في مثل هذا اليوم قبل 4 سنوات خرج وزير الدفاع السوداني الأسبق، عوض بن عوف (نائب الرئيس حينها) ببيان أعلن فيه التحفظ على الرئيس السوداني عمر البشير، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي، استجابة لمطالب الشارع الثائر منذ 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، رافعًا شعارات الحرية والعدالة والكرامة وإسقاط نظام الإنقاذ.
ومع الإطاحة بالبشير بعد 3 عقود كاملة من الهيمنة على الحكم، تصاعد منسوب الأمل والتفاؤل لدى الشعب السوداني في بدء مرحلة جديدة من النمو والرخاء والديمقراطية وطي صفحة الديكتاتورية العسكرية للأبد، مدفوعين بحالة زخم ثوري لم تشهدها البلاد في تاريخها الحديث، لتقدم واحدة من أنصع التجارب الثورية في المنطقة.
اليوم ومع الذكرى الرابعة لعزل البشير من منصبه وتقديمه للمحاكمة، هناك العديد من علامات الاستفهام تطل برأسها باحثة عن إجابة: ما الذي تغير في البلاد؟ هل وأد الحكم العسكري على أعتاب الديمقراطية المأمولة؟ هل حقق السودانيون طموحاتهم حين أطاحوا بالجنرال من فوق كرسي الحكم؟ هل نجحوا في ترجمة شعارات الثورة إلى واقع وممارسات عملية؟ ماذا عن الاقتصاد والحياة المعيشية للمواطنين؟
المدنية.. البلاد لم تزل في قبضة العسكر
من بين الشعارات الأبرز التي رفعها المتظاهرون في السودان منذ اليوم الأول للتظاهرات إسقاط حكم الجنرالات وإنهاء حقبة العسكر، وهو الشعار الذي توهم السودانيون أنه قد تحقق بعد عزل البشير، ومن بعده نائبه بن عوف، لكن يبدو أن الأمور لم تسر كما كان يخطط لها، فبعد 4 سنوات من خلع الرئيس السابق لم تزل السلطة بأكملها في قبضة العسكر.
منذ اليوم الأول لعزل البشير حرص الجنرالات على عدم ترك السلطة، يقينًا أنهم الضمانة الوحيدة – ليس لبقاء نفوذهم فقط – لكن لضمان حريتهم وعدم محاسبتهم على ما اقترفوه من جرائم ضد السودانيين، سواء خلال أيام الثورة الأولى أم أيام البشير ونظام الإنقاذ.
لم يقتنع الشارع بمزاعم الانحياز للثورة التي رددها بن عوف وبعض الجنرالات حينها، حيث استمرت الاحتجاجات والاعتصامات التي دفعته للاستقالة، ليتم تدشين مجلس عسكري جديد بقيادة المفتش العام للجيش حينها، الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبًا له، وكان ذلك أول فخ وقع فيه السودانيون حين انطلى عليهم الترويج لدعم الجنرالين للمطالب الشعبية وأنهما وإن كانا من أبناء نظام البشير لكنهما من المؤيدين للثورة والثوار.
وحاول الشارع الثائر استمرار فرض حالة الضغط على السلطة العسكرية الانتقالية الجديدة بالاعتصام في محيط مقر القيادة العامة للجيش حتى تلبية جميع المطالب وتشكيل حكومة مدنية تمهيدًا لإجراء انتخابات عامة وتسليم السلطة للمدنيين كأحد أبرز المطالب الثورية، لكن يبدو أن ذلك لم يرق للعسكر الذين سرعان ما كشفوا عن وجههم الحقيقي بعدما استقروا على رأس السلطة.
وفي 3 يونيو/حزيران 2019، وقعت جريمة فض الاعتصام، تلك الجريمة التي أسفرت عن سقوط 120 قتيلًا ومئات الجرحى والمصابين، وهي الحادثة التي لم يقدم مرتكبوها للمحاكمة حتى اليوم رغم الضغوط والوعود واللجان التي شكلت لكنها جميعًا كانت من أجل امتصاص حالة الغضب الناجم عن بشاعة الموقف ووحشيته.
انتقل سرطان الفساد الذي عشش في كل زوايا الدولة خلال عهد البشير إلى سراديب السلطة الانتقالية
وأمام الزخم الثوري الذي لم يتوقف اضطر العسكر للاستجابة لمطالب الشارع بتشكيل مجلس سيادة مكون من مدنيين وعسكريين وتشكيل حكومة جديدة يرأسها الاقتصادي المعروف عبد الله حمدوك، لكنها واجهت عثرات وعراقيل – بعضها حقيقي والآخر مفتعل – حالت دون تنفيذها للخطط الطموح، وسط اتهامات للعسكر بعرقلة عملها لمحاولة إفشالها وإثارة الانقسامات بين التيارات السياسية بما يجهض التجربة الديمقرطية المدنية ويمنح الجنرالات فرصة الانفراد بالسلطة مرة أخرى دون شريك أو منافس.
وبالفعل نجحت الخطة، وانقسم الشارع، وتفرقت دماء الثورة بين عشرات التيارات والجماعات والتشكيلات المنضوية جميعها تحت لواء المدنية، وفي تلك الأجواء المهيأة تمامًا للانقضاض على الثورة، نفذ البرهان انقلابه العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، مطيحًا بالحكم المدني بشكل رسمي.
لم يصمت السودانيون على تلك المجزرة التي مارسها البرهان ورفاقه بحق المدنية والديمقراطية، فاكتظت الشوارع والميادين بالتظاهرات العارمة التي لم تتوقف، سقط خلالها مئات القتلى فيما شنت السلطات العسكرية حملات اعتقالات شعواء بحق النخبة السياسية وقادة الثورة، الأمر الذي زاد من اشتعال الموقف ووضع العسكر في مأزق حقيقي أمام المجتمع الدولي وفي الداخل كذلك.
في تلك الأثناء نخر الانقسام جسد المكون العسكري، وبدأت الخلافات الناجمة عن الرغبة في الاستحواذ على السلطة تدب بين الجيش ممثلًا في البرهان وقوات الدعم السريع ممثلة في حميدتي، وأمام تلك الوضعية الصعبة لم يجد الجنرالات بدًا من الرضوخ للضغوط الخارجية والقبول في ديسمبر/كانون الأول الماضي باتفاق مبدئي مع مجموعة من التيارات المدنية من أجل التحول إلى الديمقراطية والحكم المدني.
التاريخ يعيد نفسه مجددًا، فما حدث في 2019 يتكرر حاليًا بشكل أو بآخر، فالرضوخ أمام الضغوط لم يستمر طويلًا، خاصة بعد امتصاص حالة الغضب العارمة، ليختلق العسكر الأزمات مجددًا لعدم تمرير الاتفاق الموقع عليه، وعرقلة خطة التحول الديمقراطي، في إصرار ممنهج على التشبث بالسلطة التي يبدو أن سلخها من الجلد العسكري مسألة شاقة، تحتاج إلى وقت طويل وضحايا بالجملة.
الإنقاذ.. النظام لم يسقط بعد
إسقاط نظام الإنقاذ.. تصدر هذا الشعار شوارع السودان بعد عزل البشير، فالهدف لم يكن رأس النظام فقط، بل تفكيك قاعدته بالكلية، فالاكتفاء بالرأس دون الذيل يُبقي على الحياة في جسد هذا النظام، وهو ما كان بالفعل، حيث توهم المتظاهرون أنه بعزل البشير قد انتهى أمر هذا النظام الذي جثم على صدور الشعب لأكثر من 30 عامًا.
في البداية وأمام الأمواج الثورية الهادرة تم تجميد العديد من رموز الإنقاذ من نخبة القيادات في شتى القطاعات، وأزيح حزب المؤتمر الحاكم عن المشهد، لكنها كانت مرحلة مؤقتة لتخدير الأجواء المفعمة بروح الحماسة والثورة، فما إن تملك البرهان وحميدتي زمام الأمور حتى بدأت عودة الكيان تدريجيًا، البداية كانت في القوات المسلحة مرورًا منها إلى بقية القطاعات.
الحديث هنا عن تفكيك للإنقاذ بالجملة في غضون 4 أعوام فقط حديث يفتقد للموضوعية، أقرب للخيالات والوعود منها للواقع، خاصة أن عناصر هذا النظام وكوادره هي من تدير المشهد في شتى المجالات طيلة العقود الثلاث، ومن ثم فإن الإطاحة بها يعني تفريغ مؤسسات الدولة من كل كوادرها دون استثناء، ومن ثم ورغم غياب رأس النظام، فإن عناصره لم تزل في أماكنها، تمارس عملها بأريحية، حتى إن مالت للهدوء والابتعاد عن الأضواء مرحليًا، لكنها حاضرة بقوة من خلف الستار.
وفي ظل محاولة البرهان تثبيت أركان حكمه في ظل طموحه المتنامي للهيمنة على المشهد، كان لا بد من ظهير شعبي وسياسي للجنرال، وليس هناك أفضل من كوادر الإنقاذ المتغلغلة في جميع مفاصل الدولة للقيام بهذا الدور، حتى الإسلاميين المغيبين عن الساحة خلال الأعوام الثلاث الماضية بدأت تراودهم أحلام العودة مجددًا في ظل حالة الاستقطاب الحاليّة، ما يؤكد أن نظام الإنقاذ لم يسقط بعد وإن سقط رأسه.
أيقن الجنرالات ورجال الإنقاذ أن العقبة الأخطر أمام هيمنتهم على السلطة تتمثل في تلك اللحمة الثورية القادرة على هزيمة أي قوى أخرى حتى لو كانت تملك السلاح والنفوذ، ومن هنا كان الهدف الأول من خطة العودة تفتيت تلك اللحمة
انقسام التيار المدني
حين أعلن بن عوف عن عزل البشير من منصبه كان الشارع السوداني الثائر على قلب رجل واحد، وكانت هناك أرضية مشتركة تجمع كل الأطياف المشاركة في الثورة تحت لواء واحد وشعار واحد وهو إسقاط النظام وبناء دولة مدنية ديمقراطية جديدة، سودان جديد يجمع الكل تحت سقفه.
كان هذا التلاحم هو السمة الأبرز التي دفعت الثورة للاستمرار والصمود في مواجهة اعتداءات العسكر بداية الأمر، لكن سرعان ما تغير الوضع، إذ أيقن الجنرالات ورجال الإنقاذ أن العقبة الأخطر أمام هيمنتهم على السلطة تتمثل في تلك اللحمة الثورية القادرة على هزيمة أي قوى أخرى حتى لو كانت تملك السلاح والنفوذ، ومن هنا كان الهدف الأول من خطة العودة تفتيت تلك اللحمة.
وبالفعل تفنن العسكر في بث الانقسامات وروح الشقاق بين الأطياف السياسية الثورية، فقربت قوى الحرية والتغيير وأبعدت بعض التيارات الأخرى، ثم زرعت الخلاف بين القوى ذاتها ونخبتها، فاستمالت البعض وهمشت الآخر، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نشوب معركة من الاتهامات المتبادلة بين تلك التيارات، هذا يتهم ذلك بالخيانة والتحالف مع العسكر وذاك يتهم الآخر بعرقلة المسار الثوري والبحث عن أهداف ومصالح خاصة، وفي تلك المعمعة من تبادل التهم تلقت اللحمة الثورية طعنات غادرة أصابتها بالشلل التام في كثير من أعضائها.
اليوم وبعد 4 أعوام على عزل البشير يعاني الجسد المدني السوداني من انقسامات وصلت إلى حد الخصومة وتعدد التكتلات والتحالفات البينية الهشة، حتى في الاتفاق الأخير المزمع توقيعه بين العسكر والمكون المدني تمهيدًا لعملية الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي، يعاني المدنيون من جروح غائرة في جسد تلاحمهم، وهو ما يصب بطبيعة الحال في مصلحة الجنرالات التي تحاول تقديم نفسها على أنها القوة الوحيدة المتماسكة في البلد والقادرة على السيطرة.
الاقتصاد إلى الأسوأ
كان العامل الاقتصادي أحد دوافع ومحركات الاحتجاجات الرئيسية، فالمستويات المعيشية المتدنية للسودانيين تحت حكم البشير مثلت رقمًا صعبًا في معادلة الثورة، وكان الكثيرون يحملون السياسات النقدية والمالية والاقتصادية السابقة مسؤولية تفاقم الوضع في ذلك تفشي الفساد وغياب الرقابة وهو ما دفع بأكثر من 80% من السودانيين إلى آتون الفقر والعوز رغم أن الأرقام الصادرة عن البنك الدولي تشير إلى نصف تلك النسبة تقريبًا.
ومع الإطاحة بالبشير توقع البعض أن الأوضاع ستشهد تحسنًا كبيرًا في المؤشرات الاقتصادية ومن ثم المستوى المعيشي، لكن يبدو أن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، إذ ازداد الوضع تفاقمًا، فرغم ما حققته الثورة وإسقاط البشير من نتائج إيجابية تتعلق بإنهاء عزلة السودان عن المنظمات الدولية المالية ومخرجات مؤتمر برلين المنعقد في يونيو/حزيران 2020، الذي خلص لتعهدات بـ1.8 مليار دولار بجانب ملياري دولار من صندوق النقد الدولي، فإنها لم تكن على المستوى المطلوب، فالوضع أشد قسوة من أن يُحل بتك الأرقام الضئيلة.
وفي المقابل اضطرت الحكومة السودانية لتبني برنامج إصلاح اقتصادي جديد تحت ضغوط صندوق النقد للإفراج عن القروض المطلوبة، وكان من أبرز ملامحه تحرير سعر الوقود وزيادة أسعار الكهرباء وتخفيض قيمة الجنيه، ما كان له انعكاساته الكارثية على مستوى التضخم الذي قفز من 66.8% عام 2017 إلى 350.84% عام 2021 قبل أن يتراجع نسبيًا إلى 339.58% عام 2022، كما هوت العملة المحلية من 47.5 جنيه للدولار الواحد عام 2018 إلى 447.5 جنيه للدولار عام 2022.
رغم هذا الوضع المأساوي الذي تحياه البلاد منذ عزل البشير وانخفاض مستوى الطموح إلى ما دون الصفر، فإن الأمل لم يغب بعد عن مخيلة الثوار الذين يؤمنون أن الإبقاء على جذوة الثورة باقية هو السبيل الوحيد لمنع الوضع من الانزلاق أكثر فأكثر
حتى منظومة الفساد التي عششت في كل زوايا الدولة خلال عهد البشير الذي استبشر البعض خيرًا بسقوط نظامه، انتقل هذا السرطان المدمر من أروقته الحزبية إلى سراديب السلطة الانتقالية، حيث يتسابق الجنرالات من جانب ونخبة التيارات السياسية من جانب آخر للحصول على أكبر قدر من المكاسب في أقصر وقت ممكن، في الوقت الذي يئن فيه الشارع من الجوع والعوز.
ورغم هذا الوضع المأساوي الذي تحياه البلاد منذ عزل البشير وانخفاض مستوى الطموح إلى ما دون الصفر، فإن الأمل لم يغب بعد عن مخيلة الثوار الذين يؤمنون أن الإبقاء على جذوة الثورة باقية هو السبيل الوحيد لمنع الوضع من الانزلاق أكثر فأكثر، وأن مقاومة الجنرالات وفلول الإنقاذ هو الطريق الأنجع لتحقيق الطموحات الثورية وإن تأخرت، يتوقف الأمر على مدى الاستفادة من دروس السنوات الأربعة الماضية والتيقن من أن سقوط رأس النظام لا يعني انهيار النظام بالكلية، وأن الاطمئنان للعسكر مغامرة تصل إلى حد المقامرة والتمسك باللحمة الثورية كما كان السبب الرئيسي في نجاح الثورة فهو كذلك المسار الوحيد لتحقيق أهداف الثورة والثوار.