يبقى فكر شهاب الدين المرجاني منارةً لحياة شعب التتار، فهذا المُعلم الذي حاول إنقاذ شعبه من السبات، ستظل أنشطته كعالم ديني ومؤرخ، ظاهرة ملحوظة في تاريخ روسيا، لذلك نقشت على قبره عبارة “فقدنا عالمًا، فقدنا الدنيا”.
أواخر القرن الـ19، برزت حركة تهدف إلى الإصلاح الديني والتنويري، أسوة بالحركة الإصلاحية التي ظهرت في عدد من البلدان الإسلامية، آنذاك دعا الإصلاحيون إلى فتح باب الاجتهاد وتعديل الهوية الثقافية لمسلمي حوض الفولغا، لكنهم ما لبثوا أن اصطدموا بالمحافظين السلفيين ذوي النفوذ في المجتمع الإسلامي.
الإصلاح، لا الانسلاخ
شهاب الدين المرجاني هو أحد رموز هذا التيار الإصلاحي، من واقع نبذه للتقليد الأعمى، مشددًا على ضرورة النهل من مسار تطور العلوم في أوروبا، بما أن العلم والدين لا يتعارضان، فلا ينبغي أن يتخذ التعصب مكانًا في الفكر الإسلامي، لكن هذا لا يعني الانسلاخ عن الهوية، بل دافع الفقيه الموسوعي عن الهوية الإسلامية للتتار في حوض نهر الفولغا.
شهاب الدين المرجاني هو سليل عائلة مشهورة كانت تضم أئمة ومعلمي الدين، في 15 يناير/كانون الثاني 1818 ولد في قرية اسمها يابنشي، تقع في مقاطعة أتننسكي بجمهورية تتارستان الروسية وعاصمتها قازان، حاليًّا تعد هذه المقاطعة التي تأسست خلال فترة خانية قازان (1438 – 1552) من أكثر المقاطعات أحادية العرق في الجمهورية بـ98% من التتار، فيما تعيش بها أقلية من الروس وأيضًا الماريين وهم مجموعة عرقية فنلندية أوغرية، عاشوا تقليديًا على طول نهر الفولغا ونهر كاما في روسيا، يؤمنون بقيم الحق والخير.
من أسلافه تعلم المبادئ الأساسية للغة العربية والفارسية، والقرآن والسنة النبوية، والتاريخ والفلسفة، كما تعلم المنطق والخطابة من والده، بينما تولى جده من جهة الأم تلقينه القرآن والسنة والفقة، وبعدما أنهى تعليمه الابتدائي في قرية طشقيشو، انتقل ليتابع دراسته في بخارى ثم سمرقند، وفي عام 1838 وصل إلى أوزبكستان، إلا أنه أصيب بخيبة أمل، بعدما وجد نفسه في مدرسة تُغيب التخصصات الدينية الأخرى وتقتصر فقط على تحفيظ القرآن والحديث.
أبو الأمة التتارية
بعد غياب دام 11 عامًا عن وطنه، عاد شهاب الدين المرجاني مثقلًا بالمعرفة في عام 1848، وبعد سنتين عُيّن إمامًا ومدرسًا بمسجد قازان الأول، الذي يحمل حاليًّا اسمه “مسجد المرجاني”، وفي عام 1867 عينته جمعية “أورينبورغ الدينية للمسلمين” في منصب الموجه في إدرة قازان الدينية، إلا أنه لم يتقلد منصب المفتي بسبب عدم إلمامه باللغة الروسية، علاوة على ذلك، كان أول عضو مسلم في جمعية الآثار والتاريخ والإثنوغرافيا في جامعة قازان.
كان أيضًا عالم إثنوغرافيا وعالم آثار ومستشرق، لقب بـ”أبو الأمة التتارية”، وصفه الفقيه والمؤرخ التتاري مراد رمزي، بأعظم مؤرخي التتار في عصره، إذ قال عنه: “لقد وضع المرجاني الصورة المثالية لأمة التتار المستقبلية، ودوّن تاريخًا متماسكًا لمسلمي قازان”.
رغم ذلك، لم تخل أعمال المرجاني من نواقص، فيقول مراد رمزي بعد عبارات الثناء والتقدير: “بينما كنت غارقًا في بحر من التأملات، وصل خبر لأذني، بأن الجليل شهاب الدين أفندي المرجاني – أحد علماء عصرنا – كتب كتابًا أطلق عليه اسم “مستفاد الأخبار في أحوال قازان وبلغار” وكنت سعيدًا بشكل لا يوصف”، يضيف رمزي أنه عندما نشر الجزء الأول من هذا العمل، الذي انتهى بفترة احتلال روسيا لقازان، “طفت نظراتي على لآلئه وبريقه، وتجاوز عقلي الأخطاء والعيوب، وأدركت أنه لم يحقق هدفه”.
والسبب في ذلك وفقًا للمؤرخ التتاري هو “أنه يغفل الكثير مما هو موجود في الكتب عن هذا الشعب، علاوة على ذلك لم يذكر حتى العشر من ذلك، وكثير من المعطيات غير مطابقة للواقع، لكن عمله على هذا الطريق يستحق التقدير والامتنان، لأنه بدأ يفعل ما لم يفعله أحد من قبله”، وفق ما دونه الشيخ مراد رمزي في كتابه الشهير “تلفيق الأخبار”.
مصادر “مستفاد الأخبار”
ألف شهاب الدين المرجاني أكثر من 30 عملًا في مختلف الفروع الدينية والإنسانية، وقد أولى اهتمامًا خاصًا بدراسة التاريخ، إذ خصص جزءًا من بحثه لتاريخ الإسلام بشكل عام والتتار بشكل خاص، ومن أكثر الأعمال قيمة بالنسبة لشعب التتار كتابه “مستفاد الأخبار” الصادر عام 1885، مستندًا إلى مصادر متنوعة تغطي الفترة الممتدة من القرن الـ10 إلى الـ18.
يشير الباحث أديغاموف ر.كاميلوفيتش إلى أن المرجاني اعتمد، في الكتاب المذكور، على مصادر يمكن تقسيمها إلى مادية وأخرى مكتوبة، تشمل الأولى العملات النقدية لخانات بلغاريا والقبيلة الذهبية، فضلًا عن النقوش على شواهد القبور، أما الكتابات فهي تضم الأعمال التاريخية والجغرافية للرحالة الفرس والعرب، وقصص السلالات الحاكمة، بالإضافة إلى الأعمال الفقهية والأدبية واللغوية.
غالبًا ما كان المرجاني يحدد محتوى النقوش على العملات المعدنية، ليستخدمها كدليل على سنوات فترة الحكم، كما تدل القطع النقدية، من وجهة نظره، على استقلالية الحاكم الذي سُكت بإيعاز منه، بينما تشير عملية ارتفاع فئة العملات النقدية على نمو رفاهية التتار، أما “رحلة ابن فضلان” فهي من أشهر المصادر المكتوبة التي اعتمدها المرجاني، إذ تصف مختلف المستوطنات والشعوب التي التقاها الرحالة على طول الطريق، حيث يروي ابن فضلان بالتفصيل عن تقاليديهم وعاداتهم وانطباعاتهم.
اهتمامه الأصيل كان متجهًا صوب الأبحاث التاريخية، لكن شهاب الدين المرجاني لم يكن محصورًا في ذلك، بل كتب أيضًا في الفلسفة والفقه والتفسير والثقافة الإسلامية وعلم الكلام، مثل كتاب “الطريقة المثلى والعقيدة الحسنى” 1890، وقبله طبع “حق المعرفة وحسن الإدراك” عام 1880، وأيضًا “البراق الوامض” و”العذب الفرات” وعدة أعمال أخرى ينتقد عقلانيًا، من خلالها، ما أصاب العالم الإسلامي من جمود فكري وحضاري.