قبل ثورة 1917 كان عدد المسلمين في الإمبراطورية الروسية نحو 20 مليون، معظمهم من السنة، لذلك أحب فلاديمير لينين أن يبني قاعدة جماهيرية للإطاحة بآخر القياصرة، نيقولا الثاني، فتحركت الماكينة الدعائية، ملامسة الوتر الحساس ومُصورة “الثورة العظيمة” بأنها ستحمي حقوق المسلمين في روسيا.
استهل لينين النداء الذي وجهه إلى المسلمين في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، قائلًا: “أيها المسلمون بروسيا وسيبيريا وتركستان والقوقاز.. يا أيها الذين هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطغاة بمعتقداتهم وعاداتهم.. إن معتقداتكم وعاداتكم ومؤسساتكم القومية والثقافية أصبحت اليوم حرة مقدسة”، وفي نداء آخر صدر عن مجلس مفوضي الشعب، قال: “نحن نتحرك بحزم نحو عالم ديمقراطي نزيه.. على راياتنا نحمل التحرير لشعوب العالم المضطهدة.. مسلمو روسيا! مسلمو الشرق! في طريق تجديد هذا العالم، نتوقع تعاطفكم ودعمكم”.
وعود غامضة
في الواقع كان لينين ورفاقه البلاشفة يسعون إلى استمالة تعاطف المسلمين، ليس بالكلام فقط، لكن بالفعل أيضًا، فقد جرى تسليم المصحف الشريف المعروف بمصحف عثمان في احتفال مهيب إلى المجلس الإسلامي في بتروجراد (سانت بطرسبرغ حاليًّا) في 25 ديسمبر/كانون الأول 1917، أيضًا أُعيدت الآثار والكتب الإسلامية المقدسة التي نهبتها القيصرية إلى المساجد، إلى غير ذلك من الإجراءات التي ألح نداء لينين على ذكرها.
بينما كانت وعود لينين غامضة بشأن تقرير مصير المسلمين، اعتقد المسلمون أن “أممية الثورة الشيوعية” ستمنحهم حقوقًا متساوية مع الروس، مع أمل أن تكون ثورة أكتوبر خطوة أولى نحو تحرير العالم الإسلامي بأكمله من اضطهاد الأوروبيين، وأيضًا اعتقادهم بأن الشيوعية أفضل من أي نظام سياسي آخر، ستمنحهم الفرصة للانتقام من جميع المستعمرين بمن فيهم الروس.
عزل عن الأخوة والماضي
يقول المؤرخ الروسي الفرنسي ألكسندر أداموفيتش بِنيغْسين: “إن المسلمين في ذلك الوقت كانوا مهيئين بشكل سيئ، غير مبالين بالجوانب الاجتماعية والسياسية للشيوعية، ومدركين لعجزهم في مواجهة القوة العسكرية لكل من البيض والبلاشفة”، ويضيف في كتاب عنوانه “المسلم في الاتحاد السوفيتي”: “يبدو أن محاولة عزل مسلمي الاتحاد السوفيتي عن إخوانهم في الدين بالخارج وعن ماضيهم القومي، هو الجانب الأصلي من الإستراتيجية السوفيتية، بالنسبة لنظام ديكتاتوري، كانت العزلة الجغرافية سهلة نسبيًا”، يؤكد بنيغسين أنه بمجرد أن أرخت القوة السوفيتية سيطرتها على القوقاز وآسيا الوسطى، فَصل الستار الحديدي المزدوج هذه المناطق عن الدول الإسلامية المجاورة.
يؤكد المؤرخ أن الحدود أُغلقت بإحكام، وحُصرت جميع أشكال الاتصال بين المسلمين السوفييت وإخوانهم في الدين، وإخوتهم في الدم واللغة، “منذ عام 1920 توقف الحج إلى مكة، وكذلك حج الشيعة الأذريبيجانيين إلى الأماكن المقدسة في إيران والعراق”، مضيفًا: “بعد الحرب الأهلية، تم استئناف الحج إلى مكة، لكنه اقتصر على طائرة واحدة في السنة، تم استئجارها خصيصًا لهذا الغرض، تقل عددًا من 30 إلى 40 حاجًا فقط، يتم اختيارهم خصيصًا من بين رجال الدين المنتمين إلى الهيئات الإسلامية الروحية الأربعة، وهي طشقند وأوفا وباكو وماخاتشكالا”.
على الرغم من استئناف الاتصالات مع العالم الإسلامي الخارجي في السبعينيات، فإن العلاقات بين مسلمي آسيا الوسطى والقوقاز وإخوانهم في الدين بالخارج، قد تقلصت إلى مجرد أنشطة يقوم عليها بضع عشرات من المسؤولين المسلمين المتخصصين في الدعاية، بينما تتمثل مهمتهم في تصوير الاتحاد السوفيتي كصديق للإسلام.
البلشفية بديل جذاب؟
كما يشير كتاب “المسلم في الاتحاد السوفيتي”، إلى الانفصال عن الماضي من خلال تغيير الأبجدية: “إلى حدود عام 1928 استخدمت جميع الشعوب المسلمة في اتحاد الجمهوريات السوفياتية الأبجدية العربية لتدوين لغاتهم، وخاصة اللغة التركية.. منذ عام 1929 بدأت السلطات السوفيتية في استبدال الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية”، يؤكد الكتاب الذي نشر لأول مرة في باريس عام 1983، أن هذه السياسة القادمة من موسكو قوبلت بمقاومة جدية، خاصة من التتار وسكان آسيا الوسطى، لكنها لم تكن سلبية تمامًا، بل لاقت ترحيبًا من كثير من المثقفين المسلمين.
أصبحت البلشفية في ذلك الوقت بديلًا جذابًا في نظر العديد من أنصار تيار التجديد الذين أسموا أنفسهم بـ”شباب بخارى” أسوة بالشباب الأتراك الذين قادوا الثورة التركية عام 1908، ولقد توجهت أنظار التجديديين إلى الغرب، وعدّوه منارة للتقدم والحداثة، ثم صاغوا نقدًا لاذعًا لمجتمع آسيا الوسطى مطلع القرن العشرين وعارضوا علماء الدين، ناسبين انحطاط مجتمعهم إلى الانحراف عن “الإسلام الخالص”، الذي كان يعني بالنسبة لهم التفسير العقلاني للنصوص، إذ كانت المعرفة الحديثة شرطًا أساسيًا له، أي أنهم أرادوا إسلامًا يعتمد على التعليم، وأن تلعب النساء دورًا أكثر فعالية في المجتمع.
إبادة شعب بأكمله
أولًا وقبل كل شيء، سعت موسكو إلى نسف الولاء القائم على غير الوطنية، أي العشائرية والقبلية، فضلًا عن الوعي الذاتي الديني والعرقي والإقليمي الذي يتجاوز القومية، وهكذا فإن الهياكل الداخلية لكل دولة جديدة من مكونات الاتحاد السوفيتي، التي تم تأسيسها تعسفيًا، لم تكن لتتوافق مع الواقع التاريخي أو مع تطلعات المثقفين المحليين في آسيا الوسطى.
عزل المسلمين في الاتحاد السوفيتي عن العالم الإسلامي، وفصلهم عن ماضيهم وثقافتهم التقليدية، كان من أبرز أوجه الضغوط المناهضة للدين التي مارسها الحكام السوفيت، من أجل استئصال الثقافة الإسلامية والبعد الروحي، وصهر المسلمين في بوتقة “الشعب السوفيتي الحقيقي” مثل أي شخص آخر.
في الوقت الذي كانت الحكومة السوفيتية تروج لخطاب التسامح الديني، بعد سقوط القيصرية وفي أثناء الحرب الأهلية، كان الحزب الشيوعي ينظر إلى الدين بعين الريبة، يعده كعدو يقف أمام التقدم، ويجب التعجيل بدميره من خلال الدعاية، وإذا لزم الأمر من خلال استعمال الإجراءات الإدارية والقسرية.
لجأ لينين إلى الإبادة الجماعية لشعب مسلم بأكلمة، مرات عديدة خلال الحرب الأهلية وبعد انتهائها مباشرة عام 1921، ولقد توجت حملته بالنجاح في حالتين، إذ اختفت جنسيتان تمامًا من قائمة الشعوب السوفيتية، وفي حالات أخرى فشلت الإبادة الجماعية بفضل مقاومة المنفيين وإرادتهم للبقاء على قيد الحياة.