قيام الدولة الإسلامية وإعلان الخلافة هدف مشترك بين كل الحركات والتيارات الإسلامية الموجودة، بل ربما يكون هو الهدف الوحيد المتفق عليه فيما بينهم، ويختلفون بعد ذلك كثير في شكل تلك الدولة والوسائل الموصلة إليها؛ فمنهم من يتخذ طريق الدعوة ومنهم من ينتهج السياسة وآخرون يتبنون الجهاد، و لكل أدلته العقلية والنقلية التي يحاجج بها غيره.
التوافق على المصطلحات يحل الكثير من المشاكل، وذلك ما لم يتم في موضوع الخلافة والمُلك – فيما يبدو – على الرغم من أهميته وخطورته، والحديث المعروف يفرق بين الملك والخلافة، فعلى أي أساس يمكن القول أن ذلك خليفة والآخر ملك؟!
يتحدث أنصار البغدادي مدافعين عن شرعية (خلافته) بالأدلة من كلام الفقهاء مثل شرط الشوكة والمنعة وشرط القرشية، وهذا الفقه في الخلافة والسياسية الشرعية لم يوجد إلا على عهد الملوك، ويخالف ما درج عليه الخلفاء الراشدون الأربعة، وما زال أنصار البغدادي يدعون للعودة لسنة الراشدين، فلماذا يستثنونها هنا ويأخذون ممن بعدهم ممن خالفهم؟!
يفرق المودودي بين الخلافة والملك من خلال طرحه لمقارنة بين الخلفاء الأربعة الراشدين ومن أتى بعدهم من ملوك الإسلام، معتمدًا على النصوص وبالإضافة لأفعال الراشدين الأربعة، نذكر منها ثلاثًا أساسية وهي مفهوم البيعة وحرية الرأي وحال بيت المال.
أولاً: مفهوم البيعة، فلا يكون الخليفة خليفة شرعيًا إلا بعد مبايعة المسلمين له، ولا يتم ذلك إلا برضى المبايعين، فإن لم يبايعوا فلا سلطة له عليهم وليس عليهم شيء، فالسلطة هنا هي حصاد البيعة وليس العكس، أما في حالة الملك فقد يكون بالتغلب والتمكن، وتكون البيعة له في هذه الحالة دفعًا للفتنة ورضى بالواقع المفروض، كون الملوك هم القيادة السياسية الحقيقية ويتحقق بهم الحد الأدنى من الدين، وبيعة بعض الصحابة للملوك هي من هذا الباب.
ثانيًا: حرية الرأي، وهو حق كل فرد من المسلمين في إبداء رأيه فيما يشاء ومنها انتقاد الخليفة ذاته، بل كان الخلفاء الراشدون يحثون الناس على نقدهم وتقويمهم وهذا من كمال خلافتهم، بينما اختفى ذلك النقد في عهد الملوك وعُد ذلك من انتقاص هيبة الملك، وبالتالي احتمالية الخروج عليه، وظنهم هذا في محله إذا علمنا أن البيعة لهم أُخذت بالتغلب وليس بالرضى.
ثالثًا: وضع بيت المال، حيث الفرق بيّن واضح، فالخليفة لا يأخذ إلا بحق ولا يعطي إلا بحق، والملك يأخذ من هذا ويعطي هذا، وفي هذا ضمان لسلطة الخليفة أن تبقى محدودة بحدود الشرع حيث لا تَعظُم تلك السلطة بالمال وترتبط حقوق المسلمين من بيت المال برضاه أو سخطه.
إذا وضعنا دولة البغدادي في مقارنة بسيطة ضمن تلك المعايير، فالظاهر من خلال ما نعلم أن واقعهم بعيد جدًا عن كونهم دولة خلافة، وهم لا يعْدوا كونهم مملكة من ممالك الإسلام قامت بالغلبة وتقيم الحد الأدنى من الدين، بغض النظر عن الخلافات الكثيرة عن كيفية وآليات ذلك التطبيق.
دولة البغدادي ليست استثناء في التاريخ، حيث تشبه في ظروف نشأتها وتوسعها الكثير من الممالك عبر التاريخ، وهل بدأ العصر العباسي مثلاً إلا بمجازر بحق الأمويين وكل من خالفهم، أو حتى ضمن دعوتهم ذاتها؟ وهل قامت الولايات المتحدة الأمريكية إلا على جماجم الهنود الحمر؟! وليس ذلك تبرير وإنما محاولة للفهم.
قد تشكل دولة البغدادي استثناء .. نعم، ولكن في الواقع المعاصر، حيث تعبر عن حالة فكرية غريبة، تعيش أسيرة للنص وفتاوى الفقهاء السابقين، عاجزة عن تجريد المعاني من سياقها التاريخي، فهي لا تعود للقيم والأسس الإسلامية إلا بقدر ما تكبل نفسها بمضمون ذلك التاريخ.
وأخيرًا، لا يخرجنا من هذا المأزق الاكتفاء بفقه ترقيعي تبريري يجيب على الأسئلة بفتاوى متفرقة هنا وهناك، وإنما بإعادة قراءة للتاريخ والنصوص قراءة تأصيلية تقرأ النص بضوء الواقع، وتضعنا على بداية الطريق عوضًا عن هذه الفوضى التي نعيشها، والتي تخرج لنا كل يوم ما يثير العجب!