الصقالبة
مغامرة فذة انطلقت من بغداد إلى تخوم نهر الفولغا، بإيعاز من الخليفة العباسي المقتدر بالله، ففي القرن العاشر الميلادي، ارتحل أحمد ابن فضلان ضمن بعثة رسمية قاصدًا بلاد الصقالبة البلغار الواقعة حاليًّا في جمهورية تتارستان الروسية، ثم سرد تفاصيل هذه الرحلة في رسالة فريدة حملت بين طياتها أقدم وصف أجنبي لبلاد الروس وجزء من شرق أوروبا، كتبها عام 922 ميلادية.
اليوم تحتفل الجمهوريات الإسلامية في روسيا، وخاصة تتارستان، بيوم وصول ابن فضلان إلى بلغار الفولغا باعتباره عيدًا دينيًا.
سفارة إلى ملك السلاف
خرجت هذه البعثة استجابة لكتاب أرسله ملك الصقالبة (السلاف) ألمش ابن يلطور، يسأل فيه أمر المؤمنين أن يبعث إليه من يُفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدًا وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة، ويسأله بناء حصن منيع ضد هجمات الملوك المعادين له.
مسار محتمل للرحلة
من هم الصقالبة
الصقالبة هم عرق سلافي، يشكلون غالبية شعوب روسيا وأوكرانيا وصربيا وسلوفينيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وصربيا فضلًا عن وجودهم القوي في بلدان القوقاز، وكانوا عناصر مهمة في جيوش المسلمين بالنظر إلى مهاراتهم القتالية وقوة أجسادهم التي مكنتهم من تبوء مناصب قيادية في الحرب والإدارة والحكم إبان عهود الأمويين والعباسيين والفاطميين والبيزنطيين والأيوبيين والمماليك وحتى العثمانيين.
يذكر ابن خلدون أن الصقالبة هم أخوة الترك والخزر، وجعل المؤرخ المسعودي جنس الصقالبة أحسن الترك، مشيرًا إلى أنهم ينحدرون من ولد ماراي ابن يافث ابن نوح، أما النسابة ابن الكلبي فعد الصقالبة أخوة الأرمن واليونان والفرنجة.
اكتشاف خريطة رحلة أحمد بن فضلان إلى بلغار الفولغا التترية
في القرون الوسطى أطلق الجغرافيون اسم الصقالبة على شعوب تنحدر من الأراضي الواقعة بين القسطنطينية وأرض البلغار أي بجوار بلاد الخزر – التي كانت تقع قديمًا في منطقة القوقاز وبحر قزوين وشمال تركيا -، ومن الصقالبة من سكن شمال القارة الأوروبية وعلى ضفاف نهر الفولغا.
يتطيرون ويتبركون
لم يكن الإسلام متجذرًا في السلوك الديني للصقالبة البلغار، وهو ما أورده ابن فضلان في كتابه، إذ لم يكن راضيًا بشكل عام عن سطحية تمثل هؤلاء القوم للمعتقد الديني، فقد ذكر: “وقد كان يُخطَب له على منبره قبل قدومي: “اللهم أصلح الملك يلطور ملك البلغار”، فقلت أنا له: “إن الله هو الملك، ولا سمي على المنبر بهذا الاسم غيره – عز وجل – وهذا مولاك أمير المؤمنين قد رضي لنفسه أن يقال على منابره في الشرق والغرب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين”.
اندهش ابن فضلان عندما رأى الناس هناك يعتقدون في عواء الكلب دلالة على الخير وفيض الرزق، فهم يتبركون به ويفرحون به ويقولون لبعضهم البعض كلما سمعوه: “سنة خصبة وبركة وسلامة”، بينما يتطيرون من البيت الذي ضربته صاعقة، حيث يقولون عنه: “هذا بيت مغضوب عليهم”، فلا يقربونه أبدًا ويتركونه بما فيه من ناس ومال إلى أن يصير أطلالًا مع مرور الأيام.
النساء لا تستترن
أولى الرحالة قدرًا من الاهتمام بأحوال النساء ومدى التزامهن بتقاليد الدين الإسلامي، إذ نجده يستنكر نزول الرجال والنساء مجتمعين للسباحة في النهر عراة، ثم يتابع قائلًا: “ومازلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة، فما استوى لي ذلك”، وشهد أنهم لا يبيحون الزنا ويقتلون الزاني كما يقتلون السارق.
كان الصقالبة يطبقون حد الزنا بأن يشدوا رجلي ويدي الرجل أو المرأة إلى أربعة سكك، وهي الأسطر المصطفة من الشجر، ثم يقطعونه بالفأس من رقبته إلى فخذيه، حسب وصف ابن فضلان، كان القتل هو عقاب القاتل عمدًا، أما القاتل عن غير قصد، يضعونه داخل صندوق ويعلقونه حتى يبليه الزمان وتهب به الريح، وهذا الذي أثار استغراب مرسول الخليفة العباسي.
غرابة الدفن
أما شأن الميراث فكان يدعو للغرابة كذلك، فإذا مات منهم رجل ورثه أخوه دون ولده، فكان لابن فضلان أن نهى الملك ألمش ابن يلطور عن هذه القسمة لأنها غير جائزة في الإسلام، وعرّفه نظام الميراث حتى فهمه.
وكذلك كانت عادات الدفن والجنازة لدى الصقالبة تخالف الطريقة الإسلامية، ولو أنهم يغسلون الميت على طريقة المسلمين، لكنهم يحملون الرجل الحر أو من كبار القوم على عجلة تجره إلى موضع الدفن، ثم يضعونه على الأرض ويرسمون حوله خطًا كي يحفروا داخل الخط حفرة يدفنون فيها الميت بعدما يجعلون له لحدًا، أما في حال الميت من العامة فيفعلون بعض هذا بموتاهم.
البكاء ممنوع على النساء، الرجال الأحرار وحدهم من يبكون، بعد ذلك يأتي عبيد الميت إليه، ويلبسون على أطرافهم أحزمة، ويضعون علمًا على باب قبة قبر الميت، ويأتون بسلاحه، ويبكون عليه سنتين دون انقطاع، وفي النهاية يدعون بدعوة إيذانًا بخروجهم من الحزن، بعد أن يحطوا العلم ويقصوا من شعرهم، ثم يحق لزوجة الميت الزواج من بعده مرة أخرى، وفق ما رواه ابن فضلان.
أمجاد في الفتح
اضطلع الصقالبة بأدوار بارزة في الفتح الإسلامي بروسيا وإيران وأذربيجان والقوقاز، وفق ما ورد في كتاب “جامع التواريخ” للمؤرخ الفارسي رشيد الدين الهمذاني، ففي عصر عمر بن الخطاب دخلت داغستان الإسلام، وكان خليفة المسلمين في عام 639 قد أرسل جيوشًا على رأسها عياض ابن غنم لفتح أرمينيا وكرجستان (جورجيا حاليًّا)، بينما قاد حذيفة ابن اليمان الفتح الإسلامي لأذربيجان الشمالية، أما أذربيجان الجنوبية التي تضم الأقاليم الأذرية في إيران، فقد غزاها عتبة ابن فرقد السلمي، وبالتالي بسط المسلمون سيطرتهم على منطقة القوقاز بين عامي 638 و644 بمساعدة الصقالبة.
رغم السنوات الطويلة التي أعقبت الفتح الإسلامي، لم ينغرس المعتقد الإسلامي بعمق في سلوكيات وعادات شعب الصقالبة البلغار، البلاد التي يشار إليها في المراجع الحديثة باسم فولغا بلغاريا، البعيدة جدًا عن مركز الدولة الإسلامية، ولعل أول اتصال مباشر بها تم من خلال هذه السفارة.