انقضت سبعة عقود تقريبًا على نهاية عهد جوزيف ستالين، فاتح بوابة جحيم الدنيا على المسلمين في الاتحاد السوفيتي، فطوال 31 سنة من حكمه لأكبر دولة في العالم، لم يكتف الطاغية الأحمر بغسل عقول المسلمين من خلال عزلهم بالستار الحديدي عن أخوتهم في الدين وباقي العالم الإسلامي، لكنه تجاوز إلى تنفيذ مشروع استئصال الدين من الدولة الشيوعية.
عندما كان ستالين طفلًا بدأ بتلقي تعليم ديني في المدرسة الروسية للمسيحية الأرثوذكسية، وتمنت أمه أن يصير كاهنًا، لكنها سرعان ما أصيبت بخيبة أمل، بعدما طرد ابنها الجورجي من المدرسة اللاهوتية بسبب تخلفه عن اجتياز الاختبارات في موعدها، حينها كان مهتمًا بالنشاط السياسي بعد انضمامه للحركة الاشتراكية، وقد كان قارئًا نهمًا استطاع تعويض التعليم بقراءة الكتب، مركزًا على الرويات الممنوعة والكتب الثورية بما فيها الاشتراكية.
مكر بلشفي
لم يكن المسلمون في القوقاز وآسيا الوسطى على دراية، عشية الثورة، بأن القيادة البلشفية بصدد خداعهم بوعود غامضة عن الحرية الدينية ونهاية عهد اضطهاد القياصرة، في الواقع كان الحزب الشيوعي يسعى إلى انتزاع دعم المسلمين للسلطة الشيوعية، إلى أن جاء ستالين محتقرًا حديث لينين عن الحقوق الدينية.
بينما لم يكن الحجاب الإسلامي موضوعًا ذا شأن في السياسة في ظل سلطة لينين، بدأ الشوفينيون والستالينيون هجومهم الواسع على الحجاب، كنذير مخيف لجرائم الفصل العنصري والقمع والتهجير القسري والإعدام، وشتى أنواع الاضطهاد.
بدأ عهد ينذر بنهاية الإسلام في الاتحاد السوفيتي، حين اتخذ النظام الجديد موقفًا عدوانيًا تجاه حقوق المسلمين، فقد عمد إلى محاصرة التعليم الإسلامي تدريجيًا وإغلاق المساجد، كما فقد الأئمة السابقون حقوقهم وأجبروا على البحث عن عمل في بيئة علمانية، في أغلب الأحيان بالمدن، علاوة على ذلك قامت السلطات بمصادرة المكتبات وإحراق آلاف المجلدات الإسلامية النادرة، ووصلت هذه السياسة ذروتها عام 1936، عندما تم اعتقال وإعدام أعضاء مجلس الإفتاء، ثم أصبح المئات من النخبة المسلمة المثقفة ضحايا للقمع.
تقسيم عرقي
بالحديد والنار فرض جوزيف ستالين حكمه الشيوعي على كل أرجاء آسيا الوسطى، بعدما نجح الجيش الأحمر في اجتياح تركستان الغربية، في حين أرخت الصين سيطرتها على تركستان الشرقية، لتضيع الفرصة على المسلمين في الاستقلال والانعتاق من الاضطهاد، وبالتالي قسم النظام الشيوعي هذه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية إلى خمس جمهوريات تحت راية الإمبراطورية السوفيتية وهي: أوزباكستان وتركمانستان وطاجيكستان وكازاخستان وقرغيزستان.
ستالين هو من أشرف على هذا التقسيم الذي كان يراد منه التفرقة قصد بسط السيادة المطلقة ونهب ثروات المنطقة وإخضاع الأغلبيات المسلمة لهيمنة الأقليات الروسية، رغم أن سكان هذه الجمهوريات الخمسة ينحدرون جميعًا من عرق تركي، باستثناء سكان طاجكستان الذين ينحدر معظمهم من الروس، قام السوفييت بتوزيع تركستان وجعلوا من كل جمهورية عرقًا منفصلًا، وجرى إغراق المنطقة بالروس، بعد أن بدأ (الإغراق) في عهد القياصرة، واستفحل خلال الحقبة السوفيتية.
إبادة جماعية
جرى تنفيذ أشهر إبادة جماعية ضد تتار القرم – 300 ألف مسلم كانوا يعيشون في شبه جزيرة القرم إلى حدود عام 1941 -، بتهمة الخيانة والتعاون مع الجيش النازي، فتم ترحيلهم جميعًا، سواء الذين يعيشون في القرم أم خارجها، بمن فيهم العديد من الجنود وضباط الجيش الأحمر، إلى كازاخستان وسيبيريا في ظروف مروعة، وفي 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1945 ألغيت جمهورية شبه جزيرة القرم، ولاحقًا ضُمت إلى أوكرانيا التي كانت أراضيها مأهولة بعدد كبير من الأوكرانيين والروس، حسب المؤرخ الروسي الفرنسي ألكسندر أداموفيتش بِنيغْسين، وأُعيد كتابة تاريخ القرم دون أي ذكر لهذه الخيانة الجماعية المزعومة.
يضيف المؤرخ في كتابه “المسلمون في الاتحاد السوفيتي” قائلًا: “على الرغم من إسقاط التهم السخيفة عن الضحايا، بعد وفاة ستالين، لم يسمح للضحايا بالعودة إلى وطنهم، وهكذا انتشر التتار في جميع أنحاء آسيا الوسطى وسيبريا، كنتيجة لذلك، اختفى شعب له تاريخ طويل وعظيم”، كما أثرت الإبادة الجماعية الثانية على الجالية التركية المسلمة في مسخيتيا، التي يبلغ تعدادها نحو 200 ألف شخص، وكانوا يعيشون في الجزء الجنوبي من جورجيا.
في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1944 ودون سبب واضح، جرى اعتقال السكان المسلمين في مسخيتيا ونفيهم في ظروف مرعبة إلى آسيا الوسطى، أدت إلى وفاة 50 ألف مسلم، أما الناجون فلم يحصلوا على إذن بالعودة إلى وطنهم، شأنهم شأن تتار القرم، إذ خاضوا نضالًا فاشلًا من أجل انتزاع هذا الحق، إن لم يكن العودة إلى جورجيا، فعلى الأقل الهجرة إلى تركيا، وفي المقابل اعتقلت السلطات السوفيتية جميع قيادات جالية مسخيتيا.
جزء من اللعبة
كما حصل تمامًا خلال الحكم القيصري، اكتسى تعامل الحكومة السوفيتية مع المسلمين طابعًا برغماتيًا، ففي الأربعينيات مثلًا قامت القيادة السوفيتية بتعبئة النخبة الإسلامية المخلصة لها، من أجل تعزيز المقاومة ضد ألمانيا النازية، وتقرر كذلك تثقيف مجموعة جديدة من الشباب المسلمين الذين تلقوا تعليمًا سوفيتيًا، وهؤلاء طمحوا إلى تقلد مناصب المسؤولية في الشؤون الدينية.
ألفريد بستانوف، هو باحث روسي في التاريخ والأدب الإسلامي، يؤكد أن الدولة السوفيتية كانت تريد أن تجعل من هذه النخبة ممثلين للمسلمين السوفيت في الساحة الدولية والمؤتمرات، وقادة السياسة الدينية السوفيتية، أما داخليًا فكان ينتظر منهم تعزيز فكرة تقارب القيم الإسلامية السوفيتية مع الأيديولوجية الإسلامية.
وكشف أستاذ التاريخ بالجامعة الأوروبية في سانت بطرسبرغ، أن علماء الدين في الحقبة السوفيتية دافعوا عن فكرة مفادها أن “الاشتراكية والإسلام لا يتعارضان”، لكنهم لم يأخذوا في الحسبان حماسة البلاشفة في محاربة الدين بشكل عام، وهذا التوليف بين السوفيت والإسلامي هو الذي أطلق عليه اسم “الإسلام السوفيتي”.
بشكل لا لبس فيه كان العهد السوفيتي مدمرًا، وبطريقة ما كانت معظم النخبة المسلمة جزءًا لا يتجزأ من هياكل الدولة وقواعد اللعبة، بالنسبة للدولة السوفيتية الجديدة أصبح الإسلام في التفسير الرسمي جزءًا فقط من التراث الثقافي، أي علمانيًا إلى حد كبير.