لاقى أمر القضاء الفرنسي بمحاكمة ثلاثة من كبار المسؤولين الأمنيين لدى نظام الأسد صدى واسعًا في الأوساط السورية، إذ يمثّل نافذة أمل صغيرة للعدالة بعد عقد من الجرائم الوحشية التي اختبرها السوريون وذاقوا ويلاتها، وفي ظل غياب أي مساءلة دولية لانتهاكات أشخاص متورّطين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، وعدم وجود أية بوادر فعّالة من شأنها ضمان المساءلة والعدالة المستقلة.
إذ أصدر القضاء الفرنسي أمرًا بمحاكمة كبار المسؤولين في أجهزة الاستخبارات السورية أمام محكمة باريس الجنائية، وهم علي مملوك، مدير مكتب الأمن القومي الوطني، وهي أعلى هيئة مخابرات في سوريا؛ وجميل الحسن، الرئيس السابق لإدارة الاستخبارات الجوية السورية؛ وعبد السلام محمود، رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري.
والاتهامات هي التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية من اعتداءات متعمدة على الحياة أو التعذيب أو الاختفاء القسري أو السجن، وغير ذلك من أشكال الحرمان الجسيم من الحرية، وجرائم حرب من إخفاء وابتزاز للممتلكات اُرتكبت ضد مواطنَين اثنَين سوريَّين-فرنسيَّين، هما مازن دباغ ونجله باتريك عبد القادر، اللذين اُعتقلا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013.
وباعتبار الجنسية المزدوجة التي يحملها باتريك ومازن الدباغ، فقد فتحت النيابة الفرنسية التحقيق عن حالات اختفاء قسري وأعمال تعذيب تعدّ جرائم ضد الإنسانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، بعد شكوى قدّمها شقيق الأب المفقود، عبيدة دباغ.
وأكدت العائلة تعرّضها للابتزاز من قبل اللواء عبد السلام محمود بمبالغ مالية طائلة عبر وسطاء، مقابل نقل المعتقلَين الاثنَين من سجن مطار المزة التابع للمخابرات الجوية إلى سجن عدرا المركزي بريف دمشق.
كما أكّدت أن اللواء محمود احتلَّ طابقَين من البناء المملوك للعائلة والواقع قرب منزل رئيس مجلس الوزراء، فيما لم يستطع وضع يده على الطابقَين الآخرَين لأن العائلة كانت قد أجّرتهما للسفارة القبرصية.
حيثيات القضية
منتصف ليلة نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 توجّهت مجموعة مؤلفة من ضابطَين اثنَين وجنديَّين وخبير في مجال الكمبيوتر من المخابرات الجوية إلى حي المزة الدمشقي حيث منزل باتريك عبد القادر الدباغ (20 عامًا)، والذي يحمل الجنسيتَين السورية والفرنسية، إذ تمَّ اعتقاله دون الكشف عن مبررات ذلك.
وفي اليوم الثاني عادت المجموعة نفسها إلى المنزل، لكن هذه المرة برفقة 12 جنديًّا مسلحًا وألقوا القبض على والد باتريك عبد القادر، مازن (مواليد 1956)، والذي كان يعمل حينها موجهًا تربويًّا رئيسيًّا في المدرسة الثانوية الفرنسية بدمشق.
ووفق شهادة الشهود، فإن الأب والابن قد اقتيدا إلى مراكز احتجاز في مطار المزة العسكري الذي تديره المخابرات الجوية، وبقيَ مصيرهما مجهولًا حتى يوليو/ تموز 2018 عندما تلقّت عائلة الدباغ إخطارًا رسميًّا بوفاة باتريك عبد القادر ومازن الدباغ، ووفقًا للوثائق الرسمية فقد تبيّن أن باتريك توفي في 21 يناير/ كانون الثاني 2014 بعد فترة وجيزة من اعتقاله، فيما توفيَ والده مازن بعد 4 سنوات في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 أحالت الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) ومنظمتها العضو في فرنسا، الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان (LDH)، مع السيد عبيدة الدباغ (شقيق مازن الدباغ)، وبدعم فعّال من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM)، قضية مازن وباتريك عبد القادر الدباغ إلى وحدة جرائم الحرب الفرنسية، حيث أدلى عبيدة الدباغ بشهادته، ممثَّلًا من قبل محامي الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، 3 مرات أمام قضاة التحقيق كطرف مدني في القضية.
فيما وافق 23 شاهدًا سوريًّا على الإدلاء بشهاداتهم في هذه القضية، منهم من كان ناجيًا من مركز احتجاز المزة، ومنهم من واجه شخصيًّا أحد المسؤولين السوريين المتهمين بهذه الإجراءات، حيث تمَّ الكشف عن أنماط متكررة من القمع المهدّد للحياة.
في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 أصدر قضاة التحقيق المسؤولون عن القضية 3 أوامر توقيف دولية ضد علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود، بتهمة المشاركة في جرائم ضد الإنسانية والتعذيب والاختفاء القسري وجرائم حرب، وفي 31 مارس/ آذار 2022 أغلق قاضي التحقيق المسؤول عن القضية التحقيق، ليأمر في 29 مارس/ آذار 2023 بإدانتهم أمام محكمة باريس الجنائية بالتُّهم نفسها.
انتصار العدالة في القضائَين الفرنسي والألماني
يمكن القول إن قرار القضاء الفرنسي يمهّد لأول مرة في فرنسا لمحاكمة مسؤولين في نظام الأسد متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحقّ السوريين غيابيًّا، ومع عدم الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية أو العدالة الانتقالية أو محكمة مختلطة، باعتبار عدم وجودهم ضمن الحدود الإقليمية، لا سيما أنه كان للقضاء الألماني عام 2022 سابقة بالحكم بالسجن على الضابط في المخابرات السورية أنور رسلان (58 عامًا)، المسؤول عن مقتل ما لا يقلّ عن 27 شخصًا وتعذيب آلاف آخرين في معتقل الخطيب 251 بدمشق بين عامَي 2011 و2012.
هذا بالإضافة إلى الحكم بالسجن 4 سنوات ونصف على إياد غريب (44 عامًا)، وهو عسكري سابق ينتمي إلى الاستخبارات السورية، بتهم التواطؤ في جرائم حرب ضد الإنسانية، واعتقال ونقل ما لا يقلّ عن 30 متظاهرًا إلى الفرع 251 عام 2011.
وقد رحّبت الولايات المتحدة الأمريكية بقرار القضاء الفرنسي، إذ أكّد حساب السفارة الأمريكية في سوريا على تويتر أنه “يجب محاسبة علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود عن أي دور لهم في مقتل واختفاء السوريين”.
سيخوّل قرار الاعتقال الدولي الدولة الموقعة على اتفاقية التسليم الدولية أن تسلم المتهمين للإنتربول الدولي، والذي بدوره يساعد أجهزة الشرطة في البلدان الأعضاء الـ 194 على العمل المشترك لمكافحة الجريمة على الصعيد الدولي وتسليمهم إلى القضاء الفرنسي.
ولا بدَّ لنا من التعرُّف إلى آلية ملاحقة الدولة الفرنسية لجرائم الحرب المرتكبة في دولة أخرى، إذ مع تزايد الآلة الوحشية لنظام الأسد ضد المدنيين وإغلاقه قضائه في وجوههم، كانت خياراتهم لضمان العدالة والإنصاف لضحاياهم محدودة، لا سيما مع استخدام روسيا والصين حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن، الذي يمنع تمكن المحكمة الجنائية الدولية من فتح تحقيق بشأن سوريا.
ولهذا ما كان من ذوي الضحايا سوى التوجه إلى دول أخرى كألمانيا وفرنسا وأسبانيا والسويد، للتحقيق في القضايا عبر ما يعرَف بـ”مبدأ الولاية القضائية العالمية“، والذي أتاح للقضاء الفرنسي قبول دعوة عائلة الدباغ، وهذا المبدأ يسمح بمحاكمة الجرائم الجسيمة المرتكبة في بلد آخر بغضّ النظر عن جنسية الجناة أو جنسية ضحاياهم وبشروط معيّنة.
ويمكن لضحايا التعذيب والاختفاء القسري، بغضّ النظر عن جنسيتهم وبلد الإقامة، تقديم شكوى جنائية لدى المدعي العام الفرنسي والمشاركة في الإجراءات كأطراف مدنية، وتمنح هذه الحالة الضحايا حقوقًا واسعة طوال فترة التحقيق، مثل القدرة على طلب إجراء تحقيقات محددة، أو استدعاء شهود معيّنين للإدلاء بشهاداتهم.
في حديثه لـ”نون بوست”، اعتبر المعتصم الكيلاني، الحقوقي المختص في القانون الجنائي الدولي، قرار المحكمة بمحاكمة جنائية غيابية بحقّ ثلاثة من كبار ضباط النظام السوري قرارًا تاريخيًّا، خاصة أن القضاء الفرنسي يسمح بالمحاكمات الجنائية الغيابية، وبالتالي سيتم طلب المتهمين الثلاثة للمثول أمام القضاء، لافتًا أنه في حال لم يحضر المتهمون سيتمّ استصدار مذكرات توقيف دولية بحقّهم، ما يعني تحول المسؤولين الثلاثة من متهمين إلى محكومين.
وسيخوّل قرار الاعتقال الدولي الدولة الموقعة على اتفاقية التسليم الدولية أن تسلم المتهمين للإنتربول الدولي، والذي بدوره يساعد أجهزة الشرطة في البلدان الأعضاء الـ 194 على العمل المشترَك لمكافحة الجريمة على الصعيد الدولي وتسليمهم إلى القضاء الفرنسي.
ماذا يشكّل هذا القرار؟
نحت فرنسا نفس المنحى الأمريكي الذي توعّد بقانون قيصر كل من يحاول التطبيع مع النظام عقب كارثة الزلزال، إذ تعيد فرنسا المشهد نفسه إزاء محاولات تعويم نظام الأسد إقليميًّا وعربيًّا، مع ما يروج حاليًّا عن حضوره قمة الرياض المزمع عقدها في مايو/ أيار القادم.
ويلاحَظ أن التوقيت الزمني للقرار الفرنسي مهم جدًّا، فتحريك ملفات الجرائم الإنسانية في سوريا يتزامن مع محاولة عدد من الدول العربية إنعاش النظام وتقديم المساعدات له خاصة بعد كارثة الزلزال، وسط تجاهل تامّ لمجازر ارتكبتها قواته والميليشيات الموالية له.
كما أن إجراء محاكمات وتوجيه اتهامات وإصدار أحكام لكبار المسؤولين في نظام الأسد يربك النظام في تضييق الخناق على مسؤوليه، ووضع قيود على إعادة تأهليهم لأي مرحلة قادمة في سوريا، والحدّ من تحركاتهم خارج البلاد، خاصة أن القرار استهدف هذه الشخصيات الرفيعة، والتي تعدّ قمة التسلسل الهرمي لأول مرة على الإطلاق.
وسافر علي مملوك في وقت سابق من هذا العام إلى إيطاليا للقاء وزير الداخلية السابق ماركو مينيتي، ورئيس المخابرات ألبيرتو مانينتي، إلا أن ذلك لم يعد ممكنًا، إذ إن إيطاليا ستضطر الآن إلى إلقاء القبض عليه وتسليمه إلى فرنسا في حال عودته إليها.
يلفت الكيلاني إلى أن التحرك القضائي الفرنسي اليوم يأتي بالوقت المناسب، إذ يأخذ قيمة كبيرة على مستويَين اثنَين، الأول أنه مهما طال الزمن سيتم محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في أي زمان ومكان، والثاني أن له أثرًا سياسيًّا هامًّا يقف في وجه التطبيع الساري حاليًّا، والتأكيد أنه لا تطبيع وإعادة علاقات مع مجرمي الحرب والمتورطين بارتكاب تلك الجرائم.
ما بين التطبيع والقرارات الأوروبية
يرى الناشط السياسي عبد الكريم العمر أن القرار الفرنسي بحقّ 3 شخصيات معروفة بتاريخها الإجرامي على مدار حكم عائلة الأسد، يأتي تزامنًا مع عمليات الهرولة العربية باتجاه النظام السوري، وقيام بعض الدول تحت شعارات بالية بالتواصل ودعم النظام وتوجيه رسائل سياسية له، بحجّة الكارثة الإنسانية وضرورة عودة سوريا إلى الحظيرة العربية.
مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست” أن القرار الفرنسي ليس الأول ولا الأخير، فهناك العديد من المحاكم الأوروبية في ألمانيا وبريطانيا وهولندا تسير على المنهج نفسه في محاكمة مجرمي الحرب، إضافة إلى فرضها عقوبات على النظام كأفراد وكيانات بهدف منع التطبيع معه باعتباره نظامًا مجرمًا، على عكس الدول العربية التي لم يصدر منها أي قرار باتجاه هذا الخصوص.
ورغم أن هذه الخطوة تفتح الباب لمزيد من المحاسبة، إلا أن العمر اعتبرها “خطوة رمزية”، فمثلًا العقوبة الأخيرة التي صدرت من الولايات المتحدة الأمريكية بحقّ المسؤول عن مجزرة التضامن، أمجد يوسف، لم تغيّر شيئًا، فلو صدرت عن محكمة العدل الدولية في لاهاي لكان وقعها أشد وأكثر تأثيرًا، حسب العمر.
ويعدّ الموقف الأوروبي اليوم متقدمًا على مواقف كثير من الدول العربية بخصوص القضية السورية، فهو ضد التطبيع مع نظام الأسد، وضد عودة اللاجئين إلا ضمن تنفيذ القرار الدولي 2254 وبيان جنيف المتعلق بالحل السياسي الشامل في سوريا.
كما أنه لا ينكر أن كثيرًا من الدول الأوروبية فتحت ذراعَيها للاجئين وقدّمت الكثير لهم حتى على مستوى المساعدات الإنسانية، عكس العديد من الدول العربية التي وضعت شروطًا قاسية جدًّا لإقامة السوريين، وأجبرت بعضًا منهم على مغادرة أراضيها.
يتساءل العمر عمّ يمكن أن تقدمه الإمارات للنظام اليوم، رغم أنها على علاقات معه منذ عام 2018، وبالمقابل ماذا يمكن أن يقدم النظام المتهالك والمنعزل دوليًّا لها ولغيرها من الدول أكثر من حمولات الكبتاغون والمخدرات والمجرمين المتنقلين عبر الحدود؟
ختامًا، يبدو أن الاتحاد الأوروبي عازم على قطع الطريق أمام الدول العربية والإقليمية اللاهثة لإعادة تعويم نظام الأسد، عبر مضيه في محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا في محاكمه، لا سيما فرنسا التي تعمل وحدة جرائم الحرب فيها على 85 تحقيقًا أوليًّا و79 تحقيقًا قضائيًّا على صلة بجرائم دولية ارتكبت خارج الأراضي الفرنسية، منها حوالي 10 قضايا تتعلق بجرائم ارتكبت في سوريا.
إضافة إلى رفض الاتحاد التام رفع العقوبات أو البدء في عمليات إعادة الإعمار في سوريا حتى ينخرط النظام السوري في عملية انتقال سياسي تلبّي تطلُّعات السوريين، فيما تسارع الدول العربية لنسج علاقاتها مع النظام، والتي باتت تشكّل أولوية بالنسبة إلى توجهاتها السياسية الجديدة متجاهلة عذابات السوريين منذ 12 عامًا، ما يعكس حالة من الانفصال والعطب في قرارات هذه الدول ورؤيتها المستقبلية.