ثارت المرأة الفلسطينية وقت نكبة 1948، فرفضت الاستسلام للهجرة ولعبت دورًا كبيرًا في حث النساء وتوعيتهن للتمسك ببيوتهن والبقاء في البلاد قدر الإمكان.
ولم يبرز دور المرأة الفلسطينية وقت النكبة فقط، بل كان لها من قبل بصمتها في مجالات عدة كالتعليم والسياسة والاجتماع والطب والفن والصحافة، لكن تجربة الهجرة جعلتها أقوى وأعطتها دافعًا لتثبت مقدرتها على تخطي الصعاب ونقل رسالة الفلسطينيين بطريقتها حتى زماننا هذا.
يعود تاريخ الحركات النسوية في فلسطين إلى ما قبل العشرينيات من القرن الماضي، لكنها بدأت تنتظم مع بداية نكبة 1948، حين وجدت نفسها أمام وضع جديد فرض عليها زيادة أعمالها الإنسانية التي من شأنها التخفيف من وطأة معاناة التشريد، وعملت على تقديم المساعدات الإنسانية كافة للنساء والمشردات وإيجاد أماكن لإيوائهن بسبب التهجير والتشريد.
وعند التنبيش في الذاكرة الفلسطينية للبحث عن النساء اللاتي تركن بصمتهن، نجدها تعج بأسماء شاركن في العمل العسكري والميداني وقدن العديد من المظاهرات والاحتجاجات الوطنية ضد الاحتلال وحملن البندقية وقاومن كما الرجل واستشهدن واعتقلن ونفين، كما خضن العمليات الاستشهادية البطولية وقدن المجموعات الفدائية داخل فلسطين وخارجها.
واقع الحركة النسوية في أثناء نكبة 1948 وما بعدها
وقت النكبة الفلسطينية، وحدها المرأة من حملت مفتاح بيتها ولا تزال تحتفظ به حتى اليوم، وطيلة فترة الصراع تساند زوجها وابنها وأخيها لمقارعة المحتل، فتكشف له الطرق الآمنة وتقف في وجه بندقية الجندي وتحمل نعش ابنها على كتفها.
كما أنها لعبت دورًا كبيرًا في تماسك الأسرة بعد عمليات التهجير وفقدان العوائل بيوتها وأراضيها، فكانت الداعم الأول والأخير لتشد من أزر أبيها وزوجها، كما ساندت أبناءها ليحصدوا الشهادات العليا ويتقلدن مناصب مميزة من شأنها الارتقاء بإدارة البلاد.
لم يكن دور المرأة الفلسطينية خلال النكبة وبعدها فقط داعمًا لأسرتها، بل بفعل مشاركتها الوطنية في كثير من الأحداث التي مرت بها فلسطين، تعرضت للضرب والملاحقة والاعتقال والقتل على يد الاحتلال الإسرائيلي وذلك لتأثيرها القوي في كثير من الميادين الحربية.
وبعد نكبة 1948 واصلت المرأة الفلسطينية مسيرتها النضالية الجديدة في مخيمات اللجوء والشتات بتقديم الخدمات الاجتماعية الصحية والتعليمية للمرأة والأسرة وتقديم دورات تدريب مختلفة كالخياطة والتطريز والتعليم المدرسي لهن، في محاولة منها للمحافظة على البقاء وتحقيق التطور الاجتماعي كرفع مستوى التعليم بين الإناث.
كما شهدت مشاركة المرأة نموًا كبيرًا في مراحل المد الثوري، وشاركت بالعمليات النوعية مثل خطف الطائرات (ليلى خالد وأمينة دحبور)، وعمليات في الضفة الغربية وغزة (فاطمة برناوي وعايشة عودة ورسمية عودة ورشيدة عبيدو وعبلة طه وسهام الوزني وعائدة سعد وصبحية سكيك وفيروز عرفة ونهلة البايض وغيرهن).
وامتلأت السجون بالمناضلات اللواتي شاركن بعمل كفاحي، ومن خلال الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية أيضًا لعبت المرأة دورًا وطنيًا بارزًا في جلب الدعم للقضية الوطنية، إضافة إلى مشاركتها الفاعلة في الدفاع عن البندقية الفلسطينية، من خلال مشاركة الأطر النسوية التابعة لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية.
فلسطينيات رائدات تركن بصمتهن في مجالات الحياة
لم يقتصر عمل المرأة الفلسطينية على العمل النضالي فقط، بل نشطن في العديد من المجالات الاجتماعية والثقافية وكذلك العسكرية، فرائدات اليوم هن امتداد الأمهات والجدات اللواتي مهدن الطريق لمن جاء بعدهن، يستعرض “نون بوست” في هذا التقرير عددًا من أبرزهن:
المناضلة مهيبة خورشيد من يافا
كانت لها مواقفها التي أبدت فيها معارضتها لبناء المستعمرات الصهيونية المقامة على الأراضي الفلسطينية، ومعارضتها لسياسات التهجير القسري للسكان الفلسطينيين عندما كانت المدن والبلدات الفلسطينية تتعرض للمذابح والهدم الكلي.
أسست أول تنظيم عسكري نسائي اسمه “زهرة الأقحوان” رفقة شقيقتها ناريمان، بمشاركة عدد من النساء الفلسطينيات، وبعض الرجال العرب والأجانب، ورغم قصر المدة التي عمل خلالها (1947-1948)، فإنه قام بدور عسكري سياسي متميز.
وكان لخورشيد دورها القيادي في منظمة زهرة الأقحوان، فعملت على تنظيم وتنفيذ العمليات ووضع الإستراتيجيات وجمع المعلومات الاستخباراتية، إضافة إلى جمع التبرعات وشراء السلاح، وتركز نشاطها في مدينة يافا.
عرفت مهيبة بخطاباتها العامة الحماسية في التظاهرات، ما اضطر سلطة الانتداب البريطاني آنذاك بإيعاز من الحركة الصهيونية إلى استدعائها للتحقيق.
الصحافية ساذج نصار من عكا
زوجة شيخ الصحفيين الفلسطينيين نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل الصادرة في مدينة حيفا عام 1908 التي توقفت عن النشر عام 1941 وحكم عليه بالإعدام في العهد العثماني بسبب دعوته للتحالف مع إنجلترا بدلًا من ألمانيا.
كانت محررة في جريدة زوجها وأول صحفية فلسطينية تدخل السجن في عهد الاحتلال البريطاني، وحكم عليها بالسجن لمدة عام واعتبارها “امرأة خطرة جدًا”، وقد كتب لها زوجها رسالة يقول فيها إنه إذا لم يدخل التاريخ بسبب جريدة “الكرمل” فسوف يدخله بسبب زوجته التي تعد أول سيدة تدخل زنازين الاحتلال البريطاني.
كانت ساذج نصار مسؤولة عن تحرير الصفحة النسائية في الجريدة، وتعد من أوائل الفلسطينيات اللواتي عملن في مهنة الصحافة، فقد أصدرت في الثلاثينيات صحيفة مستقلة تحت مسمى “رسالة الكرمل” التي اهتمت بشؤون المرأة وركزت على القضايا النسائية، ومن ثم أصبحت رئيسة تحرير جريدة “الكرمل الجديد” في الفترة ما بين 1941 – 1944م.
الفدائية زكية شموط
ولدت زكية شموط في مدينة حيفا عام 1945، التحقت بالعمل الفدائي المقاوم عام 1968، أي في السنة الثالثة والعشرين من عمرها، لتكون من أوائل الفدائيات الفلسطينيات اللواتي نفذن عمليات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
بلغ عدد العمليات التي نفذتها 7 عمليات، وذلك في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات، ما أسفر عن سقوط عشرات الإسرائيليين بين قتيل وجريح، قبل أن يتم اعتقالها وزوجها وأفراد عائلتها وهي حامل في شهرها الخامس، وأصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية حكمًا بسجنها 12 مؤبدًا (1188 سنة)، بينما حكم على زوجها بالسجن مدى الحياة.
أنجبت زكية بتاريخ 18 فبراير/شباط 1972، طفلتها نادية داخل سجن “نيفي ترتسيا” الإسرائيلي في منطقة الرملة، لتكون أول فلسطينية أسيرة تنجب مولودها داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفي عام 1983 أطلق سراحها في عملية تبادل للأسرى بين الثورة الفلسطينية و”إسرائيل”، وأبعدت إلى الجزائر.
سميحة خليل
أسست عام 1952 جمعية الاتحاد النسائي العربي في مدينه البيرة وكانت رئيسة لها، وفي العام 1965 أسست جمعية إنعاش الأسرة مع مجموعة من النساء الفلسطينيات، وكانت رئيسة لها طوال حياتها.
تعد واحدة من رواد الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ وقفت وتصدت بأساليب متعددة لسياسات الاحتلال العنصرية، وقمعه الجائر.
خاضت معركة الانتخابات الرئاسية الفلسطينية عام 1996، كمنافسة وحيدة للزعيم الراحل ياسر عرفات، إلا أن الحظ لم يحالفها.
لعبت دورًا واضحًا في عملية النضال الوطني، وفرضت عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي، الإقامة الجبرية عام 1980 لمدة سنتين ونصف، ومنعت من السفر لمدة 12 عامًا.
سلافة جاد الله.. أول مصورة في تاريخ الثورة الفلسطينية
في أواخر الخمسينيات، بادرت سلافة مع شقيقها رماء الذي رافقها في حبها للتصوير، وبعض الهواة، بتكوين رابطة للفنون، ومن هنا انطلقت سلافة في بداية الستينيات لتكون من أوائل الفتيات اللواتي يطمحن لإتمام تعليمهن الجامعي في مجال التصوير السينمائي، فالتحقت بمعهد السينما في القاهرة الذي كان لا يزال في بداياته.
بدأت سلافة بتصوير مقاتلي الثورة الفلسطينية، وعندما وقعت حرب 5 يونيو/حزيران عام 1967، قامت مع المصور السينمائي الفلسطيني هاني جوهرية بتصوير أحداث تلك الحرب وآثارها ومأساة النزوح الفلسطيني الذي حدث خلالها.
في عام 1967، أسست مع هاني جوهرية، والمخرج السينمائي مصطفى أبو علي قسمًا للتصوير الفوتوغرافي يتبع حركة “فتح”، يهتم بتصوير جميع نشاطات الثورة الفلسطينية والأحداث المحيطة بها، الذي تطور في العام 1968 بعد معركة الكرامة إلى وحدة سينمائية توثق جميع الأحداث الفلسطينية، خاصة نشاطات الثورة الفلسطينية السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية بالصوت والصورة، وعرفت هذه الوحدة لاحقًا باسم “وحدة أفلام فلسطين”.
أنتجت عام 1969 أول أفلام السينما النضالية الفلسطينية “لا.. للحل السلمي”، وفي العام نفسه، أصيبت سلافة برصاصة في الرأس في أثناء قيامها بالتصوير، ما أدى إلى إصابتها بشلل نصفي والتوقف عن العمل كمصورة سينمائية.
توفيت عام 2006، وتعتبر سلافة جاد الله أول مصورة في تاريخ الثورة الفلسطينية.
هند الحسيني.. أم الأيتام فلسطين
في عام 1945 بدأت مرحلة العمل الاجتماعي التطوعي، حين أنشأت جمعية التضامن الاجتماعي النسائي في القدس، التي نشرت فروعها في أنحاء فلسطين ووصل عدد فروعها إلى 22 فرعًا.
حين بدأت حرب 1948 وتقطعت أوصال البلاد، توقفت الجمعيات عن العمل وحدثت الكثير من المآسي، وكان أكثرها وحشية مذبحة دير ياسين، فجمعت بمساعدة عدنان التميمي 55 طفلًا وطفلةً من أيتام دير ياسين ووضعتهم في غرفتين بسوق الحصر بالبلدة القديمة، ولم يكن في جعبتها يوم ذاك إلا 138 جنيهًا فلسطينيًا، وآلت على نفسها أن تعيش بهم أو تموت بهم.
فكانت تلك بداية تأسيس مؤسسة دار الطفل العربي في القدس عام 1948، وعندما انتظمت المدارس قامت هند بتوزيع الأطفال الذين جمعتهم على الصفوف المناسبة لسنهم لتلقي العلم، ثم وجدت أن الأنسب لهم فتح صفوف دراسية في حرم المنزل الذي يقيمون فيه، فاستخدمت الكراج وإصطبل الخيل كصفوف مؤقتة تحت إشرافها المباشر.
تفردت المرأة الفلسطينية في توثيق حكايا النكبة وما يتعلق بها، فكانت أجرأ من الرجل في الحديث عن القرية والبلدة التي هجروا منها، وتصف كل شيء هناك من عادات وتقاليد وطقوس وحتى ألبسة وأطعمة، بخلاف الرجل الذي يفضل الصمت عند الحديث عن بيته، فهو لا يرغب بتقليب الوجع حين سلبت أرضه وبيته.
فمن يرغب بمعرفة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية لقرية ما عليه أن يطرق باب سيدة لاجئة لا تزال تحتفظ في ذاكراتها بالكثير من المواقف الحياتية اليومية.