لم يظهر مفهوم إقامة “دولة الشيشان” حتى برز الشيخ منصور أواخر القرن الـ18، وهو يقود المقاومة ضد حملة كاثرين الثانية، ملكة الإمبراطورية الروسية، التي نجحت بالفعل في توسعة الرقعة الجغرافية لبلادها في منطقة القوقاز، لتبدأ قصة الشيشان بأحداثها الطويلة من الصراع الدموي.
لا يوجد تدقيق موحد عن أصل الشيشانيين، طالما لا توجد أدلة علمية ثابتة، بالتالي لا يخرج البحث في أصل هذا الشعب عن نطاق التخمينات والاحتمالات، فهناك من يقول إنهم ينحدرون من الآشوريين في العراق، وآخرون يقولون إن أصولهم تعود إلى أتباع سيدنا نوح عليه السلام، بينما يؤيد رأي ثالث عودة أصول الشيشانيين إلى أهل الشام.
صراع أبدي بين ثلاث قوى
بدأ الصراع الروسي الشيشاني منتصف القرن الـ16، حين وضع القياصرة منطقة القوقاز صوب أهدافهم التوسعية، رغم من أنها لا تزخر بثروات طبيعية، فقد أغرت التخوم البحرية الدافئة هذه الإمبراطورية الباردة للزحف جنوبًا، ليس هذا فحسب، بل كانت تسعى كذلك إلى منافسة بريطانيا العظمى في الاستحواذ على الهند.
موقع القوقاز الجغرافي، مع حدود روسيا وتركيا وإيران، جعلها منطقة نزاعات أبدية وحتمية بين ثلاث دول قوية، ولم تثنِ المرتفعات الشاهقة الرغبات المفترسة للجيران الأقوياء، إذ كانت روسيا أول من اعتلى مسرح الصراع.
منذ عصور قديمة طالبت الإمبراطورية الروسية بضم منطقة القوقاز، وذلك في عهد إيفان الرابع المعروف بـ”إيفان الرهيب”، الذي حكم ما بين 1533 و1584، لكن الغزو الروسي للقوقاز بدأ بشكل جدي في عهد كاثرين الثانية (1762- 1796)، خلاله نفذت الإمبراطورة، أكبر حملة توسعية في أرض الإسلام، وهي الحملة التي لقيت في البداية مقاومة شديدة من شعب الشيشان، بقيادة الشيخ منصور الذي يُعرف بأول ثائر قوقازي، بدأ نشاطه في الوعظ والدعوة وتجمع الناس حوله وأحبوه.
بصمات الإسلام
يعتقد الباحث في التاريخ الإسلامي ألكسندر بينيغسن أنه مع بداية خطب منصور في الشيشان، كانت غالبية الطبقة الأرستقراطية الشيشانية قد اعتنقت فعليًا الإسلام، لكن غالبية سكان المرتفعات من العوام اعتنقوا الإسلام بشكل ظاهري فقط، بينما ظلوا محتفظين بالمعتقدات الوثنية.
في كتاب “الحركة الشعبية في القوقاز خلال القرن 18” يشير المؤرخ بينيغسن إلى أن الإسلام نفذ إلى جبال القوقاز في عصور مختلفة، وترك بصماته على المرتفعات، حيث ترسخت جذور الإسلام في الشيشان وداغستان وقبارديا، وتغلغلت فيها خلال زمن الخلافة الأموية.
في سبيل مواجهة التهديد الروسي، قاوم سكان المرتفعات في القوقاز بقوة قوامها نحو 1.5 مليون شخص، مقسمة إلى 20 مجموعة لغوية، بما فيها التركية الأصل والفارسية، والإيبيرية القوقازية التي تعد أصل لسان الشعوب الداغستانية والشيشانية، الإنغوش، القبارديون، الأديغيون، الأبخازيون والأدجاريون، وكانوا جميعهم مسلمين باستثناء مجموعة محدودة من مسيحيي أوسيتيا.
لا نعرف شيئًا تقريبًا عن حياة الشيخ منصور قبل ظهوره كزعيم للحركة التحريرية في ربيع عام 1785، باستثناء بعض المعلومات الموجزة المتوافرة في التقارير في أثناء استجوابه من سكرتير “البعثة السرية” عام 1791، المحفوظة في الأرشيف الروسي، ومن تقارير القادة الأتراك، كما يؤكد المؤرخ بينيغسن، إذ لم يتمكن أي مؤرخ غربي حتى الآن من الوصول إلى الوثائق الأرشيفية الروسية المتعلقة بالشيخ منصور.
هل تحالف منصور مع الأتراك
وردت ادعاءات بأن الشيخ منصور كان مدعومًا من طرف الإمبراطورية العثمانية، إذ كتب المؤرخ الداغستاني غسان القادري في عمله “أساري- داغستان”، أنه في عهد السلطان عبد الحميد، قامت الدولة العثمانية بإرسال الشيخ منصور إلى الشيشان وداغستان من أجل إشراك المسلمين في الحرب ضد الإمبراطورية الروسية.
بناءً على ذلك يزعم المؤرخ والمستشرق السوفيتي ألكسندر سْميرنوف، أن الشيخ منصور كان يعمل لصالح مبعوثين أتراك، وفق ما ورد في كتاب “عملاء أتراك تحت راية الإسلام: انتفاضة الشيخ منصور في شمال القوقاز”، يقول سميرنوف: “يمكن اعتبار أن الشيخ منصور كان من منفذي المخططات التركية بدقة، وأن جميع أفعاله كانت بتوجيه من السلطات التركية”.
وأشار ذات المستشرق السوفييتي إلى أن السياسة التركية كانت نشطة للغاية في القوقاز عشية حرب 1787، مستندًا بذلك إلى تقرير كشاف مجهول سافر إلى قرية ألدي الشيشانية في مارس 1785 وشاهد 60 شخصًا هناك يرتدون الزي التركي.
في الواقع اتبع المؤرخون السوفييت، لسنوات عدة هذا المسار المعادي، إذ صوروا الشيخ منصور وغيره من القادة القوقازيين في النضال ضد الروس على أنهم عملاء ومنفذون لمخططات الإمبراطورية التركية.
حرب الجبال والغابات
كانت الشيشان موقع حرب وحشية، شأنها شأن باقي مناطق القوقاز، التي فرضت على الجيش الغازي اثنين من أصعب الحروب: حرب الجبال وحرب الغابات، وفي بعض المواقع اتحد الاثنان معًا، إذ إن سكان المرتفعات الذين خاضوا حربًا غير نظامية حرموا الجيش النظامي من ميزته الفريدة: شن معركة ضاربة، بالتالي فشل الروس مرات عديدة في اقتحام مثل هذا المعقل الذي شُبه بالقلعة العظيمة، المحمية بطبيعتها وتضاريسها، ما جعل حرب الروس تنحرف تكرارًا عن مسارها الصحيح، وكان نجاح التغلغل أبطأ بكثير.
كان الجنرال ألكسي يرمولوف على معرفة جيدة بالنفسية الجماعية لسكان المرتفعات والمسلمين، فضلًا عن درايته بالعقبات الهائلة التي تحول دون تنفيذ هجوم مباشر على الجبال، ورغم ذلك، فشل يرمولوف مرات عديدة في إخضاع القوقاز، وبعدما نفد صبره؛ نهج سياسة الإرهاب، إذ كتب في مذكراته: “إن الرعب الذي يحمله اسمي يجب أن يحرس حدودنا أقوى من سلاسل الحصون، كما أرغب أن تكون كلمتي للسكان الأصليين قانونًا لا مفر منه، أكثر من الموت”.
بأساليب قاسية للغاية طرد الشيشانيون، وعندما أدت هذه الأعمال إلى اندلاع ثورة عامة في الشيشان وداغستان، سحقها يرمولوف بقوة شديدة، وكنتيجة لذلك أقال القيصر الجديد نيكولاي الأول (1825- 1855) يرمولوف بعدما أدت حملاته إلى نتائج عكسية، ولم تجلب إلا الكراهية لروسيا، فيما تصاعدت وتيرة النضال وتعزز دور الإسلام، من خلال انتشار الطريقة الصوفية النقشبندية التي ستقود المقاومة في الجزء الشرقي من القوقاز وبعض أجزائها الغربية.