذي حضره السيسي مؤخرًا، تقف إحدى الغارمات المفرج عنهن في إخبات شديد أمامه، معترفة بذنبها، متعهّدة له بألا تكرر ذلك الخطأ، وهو شراء حاجيات بالتقسيط بما يفوق القدرة على السداد، ممتنّة له على التدخل والإفراج عنها وزميلاتها المتورّطات في وقائع مشابهة، بعد أن كادت تسجَن لمدة تصل 70 عامًا، وفقًا لروايتها.
في الواقع، يعدّ هذا المشهد، غير العفوي فيما يبدو، معادلة بصرية لعواقب إحدى العادات الاجتماعية التي انتقدها السيسي في أعراف الزواج بالمجتمع المصري، حينما أشار في مارس/ آذار 2021، خلال احتفالية تدشين ما يعرَف بـ”المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية“، وهو أحد مشاريع هندسة المجتمع المصري ديموغرافيًّا مثل مشروع “اتنين كفاية” ومبادرة “حياة كريمة” لإعادة صياغة شكل الريف المصري؛ بأنّ هناك أسرًا فقيرة في الريف تشتري لبناتها أكثر من قطعة من السلع المعمرة دون داعٍ، ضاربًا المثل بالأغطية والبطاطين والغسالات وشاشات التلفاز.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فللسيسي فلسفة متكاملة تبلورت بوضوح مع مرور الوقت، لإعادة هندسة الأسرة المصرية بما يتلاءم مع الأجندة الغربية للحدّ من النسل، الذي يقول إنه يلتهم كل عوائد التنمية، وبما يخفّف من ظاهرة الطلاق التي تفشّت في المجتمع المصري بحدّة في السنوات الأخيرة.
يريد السيسي الحدَّ من الزواج لقطع الطريق على التدفُّق الإنجابي من البداية، لذلك أصدر أوامره في ديسمبر/ كانون 2021 برفع الدعم الحكومي عن أبناء المتزوجين حديثًا، مبررًا بأن الزواج والإنجاب ينبغي أن يكونا للقادرين فقط، فلا ينتظر المتزوج حديثًا أن تعول الدولة أبناءه في بند الطعام.
وفي الشهر نفسه من العام التالي، أعطى توجيهاته بفرض مزيد من الإجراءات الإدارية والمالية على مريدي الزواج من الجنسَين، بحيث تتولى الدولة، صحيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا، ما يشبه عملية “الانتخاب الطبيعي” للقادرين على الزواج، معلنًا تأسيس صندوق خاص يتمّ تمويله من مبلغ مستقطع من كل مُقبل على الزواج، بالاشتراك مع الحكومة بحجّة دعم الأسرة.
وفي نفس سياق هندسة الأسرة المصرية، استطاع السيسي، بعد 6 سنوات من الضغط بمعاونة مؤسستَي الأوقاف والإفتاء، فرض إرادته على الأزهر في ملف ضرورة تقنين الطلاق الشفاهي لتمريره في الأوراق الرسمية للدولة، ومن دون ذلك التوثيق لا تعترف الدولة بالطلاق.
إذ يعد السيسي هذا “التجديد الديني” حلًّا لمشكلة الطلاق الذي تجاوزت أعداد حالاته 210 ألف حالة عام 2020، فيما يرى الأزهر، وعلى رأسه أحمد الطيب، أنّ هذا الحل، فضلًا عن كونه غير متوافق مع تقاليد الشريعة، فإنه يختزل المشكلات الاجتماعية التي تدفع الأسرة إلى الطلاق في زاوية مخلة، وهي التسرُّع في التطليق.
إذا كان الهدف المطروح، وهو الوصول إلى نقطة تعادل المواليد والوفيات – رغم كل هذا التراجع في المواليد -، شبه مستحيل، فإنه سيكون للدولة مبرر مستمر، لا ينقطع، لتبرير فشلها في تحسين حياة المواطن، ولعلّ هذا أحد أهداف السيسي.
ويرهن السيسي شعور المواطن بالتحسُّن في حياته اليومية بهدف مستحيل، وهو الوصول إلى نقطة تتساوى فيها المواليد مع الوفيات، بحيث تسفر في الأخير سياساته الطبية للحدّ من الإنجاب وسياساته الإدارية للحدّ من الزواج عن الوصول إلى معدل مواليد 400 ألف مولود سنويًّا، عوضًا عن حوالي 2 مليون مولود في الوقت الحالي، مستعينًا في ذلك ببرامج هندسة سكانية مدعومة من البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وهي الجهات التي تقدّم منحًا سخية بالعملة الصعبة لهذه البرامج.
فيما تشكّك، على الجانب الآخر، جهات وطنية مستقلة في سردية السيسي الخاصة بإمكان الحد من المواليد بهذه الطريقة، وبِرَهْن الشعور بالتحسن الاجتماعي بتقليص الإنجاب، إذ تشير التقديرات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر إلى أنه رغم معدلات المواليد السنوية الكبيرة ظاهرًا، إلا أن هناك انخفاضًا هائلًا في معدلات الزيادة السكانية خلال الأعوام الأخيرة مقارنة بالعقود السابقة، لتصل إلى 1.6% عام 2022، بعد أن كانت تسجّل أكثر من 2.5% في الستينيات.
كما انخفض، جذريًّا، معدل خصوبة المرأة المصرية إلى 2.85 طفلًا لكل سيدة، مقارنة بأكثر من 6 أطفال لكل سيدة في الستينيات، وهي الحقائق التي تتجاهل الرواية الرسمية الإشارة إليها دائمًا.
ويدفع هذا باحثين، مثل وائل جمال مدير وحدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، للتشكيك في نوايا السيسي من تلك البرامج: فإذا كان الهدف المطروح، وهو الوصول إلى نقطة تعادل المواليد والوفيات -رغم كل هذا التراجع في المواليد- شبه مستحيل، فإنه سيكون للدولة مبرر مستمر، لا ينقطع، لتبرير فشلها في تحسين حياة المواطن، ولعلّ هذا أحد أهداف السيسي الذي لا يتوقف عن توبيخ المواطنين في ملف الزيادة السكانية.
استراتيجية غير نزيهة
على مقربة من تلك المواقع التي تواجد فيها السيسي للاحتفال بالمرأة وإصدار حزمة قرارات شكلية جديدة لتحسين وضعها الاجتماعي، تقبع نساء آخريات، ينتمين إلى اتجاهات فكرية مختلفة من اليمين إلى اليسار، في السجون التي دشّنها السيسي مؤخرًا بشكل لا مثيل له عالميًًّا من حيث المساحة والتحصين، لكنه عدّل من أسمائها لتصبح “مراكز الإصلاح والتأهيل المجتمعي” ضمن “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” الجديدة.
عن تلك المقارّ السجنية، يقول هيثم غنيم، معتقل سابق وناشط بارز في منظمة “نحن نسجّل” الحقوقية، إن الانتهاكات، بشتى أنواعها، من قبل الضباط والرجال بحقّ النساء تحدث بشكل يومي ومعتاد وروتيني، من دون حتى إصدار أوامر من القيادات العليا، إذ إنها بحقّ النساء المنزوع عنهن الحماية القانونية والمطرودات من الجماعة الوطنية المصرية، كما يعرّفها النظام.
فالمرأة الجيدة، التي ستحظى بدعم السيسي ورعاية الدولة، هي أمّ ضحايا الجيش والشرطة في عمليات مكافحة التمرد في سيناء، وهي المرأة التي تنخرط في تنفيذ سياساته الاقتصادية، على غرار الوزيرات والمحافظات والمعيّنات في مناصب تجميلية.
وعلى الهامش من هذا المتن، يمكن ضمّ النساء المتواضعات اجتماعيًّا وتعليميًّا، مثل الغارمات والمنتفعات من برامج “تكافل وكرامة”، طالما أنهن غير منخرطات في أنشطة تنظيمية ذات مطالب سياسية، فهذا النوع مرفوع عنه الحماية تمامًا.
من الواضح أنّ السيسي يتبع إحدى الاستراتيجيات المعروفة في “بلاغة الخطاب السياسي”، فكلما أظهر الإحسان والتودد للمرأة، المعترف بها في الجماعة الوطنية وفقًا لمعاييره، صار عدم تبرير الانتهاكات بحقّ النساء الآخريات أمرًا بديهيًّا.
بالإضافة إلى النساء المحتجزات بشكل مباشر في المعتقلات، فإن أعدادًا أكبر من النساء، تصل إلى المئات، تموت ببطء في معاناة البحث عن أزواجهنّ المختفين قسريًّا في الأقسام ومقرّات الأمن الوطني والأقبية المرعبة، كما تعاني تلك النساء، اجتماعيًّا ونفسيًّا، في ظل غياب أحد عوائل الأسرة من الذكور، لاعتقال أو تغييب أو تصفية، وهي المعاناة التي لا يتعاطف معها أحد.
بشكل مباشر، أشرف السيسي أيضًا، الذي يبالغ في إظهار عنايته بالمرأة المصرية، على إجراء “كشوف العذرية” في مقرات الجيش مطلع عام 2011 للفتيات المقبوض عليهن بعد الثورة، وهو ما وثّقه مسلسل “الاختيار” المدعوم من الدولة العام الماضي بلا حياء، بناءً على حقيقة أن تلك المرأة صارت بانخراطها في أنشطة ذات طابع تنظيمي سياسي خارج مظلة القانون والإنسانية.
لذا من الواضح أن السيسي وفريقه الإعلامي المقرّب يتبعان، عمدًا، إحدى الاستراتيجيات المعروفة في “بلاغة الخطاب السياسي”، فكلما أظهر الإحسان والتودُّد للمرأة، المعترف بها في الجماعة الوطنية وفقًا لمعاييره، صار عدم تبرير الانتهاكات بحقّ النساء الأخريات أمرًا بديهيًّا، إذ سيذهب ذهن الرأي العام، مباشرة، إلى استنتاج مفاده أنّ هذا الرجل، شديد الأدب والذوق والعناية بالمرأة، لن يستخدم الأساليب المفعمة بالقسوة إلا مع الفئات التي تستحقها فعلًا.