كانت العقود الثلاث لحكم كاثرين الثانية أفضل حالًا للمسلمين، إلى حد ما، مقارنة بعهد إيفان الرابع والقياصرة الـ21 الذين اعتلوا العرش الروسي من بعده، فكاثرين العظيمة وقعت مرسومًا بشأن التسامح بين جميع الأديان في روسيا عام 1773، وبدأ إدماج علماء الدين المسلمين في المربع الذهبي للحكم.
لكن في عهد القيصر الأخير نيقولا الثاني، عندما كانت الإمبراطروية الروسية تتجه نحو حافة الانهيار، دخل المسلمون منعطفًا مظلمًا، فقد كانت الجبهة القوقازية ضمن مسرح عمليات الشرق الأوسط للحرب العالمية الأولى، آنذاك توهجت مطامع القيصر باجتياح القسطنطينية وإعادة الصليب إلى آية صوفيا، فتحالف مع فرنسا وبريطانيا العظمى ضد الدولة العثمانية.
البرنامج الآسيوي الكبير
خلال عهود القياصرة، كانت تطلعات الإمبراطورية الروسية نحو الجنوب دائمًا في صلب اهتمام السياسة الخارجية القيصرية منذ عهد بطرس الأكبر (1682 – 1725) وكاترين الثانية (1762 – 1796)، وحتى عهد نيقولا الثاني (1894- 1917).
منذ السنوات الأولى لحكمه أولى نيقولا الثاني اهتمامًا خاصًا لزحف روسيا نحو الشرق الأوسط، فكانت خطط القيصر هي تنفيذ “برنامجه الآسيوي الكبير”، معلقًا آماله على العلاقات مع العالم الإسلامي، لهذا أثار التقدم الروسي نحو الشرق مقاومة شديدة من بريطانيا العظمى التي حاولت تأليب المسلمين على روسيا.
في محادثة جرت مع وزير الحرب أ. ن. كورباتكين في أغسطس/آب 1897 أعرب نيقولا الثاني عن اقتناعه الراسخ بأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال معارضة المسلمين قائلًا: “نحن نتعايش معهم بشكل أفضل”، ورد عليه كوروباتكين: “نحن نُلزم أهلنا بالإنسانية”.
من المعروف أن نيقولا الثاني كان مؤمنًا بعمق بالمسيحية، والإيمان الأرثوذكسي العميق هو بالضبط ما جعل القيصر شخصًا متسامحًا دينيًا، فمنذ صغره أقام علاقة صداقة مع أمير بخارى سعيد عليمخان، وكانت بخارى جزءًا من الإمبراطورية الروسية على أساس اتحادي، لكنها ظلت مستقلة رسميًا عن موسكو، فكانت العلاقة قائمة على “اتحاد الأخ الأصغر مع الأخ الأكبر”.
حملة القوقاز ضد الأتراك
هي الحرب التي شاركت فيها أعداد كبيرة من مسلمي القوقاز، فقد جنّد القيصر الروسي منهم مليون ونصف، بشكل إجباري، وعلاوة على ذلك أكره العديد من أبناء المسلمين على العمل بنظام السخرة في خدمة الجيش إبان الحرب العالمية الأولى.
امتدت سلسلة من المعارك بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية خلال الحرب العالمية الأولى من 24 أكتوبر/تشرين الأول 1914 حتى توقيع العثمانيين للهدنة في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، وقد تركزت المعارك ضمن منطقة القوقاز ثم امتدت لتشمل المناطق العثمانية في شرق الأناضول.
عشية الحرب كان هناك ممثلو الشعوب المسلمة الذين خدمو في الجيش الروسي النظامي، كما يحصي المؤرخ الروسي سَالفات إسخاقوف من مليون إلى 1.5 مليون جندي مسلم، ما يمثل 10% من العدد الإجمالي، بما فيهم 13 جنرالًا، وكان هناك 269 من الضباط، 186 برتبة عقيد ومقدم ونقيب و38 ألفًا من أصحاب الرتب الأدنى.
وإذا كانت بعض الكتابات التاريخية الروسية تزعم أن مشاركة المسلمين في حملة القوقاز ضد الدولة العثمانية، كانت نابعة من إحساسهم القومي بالانتماء إلى الإمبراطورية الروسية، وتصديًا لرغبة الأتراك في التوسع على حساب القوقاز ذات البعد الإستراتيجي، فإن التجنيد لم يكن اختياريًا، وبالفعل عانى المسلمون في روسيا من قانون التجنيد الإجباري في آسيا الوسطى خلال الحرب العالمية الأولى.
على سبيل المثال، يقول مؤرخ موسكو بيتر مولتاتولي: “عشرات القوميات خدمت القيصر الأبيض مؤمنة بفكرته المقدسة التي وحدت البلاد”، وأشار إلى أنه “في عهد نيقولا الثاني ازدهر الإسلام الروسي، في الوقت الذي لم تكن هناك خلافات في الأمور الدينية”.
تبعًا لما جاء في كتاب “نيقولا الثاني والمسلمين” لبيتر مولتاتولي: “في ذلك الوقت ازدهرت المدرسة والتعليم الإسلامي، إلى جانب تطوير ودعم الأرثوذكسية والبوذية، كما يتضح موقف التتار المخلص لعرش نيقولا الثاني من خلال برقيات الامتنان الكبيرة التي أرسلوها إلى القيصر في الذكرى الـ300 لحكم سلالة رومانوف”.
والحقيقة أن مسلمي القوقاز تمردوا ضد التجنيد الإجباري، أعقب ذلك قمع وحشي، قتل فيه الروس نحو 83 ألف شخص في صيف 1916، وجعلت الأزمة القيصرية في عام 1917 ملايين المسلمين راديكاليين، فقد طالبوا بالحرية الدينية والحقوق الوطنية التي حرمتها الإمبراطورية منهم.
نواة الثورة ضد القيصر الأخير
إذا كان المسملون قد أجبروا على الانضمام إلى حملة القوقاز، فإن النظام القيصري استعان بفتوى الحرب التي أصدرها عدد من شيوخ الإسلام، بإيعاز منه، حيث حثت هذه الفتوى جميع المسلمين في أرجاء الإمبراطورية الروسية على القتال حتى آخر قطرة دم من أجل “القيصر والوطن الأم”.
في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1914 دعا مفتي أورينبورغ محمد يار سولطانوف المسلمين الروس في فتواه، قائلًا: “نحن المسلمين مع الشعب الروسي بأسره في هذه الأوقات الصعبة، يجب أن نساعد دولتنا لصد الأعداء.. في أوقات الحروب السابقة، أظهر المسلمون الروس تضحية كبيرة بالنفس دفاعًا عن الوطن، وفي أوقات الأحداث الحقيقية التي تمر أمامنا، بإذن الله، سيُظهرون مرة أخرى حب الوطن بقوة”.
في مخاض هذه الأحداث، برز تيار التجديد واقفًا ضد العلماء المسلمين في روسيا، وصحيح أن أنصار هذا التيار الذين أطلقوا على أنفسهم “البخاريين الشباب” أيدوا المشاركة في الحملة عام 1914، لكن بعد سقوط الكثير من القتلى، انقلب التجديديون ضد الفتوى التي أصدرها الشيوخ المسلمون، في حين استبشر فلاديمير لينين بأن تمرد هؤلاء الشباب ضد القيصر سيكون عاملًا مساعدًا للبلاشفة من أجل الإطاحة بالنظام القيصري.
ولم يكن التجديديون وحدهم من بين مسلمي روسيا القيصرية الذين انجذبوا إلى البلشفية، بل برز هناك نقاش واسع النطاق بين المسلمين بشأن تشابه القيم الإسلامية مع المبادئ الاشتراكية، تمخض عن ذلك ظهور تيار “الاشتراكية الإسلامية” الذي دعم أنصاره فكرة لينين بتقسيم تركستان إلى جمهوريات سوفيتية.