إيطاليا تكشف عن حبها الفياض لتونس حتى قبل انطلاق الموسم السياحي ووصول السنيورات، كأن إيطاليا هذه الأيام أم حنون اكتشفت أن لها أبناءً تائهين، فهي حريصة على تدبير قوتهم ومن فرط حبها جعلت بابا الفاتيكان يشاطرها العطف والشفقة ويدعو لأهل تونس (خرفان الرب الضالين) بألا يقعوا بين أيدي الشرير.
ما سبب الحب الإيطالي خارج النزل المرفهة التي اعتادها مرتادوها من أصحاب المزاج؟ ولماذا اتخذ هذا الحب الفجائي سمتًا واحدًا: طلب تمويل البلد الفاشل بأي ثمن من أي جهة؟
إننا نكتشف (أو نعيد اكتشاف) جوهر الموقف الأوروبي عامة والإيطالي خاصة من تونس ومن أزمتها السياسية والاقتصادية المستفحلة تحت حكم الانقلاب، سننظر في قصة الحب التي لم يتناولها عمل درامي بعد ولا تزال تأتينا أخبارها من كواليس السياسة.
لنتظاهر بأننا متفاجئون بالحب الإيطالي
لم نسمع صوت إيطاليا المشفقة على التونسيين تحت حكم بن علي، بل اكتشفنا أن إيطاليا وضعت بن علي على كرسي الرئاسة بانقلاب طبي وأسندته ربع قرن ولم تنبس بكلمة في حق الشعب المقهور المجوع، حينها كانت موجة الهجرة تحت السيطرة وبن علي يقسطها بحسب حاجة سوق جمع الطماطم والعنب في سهول نهر البو.
لم نسمع إيطاليا ترحب بثورة تونس وقد تخلصت من جلادها، ولم نسمعها تسند تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر، لم نسمعها لاحقًا ترفض الانقلاب على التجربة الديمقراطية.
إيطاليا تعرفنا جيدًا وتراقب وضعنا عن كثب، فعجز تونس عن صرف الرواتب يعني الانهيار الاقتصادي الشامل والانهيار يؤدي إلى فوضى، لكن الفوضى غير ضارة إلا إذا تجاوزت الحدود، ومن الواضح أن إيطاليا تتوقع النتيجة لذلك تستبقها.
لا يتسع لنا المجال لنراجع موقفها بدقة يوم 25 وما بعده من ظلم وخراب، فقد فاتنا أن نوثق ذلك، وربما قالت حكوماتها إن ما جرى أمر داخلي لا يهم إلا أهل البلد ونحن نحترم سيادة الآخرين، لكن شظايا الانقلاب وصلت إيطاليا، فإذا هي تعلن علينا الحب.
الأمر الداخلي صار أمرًا خارجيًا وظهر التهديد الجدي في موجات الهجرة، فتبين الموقف الحقيقي لحكومة جارة وإن فصلها عنا البحر، نحن مصدر إزعاج لا بديمقراطيتنا بل بموجات الهجرة المربكة، هذا الحب الذي يبحث لنا عن قوتنا في أي مكان وبأي ثمن يعلن لكف شغبنا المزعج عن الجار الطيب.
حب استعماري من جانب واحد
تضغط حكومة إيطاليا لكي تمنح مؤسسات الإقراض تونس ما يسد رمق موظفيها من رواتب، ومن الواضح أن إيطاليا (وهي بعض أوروبا) تعرفنا جيدًا وتراقب وضعنا عن كثب، فعجز حكومتنا عن صرف الرواتب يعني الانهيار الاقتصادي الشامل والانهيار يؤدي مباشرة إلى فوضى عارمة في الداخل، لكن الفوضى غير ضارة إلا إذا تجاوزت الحدود، ومن الواضح أن إيطاليا تتوقع النتيجة لذلك تستبقها، بمعنى: “أعطوا هؤلاء قوتهم قبل أن يركبوا البحر إلى سواحلنا”، فموجات الهجرة هي كابوس إيطاليا المقيم، وحتى إذا لم ينهر الوضع التونسي يكفي أن تتوقف حكومة تونس عن مراقبة سواحلها لتعبر كل إفريقيا من تونس نحو إيطاليا.
نحن إذن تهديد ولسنا جارًا طيبًا، وهذا الحب ليس حبًا وإن أسميناه مجازًا، إنه كره ظاهر وعدوان لم يتسلح بعد، إنه نفس العدوان الاستعماري القديم، شعوب الضفة الجنوبية، نحن نصلح لشيء ما ما دمنا في حدودنا، لكن إذا عبرنا إليهم نصير كارثة.
نحن (شعوب وحكومات) شيء صالح لإبرام عقود الطاقة الرخيصة أو لتدبر حجم عمالة موسمية تحت السيطرة للأعمال المهينة التي يتكبر عليها المواطن الغربي منذ قرن ويوكلها لطبقة العبيد المهاجرة. تطوف رئيسة حكومة إيطاليا من ليبيا للجزائر لتدبر الغاز لمواقد السنيورة الإيطالية القلقة من حرب أوكرانيا، فغاز الضفة لذيذ لكن مواطنيها المفقرين عبء مزعج، أما أن يحكمهم منقلب ظالم معتد على ديمقراطيتهم فليس من شأن إيطاليا ولا يزعجها قيد أنملة، تلك مسألة داخلية.
هذه الديكتاتورية بنت شرعية لذلك الحب الكاذب
إيطاليا وأوروبا عامة لا تقيم (بل تتجاهل) الربط المنهجي الضروري بين الديكتاتورية والانهيار الاقتصادي المنتج للهجرات، المعادلة بسيطة ولا تحتاج علوم التنزيل، هناك على ضفتهم حمت أنظمتهم الديمقراطية شعوبهم من الفقر والهجرات وبنت اقتصاداتهم القوية القادرة على تجاوز أزماتها الهيكلية، وهنا أنظمتنا الفاشية الانقلابية هي التي تنتج الفقر والبؤس والهجرة، ولن نتردد في القول بأن أنظمتهم هي من تصنع هذه الديكتاتوريات هنا (من القذافي إلى بن علي إلى انقلاب تونس)، لذلك فإن الهجرات هي ابنة فعلهم لا ابنة رغباتنا، ونجد من مفكريهم وخبرائهم من يقول ذلك بصوت جهير فلا يسمع له، فالشركات أعلى صوتًا من الجامعات حتى في البلدان الديمقراطية.
إنهم لا يعالجون الجوهر بل يحتاطون من الأعراض الناتجة عن جرائمهم في أوطان لم تفلح في النجاة بعد، كلما حاولت أوقعوا بها في مكائد لا يقدر عليها أحد، ففي إيطاليا بالذات ما زلنا ننشر مقاطع الصحف التي تحصي أفواج الهجرات الإيطالية نحو تونس زمن الفاشية، وهو درس وعبرة لو أرادوا الاعتبار (لقد كانوا يهربون من الفاشية التي حكمتهم) لكنهم ينسون تاريخهم ليربكوا تاريخنا بالتظاهر بحب كاذب وشفقة بابوية منافقة.
الحب الإيطالي لن يحل مشكلة الظلم المحلي، إنه يستديمه ليبقي علينا تحت نير الاستعمار
العظة البابوية نفسها تنافقنا بدموع كاذبة، وقيافة البابا يعرف قبل غيره التاريخ القريب والبعيد، وكان الأولى أن يعظ قومه أن نعاج الرب (نحن) مظلومون وأن الظلمة هم من يصلون وراءه في فصحهم وفي شعانينهم وأن السعي في الأرض هو ما تبقى من حيل للمقهورين في الأرض.
متى يتوقفون عن هذا الحب الكاذب ويتركون لنا أن نقاوم بوسائلنا ظلمتنا المحليين (صنائعهم الفاسدة)؟ متى يرفعون أيديهم عنا ولا يطلبون لنا تمويلًا من بنوكهم لكي نقتات بما تيسر فنسد الرمق فنبقى بأرضنا ولا نعبر إليهم؟
الحب الإيطالي لن يحل مشكلة الظلم المحلي، إنه يستديمه ليبقي علينا تحت نير الاستعمار، هكذا كان منذ اتفقوا على تقسيم أوطاننا ونهب ثرواتها ثم تنصيب أزلام يوالونهم كلما سقط منهم واحد (بموت أو بثورة) نصّبوا آخر، كأن لهم مفارخ للديكتاتورية يربونها لكل مناسبة ثم يضجون بالشكوى من الهجرات.
تلك الهجرات أرواح مسروقة من جسدنا العليل قبل أن تكون عبئًا على رفاهتهم المبنية بفائض ما نهبوا طيلة القرون السابقة، إنها خراب عظيم هنا قبل أن تكون خرابًا هناك، لذلك سنعاني من الحب الإيطالي والفرنسي حتى نؤمن بأن خلاصنا ليس بالقروض متى يكون ذلك؟ إن طريق الوعي طويلة وفي الانتظار سنحسب عدد السنيورات القادمات إلى صيفنا الجميل، فنحن بلد للسياحة الجنسية وهي تنويع على الحب من جانب واحد.