على امتداد أراضي روسيا الحديثة، خاصة في القوقاز ومنطقة الفولغا، انتشر الإسلام بعد فترة وجيزة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تشكلت النواة الأولى للدين الإسلامي في دربنت (أكبر مدن القوقاز)، بدءًا من عام 651م بفضل المسلمين العرب، وكما يقول رئيس مجلس شورى المفتين لروسيا راوي عين الدين: “في مدينة دربنت في داغستان، خلال القرن الثامن الميلادي، بني أول مسجد للمسلمين، ليس من أجل الأجانب ولا للمهاجرين، لكن للروس الأصليين”.
بأمر من القائد العربي مَسْلَمة بن عبد المالك بُني المسجد الجامع في دربنت وسبعة مساجد في كل حي على أساس قبائلي عرقي، ولم يكن أي من هذه المساجد مرتبطًا بالسكان العرب الذين ظلت هويتهم محفوظة هناك لمئات السنين، وإنما كان مرتبطًا بالخزر، وهم من السكان الأصليين للقوقاز، بحسب ما ورد في ورقة بحثية لأستاذ الدراسات المقارنة الروسي جيلشوكرا سيدوفا.
واستطرد الباحث قائلًا: “لقد كان بناء المسجد الجامع في بداية القرن الثامن يعني أن دربنت، التي كانت مركزًا مسيحيًا مهمًا في القرن الخامس والنصف الأول من القرن السادس، أصبحت معقلًا لانتشار الدين الجديد والثقافة العربية الإسلامية في جميع أنحاء شمال القوقاز”، بحسب ما جاء في الورقة المعنونة بـ”دربنت، أول مركز لنشر الثقافة الإسلامية في القوقاز”.
وعن أخبار الخرز، أفاد الرمزي في “وقائع قازان وبلغار وملوك التتار“، أن وجه تسميتهم بالخزر على ما يظهر هو صغر عيونهم وضيقها، “سموهم بها العرب في بداية ظهور أنوار الإسلام وابتداء انتشارها إلى الآفاق، وبلوغ فتوحات الموحدين إلى تلك الأصقاع”.
كما أشار الرمزي نقلًا عن الرحالة الروسي نيكولاي كارمزين، قوله: “الخزر من جنس واحد مع الترك وكانوا يسكنون في القديم في غربي بحر الخزر (بحر قزويين) أي هكذا سمي عند جغرافيي الشرق، وكانوا معلومين لمؤرخي الأرمن في العصر الثالث، وعرفهم الأوروباويون في العصر الرابع الميلادي، وعينوا مساكنهم بين بحر الخزر والبحر الأسود، يعني في صحراء حاجي طرخان وأطرافها (عرفت فيما بعد بخانية أسترخان)”.
صعود القبيلة الذهبية
إلى ذلك العهد البعيد، لم تكن روسيا تشمل القوقاز والفولغا ولا غيرها من المناطق المجاورة التي اعتنق أهلها الإسلام، بل كانت عبارة عن دولة موسكو قبل أن تتوحد قبائل سلافية في القرن التاسع مشكلة دولة كييف روس، لهذا ينبغي التذكر بأن الدول الإسلامية المستقلة على أراضي روسيا الحديثة كانت موجودة منذ ألف عام، منذ عهد الفولغا بلغاريا (مملكة الصقالبة) حتى نهاية حرب القوقاز، وطوال هذه الفترة عاش المسلمون أيضًا على أراضي الدول المسيحية، بما في ذلك الإمارات الروسية والجمهوريات الإقطاعية ودوقية ليتوانيا الكبرى ودولة موسكو والإمبراطورية الروسية.
في عهد القرون الوسطى، كانت القبيلة الذهبية، وعاصمتها سراي، دولة متعددة الأعراق في أراضي وسط أوراسيا، التي وحدت على أساس العرق التركي، قبائل وشعوب ينحدر حكامها من يوتشي (الابن الأكبر لجنكرز خان)، لذلك كانت هذه القبيلة الكبرى جزءًا من الإمبراطورية المغولية بين 1224 و1269.
وفي هذا العام الأخير أي عهد خان مينجو تيمور، حصلت القبيلة الذهبية على الاستقلال التام، واحتفظت لسنين لاحقة بمركزها الرسمي كإمبراطورية إسلامية، ففي أوائل عشرينيات القرن الثالث عشر، أصبح الإسلام دين الدولة في عهد السلطان محمد أوزبك، المعروف باسم أزبك خان.
كانت حدود أراضي القبيلة الذهبية التي أسسها أحفاد جينكز خان، تشمل غرب سيبيريا وشمال خورزم وفولغا بلغاريا وشمال القوقاز وشبه جزيرة القرم والقبجاق (سهوب كيبتشاك من نهر إرتيش إلى نهر الدانوب)، وكان الحد الجنوبي الشرقي الأقصى للقبيلة الذهبية هو جنوب كازاخستان (حاليًّا مقاطعة أوبليس جامبيل)، والحد الغربي هو مدينتا تيومين وإيسكر (بالقرب من مدينة توبولسك الحديثة) في غرب سيبيريا.
وامتدت أرجاء القبيلة الذهبية شمالًا وجنوبًا من الروافد الوسطى لنهر كاما إلى مدينة ديربنت، وكانت كل هذه الأراضي الشاسعة متجانسة تمامًا من حيث المناظر الطبيعية، أي كانت في الغالب عبارة عن سهوب.
أراضي القبيلة الذهبية
قبل أن يخلفه أزبك خان، كان بركة خان (ابن عم هولاكو، المتحالف مع الظاهر بيبرس ضد عمه) هو من وحد القبيلة البيضاء والزرقاء كجناحين لإمبراطورية واحدة تسمى القبيلة الذهبية، ومن ثم أصبح أول خان أعظم، فأعلن سكان مدن كبرى مثل بُخارى وسمرقند ولاءهم له، وشكل صعوده تغييرًا جذريًا لخرائط العالم الإسلامي السياسية والإستراتيجية بعد كارثة الغزو المغولي.
خانيات قامت على أنقاض القبيلة الذهبية
منذ الستينيات من القرن الرابع عشر، وهو زمن الذاكرة العظيمة، حدثت تغييرات سياسية مهمة في حياة القبيلة الذهبية، كانت بمثابة بداية للتفكك التدريجي للدولة، فقد حصل حكام الأجزاء النائية في منطقة آولوس (سيبيريا الجنوبية) على الاستقلال بحكم الأمر الواقع، على وجه الخصوص عام 1361 حصل الجناح الشرقي للقبيلة الذهبية (القبيلة الزرقاء) على الاستقلال التام.
ومع ذلك، حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، ظلت القبيلة الذهبية إلى حد ما دولة موحدة، لكن مع الهزيمة في الحرب مع تيمورلنك (الفاتح التركي المغولي الذي أسس الإمبراطورية التيمورية في أفغانستان الحديثة وإيران وآسيا الوسطى وما حولها) وانهيار المراكز الاقتصادية، بدأت عملية التفكك، ثم تسارعت في عشرينيات القرن التاسع عشر.
في أوائل عام 1420، قامت خانية سيبيريا دولة مستقلة عن القبيلة الذهبية، تلتها الخانية الأزبكية في عام 1428، ثم خانية قازان (1438) وخانية القرم (1441) وخانية نوجاي (1440) والخانية الكازاخية (أو الكازاخستانية) عام 1465.
وبعد وفاة الخان كوتشوك محمد عام 1459، لم تعد القبيلة الذهبية موجودة كدولة موحدة، وقد كان ينافسه في الحكم أخوه الأكبر أولوغ محمد الذي حكم القبيلة الذهبية حتى 1437 ليؤسس في العام الموالي خانية قازان كدولة مستقلة.
لكن القبيلة الذهبية استمرت رسميًا فيما بعد بتحالف ثلاث دول رئيسية، في عهد الخان أخمات (أحمد) الذي حاول التحالف مع القيصر الروسي إيفان الثالث عام 1480، لكن المحاولة انتهت بلا جدوى، وتمكنت موسكو من التحرر من نير المغول والتتار، ولم تعد بذلك تدفع الجزية للقبيلة الذهبية، التي كان قد استعاد مدفوعاتها الخان توقتمش (حفيد جنكز خان من ابنه البكر جُوجِيّ خَان)، بعدما شن حملة على موسكو عام 1382، وشهد عهده توقف الاضطرابات وسيطرة الحكومة المركزية على كامل الأراضي الرئيسية للقبيلة.
وفي بداية عام 1481 قتل أخمات خلال هجوم على مقر قيادته من سلاح الفرسان سيبيريا ونوغاي، ثم في السنوات اللاحقة واصل أبناؤه النضال من أجل إحياء القبيلة الذهبية، التي لم يعد لها وجود في بداية القرن السادس عشر.