على الضفة اليسرى لنهر الفولغا، قامت دولة خانية قازان في القرون الوسطى، ولم يكتب لها أن تدوم سوى قرن وبضع سنوات، حينها عاش شعب التتار ذو الأصول التركية تحت نظام حكم إسلامي، أسسه أولوغ محمد عام 1438 وانتهى مع يادكار محمد، إذ كان العام 1552 نذير شؤم للتتار المسلمين، بعد تفكك دولتهم على يد القيصر الروسي إيفان الرابع الملقب بـ”الرهيب”، ليكون أول سلافي يستولى على معقل تتاري.
بمجرد أن أحكمت سيطرتها على دولة خانية قازان، أقرت روسيا القيصرية سياسة تنصير التتار المسلمين في منتصف القرن الـ16، هؤلاء أصبحوا يعرفون بالتتار المعمدين أو “كريشوني تتار” كما يطلق عليهم الروس، ورغم أنهم تتار، فإنهم يعدون أنفسهم اليوم وحدة عرقية مستقلة في بلد يضم أكثر من 150 عرقية مختلفة.
لماذا الخلط بين التتار والمغول؟
ليس للتتار أي صلة عرقية بمغول جينكيز خان، ومع ذلك يتم الخلط بينهما في كثير من الأحيان، على اعتبار أنهم كانوا جزءًا من الإمبراطورية المغولية في القرن الـ13، الممتدة من حدود الصين الشرقية وحتى تخوم أوروبا الوسطى، وقد جرى خلال هذه الفترة إلحاق التتار بالجيش المغولي، إلا أنهم في الأصل شعب تركي.
لعل من أبرز أسباب هذا الخلط، حسب ما ورد في كتاب “جوامع التاريخ: تاريخ المغول” لرشيد الدين فضل الله الهمذاني، أن التتار كانوا أصحاب نفوذ وكانت لهم الغلبة على المغول، لهذا أطلق اسم التتار على جميع القبائل بما فيها قبائل المغول، لكن مع مجيء جينكيز خان وهولاكو وغيرهما من القادة البارزين، انقلب ميزان القوى لصالح المغول ونسب إليهم كل شيء.
كُسرت شوكة الإمبراطورية المغولية بعد معركة عين جالوت، وآن لحكام التتار أن يتخذو الإسلام دينًا، إذ انضموا مع مجموعة من القبائل التركية والمغولية تحت لواء ما كان يعرف حينها بـ”القبيلة الذهبية” التي استمرت ما يزيد على قرنين ونصف بدءًا من 1242 إلى 1502، حيث شغلت منطقة واسعة من بلاد القبجاق التي كانت تمتد من نهر إيرتش في سيبريا شرقًا إلى نهر الفولغا غربًا، ومن روسيا الأوروبية شمالًا إلى آسيا الصغرى وإيران وتركستان جنوبًا.
سقوط خانية قازان
كانت خانية قازان واحدة من الدول التي خلفت القبيلة الذهبية، منذ 1438 غطت الجمهوريات الروسية الحديثة التي تعرف حاليًّا بجمهورية تتارستان، ماري إل، تشوفيشيا ثم موردوفيا، إلى أن جاء احتلال روسيا القيصرية لهذه الدولة البلغارية التترية معلنًا نهايتها سنة 1552.
أصبحت جمهورية تترستان ذات الأغلبية المسلمة، وعاصمتها قازان أو كازان، تحيي رسميًا “ذكرى شهداء قازان”، في يوم يصادف سنويًا التقويم الهجري 13 شوال، بدءًا من العام 2021، ليصير بمثابة تقليد يسترجع أحداث التصدي للحصار الذي أقامته موسكو ضد خانية قازان، خلال فترة حكم القيصر إيفان الرهيب الذي شن حملات عدوانية لتوسيع رقعة الأراضي الروسية.
لقد وضع إيفان الرهيب حدًا لاستمرار خانية قازان كدولة مستقلة، لتصبح جزءًا من الدولة الروسية، إذ كان حصار 1552 هو الخامس على التوالي بعد سلسلة من الحصارات التي شنتها القوات الروسية في أعوام 1487 و1524 و1530 و1550 ميلادية، فقد نظر إيفان الرهيب بشوق إلى قازان التي كانت حصنًا منيعًا ضد مشروعه التوسعي، وليس فقط طريقًا لغزو منطقة الفولغا، لكن أيضًا جبال الأورال وسيبيريا.
اتضح أن الهجوم الأخير على قازان عام 1552 كان ناجحًا، فقد جرى التخطيط له وتنفيذه بعناية بالغة، إذ طبق الجيش الروسي جميع المخططات الهندسية العسكرية المستجدة آنذاك التي كان يفتقدها جيش التتار في الطرف الآخر من الحرب، فكان سقوطه نتيجة منطقية فتحت الطريق أمام روسيا للتوسع على طول نهر الفولغا، وساهم في توفير شروط الغزو اللاحق لخانية أسترخان المسلمة، على تخوم بحر قزوين.
ما فعله القيصر بالمسلمين
أوعز إيفان الرهيب ببناء كاتدرائية القديس باسيل في موسكو، تخليدًا لحروب الاسترداد الروسية على حساب القبجاق، ولم تمض سوى أعوام قليلة على سقوط خانية قازان، حتى ساء مصير التتار المسلمين، بعدما نهج القيصر سياسة القضاء على الإسلام، فمارس عليهم شتى أنواع التمييز والاستعباد، وذهب إلى هدم المساجد وترحيل المسلمين وغيرهم من الأقليات غير الأرثوذوكسية أو تعميدهم على غير إرادتهم.
كان إيفان الرهيب من أشد المولعين بالقتل وسفك الدماء، لدرجة أنه فعل ما لم يخطر على بال أحد، ففي لحظة طيش وغضب قتل ابنه ووريث عرشه، كما حامت شكوك حول أنه هو من دبر قتل زوجاته الثمانية، ويروى أن أحد جنوده انتقده، فقام القيصر بتعذيبه نفسيًا، حيث أمر بجلب زوجة الجندي وجعل عددًا من الرجال يغتصبونها أمام عينيه ثم قتله.
الويل لمن كان يبدي مقاومة ضد التنصير القسري، فحسب ما تقول الروايات الشعبية التتارية، “إن جنود إيفان الرهيب كانوا يجبرون الرافضين لاعتناق المسيحية على الإلقاء بأنفسهم في النهر من فوق صخرة، تحولت فيما بعد إلى مزار تاريخي يجسد الظلم الذي تعرض له سكان منطقة قازان”.
أثار إيفان الرهيب رعبًا جماعيًا، إذ أمر بتعذيب وإعدام جميع التتار الذكور الذين يزيد طولهم على عجلة العربة، ومن هنا جاءت مقولة “يتيم قازان”، ولم يتعرض الرجال وحدهم للإبادة، بل شمل النساء أيضًا خلال هذه الحملة التي شهدت تعميدًا جماعيًا للتتار تحت التهديد بعقوبة الإعدام، وفي أغلب الأحيان نفذت عمليات الإعدام في الساحات والشوارع الكبيرة.
بحلول عام 1557 بقي 6 آلاف شخص في قازان من أصل 40 ألف تتاري، وفقًا لحسابات عالم الآثار السوفيتي والباحث في تاريخ وثقافة شعوب منطقة الفولغا، ميخائيل خودياكوف، كان هناك ما لا يقل عن 7 آلاف روسي، حتى تحول التتار إلى أقلية عرقية في عاصمتهم وصاروا في وضع المنبوذين.
بعد استيلاء قوات إيفان الرهيب على خانية قازان، انتهى عصر الازدهار لشعب التتار، حيث سلمت الدولة للجنود لكي ينهبوها، وسرعان ما امتدت قوافل البضائع من قازان على طول الطريق إلى موسكو، فكانت لا تعد ولا تحصى.
من وجهة نظر القوميين التتار، يعد إيفان الرهيب المسؤول عن كل المشاكل اللاحقة لشعب التتار، لذلك على سبيل المثال، يقع عليه اللوم المباشر في التسبب بالمجاعة التي اجتاحت منطقة الفولغا في عشرينيات القرن الماضي.
مقاومة العودة إلى الإسلام
يوكد المؤرخ التتاري مارسيل أحمدزيانوف قائلًا: “بعد الاستيلاء على قازان، عمّد إيفان الرهيب التتار بالقوة، قبل ذلك لم يكن هناك كرياشين (أي التتار المعمدين)”، ثم استطرد موضحًا: “بشكل خاص، تكثفت هذه العملية في القرنين 17 و18، لكن التتار أعلنوا مقاومة شديدة”، وفي القرن الموالي أخذت هذه العملية تضعف، وبدأت العودة إلى الإسلام تتخذ نطاقًا واسعًا، “ثم التحق مبشرون ذوو معرفة جيدة باللغة التتارية والعربية والقرآن، الذين حاولوا التأثير بالإقناع والنقد غير المزعج للمسلمات الأساسية للإسلام، لقد كان من الضروري الحفاظ على جزء من التتار المعمدين على الأقل” وفقًا للمؤرخ أحمدزيانوف.
كان من الضروري قطع الاتصال مع العالم الإسلامي، من خلال الكتابة في المقام الأول، يكشف أحمدزيانوف أن المستشرق الروسي نيكولاي إلمينسكي أدرك وغيره من المبشرين أن منع التتار المعمدين من العودة إلى الإسلام يجب أن يتم من خلال لغتهم الأم، لذلك بدأوا في ترجمة الأدب الديني المسيحي إلى لغة التتار، وطوروا أبجدية خاصة على أساس الأبجدية السيريلية الروسية.
لم تكن لتتحسن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين خلال ظرف زمني محدود، بسبب ما قاساه التتار من أهوال العنف على يد إيفان الرهيب، لذلك عاش آل كرياشين (التتار المعمدون) حياة منعزلة لسنوات عديدة ولم يكن لديهم اتصال يذكر ليس فقط ببيئتهم المسلمة، ولكن أيضًا بالروس، وشيئًا فشيئًا بدأوا في الاقتراب من المسيحيين الأرثوذكس الآخرين فقط بفضل نيكولاي إلمنسكي، الذي أصبح مؤسس “كرياشين المثقفين”.
حاليًّا يُقدر عدد “آل كرياشين” بنحو 35 ألف يتمركزون في جمهورية تتارستان، وفقًا لإحصاء عام 2010، وهؤلاء يعارضون تبسيط أصلهم واختزاله في قصة التتار المعمدين، لكن وفقًا لوجهة النظر المقبولة عمومًا، فإن تنصير جزء من تتار الفولغا خلال القرن 16 و17 (يُطلق على هذا المجتمع التاريخي اسم “التتار المعمدون القدامى”) فضلًا عن تنصير الشعوب غير الروسية في منطقة الفولغا في بداية القرن الثامن عشر (التتار المعتمدون حديثًا) كان له تأثير حاسم في تشكيل عرقية آل كرياشين.