في 8 مايو/أيار 2017 وجه الرئيس الفرنسي – المنتخب حينها – إيمانويل ماكرون، خطابين لأنصاره، الأول في مقر حركة “إلى الأمام” الذي ترشح من خلالها، والثاني في ساحة اللوفر، حملا الكثير من الرسائل الضمنية والمباشرة الخاصة بسياسة الرئيس الجديد القادم من رحم معركة انتخابية حامية الوطيس خاضها أمام مرشحة اليمين المتطرف ماريان لوبان.
تعهد ماكرون خلال خطابيه بـ”إعادة نسج العلاقات الرابطة بين أوروبا وشعوبها، بين أوروبا ومواطنيها”، محملًا نفسه مسؤولية الدفاع عن فرنسا ومصالحها وصورتها، ملمحًا إلى رهانات تواجهها القارة العجوز وحضارتها وأن “القدر الأوروبي المشترك” يوجب إعادة النظر في الكثير من المواقف.
وحمل الرئيس الفرنسي المفعم بروح الحماسة وقتها على عاتقيه نقل الإرث التاريخي والإنساني لبلاده للأبناء والأجيال القادمة، مؤكدًا أن فرنسا ستكون حاضرة في السلام، وستكون رمانة ميزان القوى العالمية، مع التأكيد على الالتزام بالتعاون مع المجتمع الدولي في ضوء الالتزامات والمواثيق الدولية بجانب وقوفها في الصف الأمامي لمحاربة الإرهاب.
الخطابان عكسا وجهًا جديدًا لكرسي الرئاسة في فرنسا، هذا المنصب الذي ظل لسنوات طويلة يسير على منوال من المرتكزات الثابتة، مستظلًا بعباءة أوروبا والتحالف التاريخي مع الأمريكان، الأمر الذي رفع منسوب الأمل لدى البعض بأن فرنسا الماكرونية ستكون مختلفة شكلًا ومضمونًا عما قبلها، وأن حقبة الرئيس الجديد ستكون مفصلية في مسار الدولة والإمبراطورية الفرنسية.
وخلال حملته الانتخابية الرئاسية أومأ ماكرون إلى أنه سيسير على نهج سلفيه: مؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديجول، والرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، وكلاهما كان صاحب دور كبير في تكريس سلطة الرئيس وهيمنتها على السياسة الخارجية والدفاعية للبلاد، حتى بات الرئيس هو المتحكم الرئيسي في توجهات الدولة الخارجية ومواقفها العسكرية والأمنية.
وبعد 6 سنوات من حكم ماكرون، تكشفت الكثير من الملامح العامة لسياسة الرجل الخارجية، تلك السياسة التي يحاول من خلالها إحياء عصر الإمبراطورية الفرنسية، عبر الاشتباك مع الكثير من الملفات ولعب أدوار أكثر حيوية في حسمها، بجانب محاولات الاستقلال الحثيثة عن التبعية الأمريكية، التي يراها “وصمة عار” في جبين حكومات أوروبا.. فماذا حقق ماكرون في هذا المسار؟ وما دوافعه لذلك؟ وكيف تنظر قوى أوروبا المتمرسة وواشنطن إلى طموح ماكرون الذي يتجاوز قدرات فرنسا في ظل التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها الخريطة العالمية؟
السياسة الماكرونية.. العودة بالتاريخ إلى الخلف
منذ اليوم الأول لتوليه السلطة، وضع ماكرون ملف السياسة الخارجية تحت ميكروسكوب الاهتمام، واضعًا إياه على رأس هرم الأولويات، مشددًا على تكثيف عمل “الخلية الدبلوماسية” وهي الوحدة المسؤولة عن ملفات السياسة الخارجية للدولة وتخضع للرئيس مباشرة.
حاول ماكرون خلق منهج جديد لإدارة هذا الملف في محاولة لإحياء عقيدة الجنرال ديجول، لكن بشكل كاريكاتوري كما وصفه موقع “بوليتيكو” الذي اتهم الرئيس الفرنسي بالإخفاق المبكر على صُعد مختلفة، وهو ما كان له أثره السلبي على صورة البلاد وقوة الرئيس ذاته كلاعب أساسي – هكذا يفترض – في الكثير من ملفات الاشتباك التي يخوضها.
حاول الرئيس الجديد تقديم أوراق اعتماده دوليًا من خلال تكثيف حراكه الدبلوماسي على أكثر من مسار، لكنها الدبلوماسية التي جاءت في كثير من منعطفاتها متناقضة بشكل أو بآخر، وتعزف على أوتار الاستقلالية والتفرد، كأن يستقبل الجنرال المتقاعد خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج، في قصر فرساي، دون إطلاع القوى المعنية بملف الأزمة الليبية كإيطاليا مثلًا التي توجست خيفة من تلك التحركات الفردية، ثم التدخل للإفراج عن رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، من القبضة السعودية، فضلًا عن الزيارات المكوكية لدول إفريقيا خاصة منطقة الساحل والصحراء.
فرنسا لا تزال تعتقد أنها إمبراطورية ولا تريد تقبل حقيقة أنها دولة عادية كسائر دول العالم، وبالتالي لا تعطي قيمة لحلف ناتو
صحيفة L’Humanité الفرنسية وصفت ماكرون بأنه “انتهازي سياسي” يملك علاقة متناقضة مع تاريخ فرنسا، فيما نقلت عن المؤرخ الفرنسي جون – نوما ديكانج قوله إن ماكرون مهووس بالتاريخ وإنه “في إطار جنون العظمة الذي تَملَّكه بعد توليه الرئاسة، ينظّر لمكانته في التاريخ، ويَنظُر إلى نفسه باعتباره رجل الانتقال. إنه مهووس بالتخلص من صورة المصرفيّ ورجل الأعمال التي رافقته في 2017، ويريد البرهنة على امتلاكه القدرة على الدخول إلى تاريخ فرنسا”، ودفع جنون العظمة هذا الرئيس الصغير سنًا إلى الإكثار من الحركات والتحركات التي تبدو استعراضية ومتهورة.
وقال مركز سيتا للدراسات في ورقة بحثية له عن أداء ماكرون وإدارته لملف السياسة الخارجية لبلاده: “في ظل الفوضى الدولية، سعى الرئيس الفرنسي للاقتداء بالرئيسين السابقين، الجنرال شارل ديغول وفرنسوا ميتران، وتقليدهما استنادًا إلى تاريخ فرنسا في مجمع الأمم، لكنه حاكى أيضًا سيرة الإمبراطور الشاب نابليون بونابرت ودوره في صناعة الأمجاد الفرنسية الغابرة”.
يذكر أن عقيدة ديجول تقوم في الأساس على مبدأ “احترام التحالفات دون التماهي مع الولايات المتحدة”، وقد اتبع معظم رؤساء فرنسا في الجمهورية الخامسة تلك العقيدة في سياستهم الخارجية، ولم يشذ عنها إلا ساركوزي وهولاند، ومن ثم يحاول ماكرون إحياء تلك العقيدة مجددًا، عدا التماهي مع الأمريكان، حسبما ذهبت صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية.
الرغبة الجامحة في إعادة أمجاد الماضي حولت ماكرون إلى أسير في سراديب التاريخ، وهنا يقول الأكاديمي التركي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة “إسطنبول بيلغه”، إيلتار طوران، إن الرئيس الفرنسي يرغب في رؤية بلاده على أنها القوة العسكرية لأوروبا، فهي بمثابة الند للند مع الولايات المتحدة، مضيفًا “فرنسا لا تزال تعتقد أنها إمبراطورية ولا تريد تقبُّل حقيقة أنها دولة عادية كسائر دول العالم، وبالتالي لا تعطي قيمة لحلف ناتو”، وتابع “فرنسا تعمل على تقويض حلف شمال الأطلسي، لعدم سماح الأخير لها باتباع سياسة “أنا المسؤول الوحيد عن أوروبا”.
مساعٍ لإحياء النفوذ في الشرق الأوسط
تعد منطقة الشرق الأوسط واحدة من أكثر مناطق العالم زخمًا بالأحداث، فالموقع الجيوسياسي الذي يفرض أهمية إستراتيجية قلما تتمتع به منطقة أخرى في العالم أسال لعاب قوى العالم دون استثناء لتعزيز نفوذها في تلك البقعة التي تمتلك أكثر من 70% من مصادر الطاقة بالعالم، فضلًا عن احتضانها للممرات البحرية والمائية التي تتحكم في ثلثي تجارة العالم، ومن ثم فإن من يضع أقدامه في تلك البؤرة يتحول بسرعة الصاروخ إلى لاعب محوري على الساحة الدولية.
وقديمًا كانت فرنسا أحد اللاعبين البارزين في هذه المنطقة، لكن وفق التطورات التاريخية وعوامل التعرية الجغرافية تراجع هذا الوجود وتحولت الإمبراطورية الفرنسية إلى لاعب درجة تانية يجلس على دكة البدلاء في الوقت الذي احتل فيه لاعبون آخرون قائمة الفريق، وهو ما يحاول ماكرون إعادة النظر فيه منذ قدومه، فالسنوات الستة الأولى له زار فيها الشرق الأوسط قرابة عشر مرات، محاولًا الاشتباك مع القضايا الساخنة التي تشهدها.
عراقيًا.. حاولت فرنسا جاهدة تعزيز نفوذها داخل بلاد الرافدين ونسبيًا نجح ماكرون من خلال مؤتمر بغداد (الذي جمع الدول العربية المجاورة وتركيا وإيران) بالشراكة مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال عامي 2021/2022 وما تلاها من زيارة الأخير لباريس، في إبرام العديد من اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية التي تعمق العلاقات بين البلدين، وهو ما فشل فيه ساركوزي من قبل.
إيرانيًا.. سعى ماكرون إلى التماهي مع الموقف الأوروبي في هذا الملف تحديدًا، فبعد التقدم النسبي في العلاقات بين طهران وباريس خلال فترة حكم الرئيس السابق حسن روحاني وإطلاق المفاوضات البينية، انتكس الأمر مع قدوم إبراهيم رئيسي عام 2021، حيث شددت باريس نبرتها الحادة في خطابها الإعلامي والسياسي الموجه للدولة الإسلامية، ووصف ماركون الاحتجاجات الشعبية المعارضة في إيران بالـ”ثورية”، ما أثار حفيظة الإيرانيين، فيما اتهم الفرنسيون السلطات الإيرانية باحتجاز 6 فرنسيين كرهائن.
لبنانيًا.. بذل ماكرون جهودًا دبلوماسيةً حثيثة لتعزيز نفوذ بلاده في لبنان، محاولًا استغلال بعض الأحداث والمواقف كباب كبير للدخول مرة أخرى بعد غياب دام طويلًا عن بلاد الأرز، فبعد ساعات قليلة من انفجار مرفأ بيروت صيف 2020 كان الرئيس الفرنسي من أوائل من وطأوا بأقدامهم ثرى العاصمة اللبنانية في مشهد أثار استغراب وتساؤلات الكثير من المراقبين، الزيارة تكررت مرة أخرى بعدها بفترة قصيرة، ليبعث ماركون رسالة مباشرة للداخل الفرنسي بالرغبة الواضحة في تعميق العلاقات مع بيروت.
ومن المسائل التي أوقعت ماكرون في حرج كبير في هذا الملف وأثارت غضب اللبنانيين، اتصاله بحزب الله، محاولًا تطبيق سياسة “عرقنة لبنان” (تطبيق الطريقة العراقية في لبنان من حيث إشراك الكيانات الشيعية على طاولة المفاوضات مع الكيانات السنية للوصول إلى اتفاقيات مشتركة)، وهو ما يضعه في تناقض كبير، إذ كيف يقبل التواصل مع حزب الله الشيعي ويرفض الوضع ذاته مع إيران، الراعي الرسمي والممول الأساسي للحزب اللبناني؟
سوريًا.. تأرجح الموقف الفرنسي من الملف السوري يمينًا ويسارًا بشكل برغماتي بحت، البداية كانت في يونيو/حزيران 2017 حين قال ماكرون إن بشار الأسد “ليس عدونا فهو عدو الشعب السوري”، لكن سرعان ما تغير الموقف بعد أشهر عدة ليصفه بأنه “مجرم” لكنه لم يطالب برحيله كما هو حال بعض دول أوروبا، وفي 2018 اعتبر أن بقاءه في السلطة خطأ فادحًا لا يمكن السكوت عنه، ليتراجع عن هذا الموقف في 2021 حين أشار إلى أنه سيبقى على رأس الحكم و”وسيتعين علينا التحدث معه”.
الموقف الفرنسي المتأرجح بطبيعة الحال إزاء دمشق لا شك أنه سيعاد النظر فيه بعد التقارب المحتمل بين أنقرة ونظام الأسد، الأمر الذي قد يُفقد باريس حلفاءها الأكراد، وهو ما يدفعها إلى الجلوس على مائدة واحدة مع الأسد ونظامه، لتكون فرنسا الماكرونية واحدة من أكثر البلدان تغيرًا في مواقفها السياسية إزاء هذا الملف على وجه التحديد.
فلسطينيًا.. تحاول فرنسا ما قبل ماكرون وفي أثناء حكمه مسك العصا من المنتصف في التعاطي مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي، فهي تطالب دومًا بحل الدولتين كخيار وحيد لحلحلة الأزمة، وتتجنب باريس – في الغالب – الانخراط إلى أي الخندقين، ومن ثم تتشابك من مسافات بعيدة نسبيًا، وأحيانًا متساوية بين الطرفين، بما لا يعرض مصالحها هنا وهناك للخطر، وهو الموقف الذي جعلها لاعبًا من الدرجة الرابعة في هذا الملف.
البرغماتية التي يتحرك بها ماكرون إزاء ملفات الشرق الأوسط لم تسمح له دائمًا بلعب دور الوسيط الذي يطمح له، وهو ما يعد فشلًا ذريعًا في الإجمال بحسب الكاتب الفرنسي جورج مالبرينو في صحيفة “لوفيغارو”، الذي قال إن الرئيس الفرنسي وإن نجح نسبيًا في العراق لكن مسألة تعزيز نفوذ بلاده في لبنان وإيران وبقية الملفات واجهت عقبات كثيرة حالت دون تحقيق الأهداف المنشودة.
سياسة جديدة تجاه إفريقيا
في عام 2007 أعلن الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي عن سياسة جديدة تجاه إفريقيا تقوم على الشفافية والمساءلة والمصالح المشتركة، واصفًا علاقات بلاده بالقارة السوداء بأنها جزء من “الآثار العاطفية والتاريخية للعصر الاستعماري، التي أدت إلى إعاقة العلاقات وعزّزت الدور الأبوي من دون أن تنعكس السياسة على أرض الواقع من الناحية العملية”.
حاول ساركوزي إنقاذ ما يمكن إنقاذه بشان المصالح الفرنسية في الفناء الخلفي (مصطلح يطلق على مستعمرات فرنسا في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى) وذلك بعد الإخفاقات المتكررة للسياسة الفرنسية في القارة السوداء، على أمل إحياء العصر الذهبي لتلك العلاقة التي حققت باريس من خلالها مكاسب هائلة وضعتها في مصاف الدول صاحبة النفوذ الأكبر عالميًا.
يذكر أن فرنسا تدخلت في 20 دولة إفريقية خلال الفترة بين 1961 – 1992، وتدخلت في قرابة 17 دولة بين 1992 – 2017، وفق دراسة أجراها مات تيريتلي من جامعة تكساس، لكن بعد هذا التاريخ تراجع نفوذها بشكل كبير، وهو ما دفع ماكرون لوضع منهجية جديدة في التعامل مع القارة تُكمل ما لم يستطع ساركوزي إكماله.
وما إن تولى الرئيس الجديد السلطة في بلاده عام 2017 حتى أعلن إنهاء صفحة “فرنسا الإفريقية” والدخول إلى عهد جديد يقوم على العلاقات الجيدة والمتوازنة والمسؤولة بين الطرفين، وتضمنت رؤية ماكرون الجديدة خفض الوجود العسكري في إفريقيا إلى أدنى مستوى (3000 جندي بدل 5500) وإنهاء القواعد العسكرية الفرنسية وتحويلها إلى أكاديميات تشارك في إدارتها فرنسا والدول الأوروبية والإفريقية والتركيز على مشاريع التنمية والاحتياجات الإنسانية ورفض المنافسة الإستراتيجية التي تنخرط فيها بعض الأطراف الدولية والتوسع في العلاقات مع الدول الناطقة بالإنجليزية مثل كينيا وغانا ونيجيريا وتوسيع نطاق الشركاء في إفريقيا بوصف ذلك تحديًا حيويًا لأوروبا بأكملها وتركيز وتعزيز القوة الناعمة مع الدول الناطقة بالفرنسية وتسهيل التأشيرات للطلاب ودعم الرياضة، وخلال سنوات حكمه أجرى ماكرون 18 زيارة لدول إفريقيا.
المراقبون يفسرون تلك الهرولة الماكرونية والانقلاب – الظاهري – في سياسة فرنسا تجاه إفريقيا بأنها محاولة للالتفاف على نتائج السياسات القديمة من خلال إستراتيجية جديدة تُغري الأفارقة وتحاول إلى حد ما إزالة الآثار السلبية العالقة طيلة السنوات الماضية التي كانت تتعامل فيها باريس مع شعوب القارة بفوقية ودونية لافتة.
ذهب باحثون إلى أن ماكرون من خلال جولاته المكوكية للقارة الإفريقية وسباق الزمن لتجميل صورة بلاده يريد منافسة روسيا والصين والهند والولايات المتحدة في الحصول على أكبر نصيب من كعكة القارة التي زادت أهميتها خلال السنوات الأخيرة، خاصة ثرواتها الطبيعية والمعدنية، بجانب البعد التاريخي في الحالة الفرنسية تحديدًا التي تتعامل مع
إفريقيا كـ”ملكية خاصة”.
وعن فرص نجاح فرنسا في سياستها الإفريقية الجديدة يرى الباحث في قسم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد كويتين كوهين أن باريس في هذا الشأن تواجه عددًا من المشكلات، على رأسها القصور البيروقراطي والتعقيدات في دوائر السياسة الخارجية، هذا بجانب أن الفرنسيين لم يطوروا حتى الآن سياستهم بالشكل الذي يتواءم مع التحوّلات الاجتماعية والسياسية في إفريقيا، فضلًا عن ظهور منافسين جدد على الساحة الإفريقية التي لم تعد حكرًا على أبناء ديجول فقط.
التوجه نحو معسكر الشرق
في 2019 وبينما كانت العلاقات بين الصين من جانب والولايات المتحدة وبعض دول أوروبا من جانب آخر على صفيح ساخن، غرد ماكرون منفردًا مجريًا زيارة إلى بكين، وصفت بأنها مثيرة للجدل وتعكس رغبة قوية لدى الرئيس الفرنسي في السير عكس عقارب الساعة الغربية.
الأمر تكرر قبل أيام حين توجه ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى الصين، في زيارة حملت عنوانًا عريضًا خاصًا بالتوسط لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، لكن في المضمون جاءت الكثير من العناوين الفرعية التي تشير إلى إصرار فرنسي ماكروني على تعميق العلاقات مع الصينيين بمبدأ برغماتي بحت.
صحيفة التلغراف البريطانية في مقال نشرته وصفت تلك الزيارة بأنها تكشف انبطاح ماكرون ودير لاين أمام زعيم الصين شي جين بينغ، لافتة أن بكين في عهد شي لا تخفي طموحاتها في أن تكون القوة المهيمنة في العالم، كما أنها بجانب روسيا وإيران وكوريا الشمالية يمثلون المعسكر المناقض تمامًا لمبادئ الغرب من حيث الحريات وقيم الليبرالية.
كاتب المقال كون كوغلين يرى أن الغرب إذا ما أرد أن يصمد أمام تحدي الأجيال الذي تفرضه الأنظمة الاستبدادية، فإنه بحاجة إلى إظهار القوة والعزم وليس هذا “المشهد المخزي لماكرون ودير لاين في زيارتهما للصين” على حد قوله، مضيفًا أنه من الأفضل استثمار الجهود الغربية في تعزيز العلاقات مع الحلفاء والأصدقاء كما فعل الناتو مع انضمام فنلندا وليس محاولة إقناع قادة لا يمكن التوافق معهم مثل الرئيس الصيني، مختتمًا مقاله بأن إنشاء اتفاقيات الدفاع المشترك كاتفاقية أوكوس بين بريطانيا وأمريكا وأستراليا هو التطور الأكثر نجاحًا لإظهار استعداد الغرب للدفاع عن مصالحه ضد الخصوم كالصين.
أما صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية فوصفت تعزيز التقارب الفرنسي الصيني الذي كان من مخرجاته خلال أسبوع واحد فقط من الزيارة توقيع 36 شركة صينية وفرنسية صفقات جديدة، بأنه محاولة صينية واضحة لاستخدام ماكرون في دقّ إسفينٍ بين الإستراتيجيات الأوروبية والأمريكية بشأن الصين، لا سيما بعد التصريحات المثيرة للجدل الصادرة عنه في طريق العودة التي كشفت الكثير من المسكوت عنه في توجهات الرئيس الفرنسي ورؤيته للتحالف الأوروبي الأمريكي.
الحرب الروسية الأوكرانية هي الأخرى كانت فضاءً كبيرًا للتوجهات الفرنسية الماكرونية إزاء المعسكر الشرقي، حيث كان ماكرون من قادة أوروبا القلائل الذين لم يؤيدوا سياسة الغرب نحو تشديد الخناق على موسكو، بل كان آخر القادة الأوروبيين الذين يتصلون بشكل دوري بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أمل إيجاد حل سياسي للخروج من الأزمة، وإن تغيرت تلك النبرة مؤخرًا معلنًا تقديم الدعم العسكري واللوجستي لكييف، وهو التغير الذي له الكثير من الأسباب والدوافع التي لم تقلل من الإستراتيجية الفرنسية في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع موسكو ومعسكرها.
الخروج عن العباءة الأمريكية
على متن طائرته الخاصة خلال زيارته للصين أجرت صحيفة “بولتيكيو” مقابلة مع الرئيس الفرنسي في التاسع من الشهر الحاليّ، وجه من خلالها الكثير من الرسائل التي يراها البعض مفاجئة في توقيتها وليس في دلالتها ومضمونها، حيث اعتبر ماكرون أن “الخطر الكبير” الذي تواجهه أوروبا هو “الانخراط في أزمات ليست أزماتها” مناشدًا أوروبا بأن “تقلل من اعتمادها على الولايات المتحدة” وأن تتجنب الانجرار إلى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان.
ماكرون وبصراحة مطلقة قال: “المفارقة هي أنه إذا تم التغلب عليها بالذعر، نعتقد أننا سنصبح مجرد أتباع لأمريكا.. السؤال الذي يتعين على الأوروبيين الإجابة عنه هو هل من مصلحتنا تسريع أزمة في تايوان؟ لا”، مشيرًا إلى أنّ “الأمر الأسوأ هو الاعتقاد بأننا نحن الأوروبيين، يجب أن نصبح أتباعًا في هذا الموضوع وأن نأخذ تلميحنا من الأجندة الأمريكية ورد الفعل الصيني المبالغ فيه”.
فقدت فرنسا الكثير من نفوذها في الدول التي كانت بالأمس فناءها الخلفي الذي يدين بالولاء التام لباريس وسلطتها، وهو ما دفعها لإعادة النظر في السياسات المتبعة قديمًا وانتهاج سياسة جديدة
ولفت الرئيس الفرنسي إلى زيادة اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في السلاح والطاقة، وأن عليها التركيز على تعزيز صناعاتها الوطنية في هذين المجالين، كذلك طالبها بأن تقلل من اعتمادها على الدولار الأمريكي الذي يعتبره ماكرون تجاوز الحدود الإقليمية، مضيفًا “إذا اشتدت التوترات بين القوتين العظميين.. فلن يكون لدينا الوقت ولا الموارد لتمويل استقلالنا الإستراتيجي.. سنصبح تابعين”.
لم تكن تلك هي التصريحات الأولى لماكرون التي طالب من خلالها بالانسلاخ عن المسار الأمريكي، ففي ديسمبر/كانون الأول 2022 دعا الدول الأوروبية لأن تكون أكثر حسمًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأن تحد من الاعتماد على واشنطن في المجالات الأمنية والدفاعية.
إخفاقات بالجملة
حصاد السنوات الستة لحكم ماكرون تشير إلى فشل واضح وإخفاقات عدة في الدبلوماسية الفرنسية، تمثل ذلك على أكثر من مسار وفي ملفات عدة، فعلى مستوى النفوذ الدفاعي الاقتصادي مثلًا تلقت باريس صدمة كبيرة في سبتمبر/أيلول 2021 حين ألغت أستراليا صفقة شراء غواصات فرنسية كانت تقدر قيمتها بـ56 مليار دولار، واستبدلتها بصفقة أمريكية دون إبداء أسباب، وإن كان ذلك أحد مخرجات اتفاق “أوكوس” بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا.
وعلى المستوى الأوروبي ورغم أن ماكرون كان من أشد المطالبين بوحدة الصف الأوروبي وتجاوز الخلافات البينية، تعرضت علاقات بلاده بألمانيا إلى موجة توتير شديدة القسوة، بعدما تأزمت إثر الحرب الروسية الأوكرانية، حيث اختارت برلين التزود بالسلاح الأمريكي وهو ما يتعارض مع باريس التي تطالب ببناء استقلالية عسكرية وأمنية أوروبية.
ومن قلب أوروبا إلى المغرب العربي، حيث فشلت باريس في الإبقاء على علاقات متوازنة مع الرباط والجزائر على خلفية أزمة الصحراء المغربية، حيث تراوحت مواقفها بين هذا وذاك، كأنها تريد التغريد خارج السرب الأمريكي بعد اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء، ما أفقدها نفوذها وتأثيرها في هذا الملف.
الوضع كذلك في إفريقيا حيث فقدت فرنسا الكثير من نفوذها في الدول التي كانت بالأمس فناءها الخلفي الذي يدين بالولاء التام لباريس وسلطتها، وهو ما دفعها لإعادة النظر في السياسات المتبعة قديمًا وانتهاج سياسة جديدة، لكنها قوبلت باحتجاجات عارمة مناهضة للوجود الفرنسي في العديد من عواصم تلك الدول، ما أجبر فرنسا على سحب جنودها وتقليص حضورها، في الوقت الذي تعزز قوى أخرى من وجودها هناك كروسيا والصين والهند، هذا بجانب الفشل الواضح على مستوى ملف الاتفاق النووي الإيراني وذلك بعد تعقيد واشنطن للأمر بشكل يضع جهود فرنسا لإنجازه في مهب الريح.
ومن مخرجات هذا الفشل الدبلوماسي لفرنسا، إقدام ماكرون على حل السلك الدبلوماسي الفرنسي كهيئة مستقلة، وتدشين كيان جديد مكون من 800 من كبار الموظفين في مختلف القطاعات، الذي سيكون مخولًا باختيار الدبلوماسيين مستقبلًا، ما يعني أن سفراء المستقبل لن يكونوا أبناء وزارة الخارجية، وتعتبر تلك الخطوة بحسب وصف “DW عربي” “قطيعة مع تقاليد راسخة” للدبلوماسية الفرنسية، ثالث أكبر دبلوماسية في العالم من حيث تمثيلياتها بعد أمريكا والصين.
دعي الفرنسيون إلى الإضراب والتظاهر الخميس ضد إصلاح نظام التقاعد في أحدث تعبئة عشية قرار حاسم للمجلس الدستوري بشأن هذا المشروع الذي بات رمزاً للولاية الرئاسية الثانية لإيمانويل #ماكرون.https://t.co/j09cAeg3aJ #فرانس_برس
✍️ @Laubarth pic.twitter.com/qzocHZjAGP
— فرانس برس بالعربية (@AFPar) April 13, 2023
ماكرون في حراكه الدبلوماسي هذا، والسياسة الخارجية الجديدة التي يتبناها، وإن كان يرفع شعارات الاستقلال الأوروبي وبناء إستراتيجية أوروبية خالصة، فإنه يبحث في المقام الأول عن مجد شخصي ينسب له كـ”مخلص” أوروبا من التبعية الأمريكية، فهو أحد القوميين الشعبويين المؤمنين تمامًا بضرورة فك تلك العلاقة التي حولت القارة العجوز وإمبراطوريتها التاريخية إلى ولايات تابعة للبيت الأبيض، خاصة على مستويات الدفاع والأمن والطاقة.
وبالتوازي مع ذلك، فإن تصاعد الغضب الشعبي إزاء سياساته الداخلية التي أفقرت الشعب الفرنسي وزادت من معدلات التضخم والفقر، وكان من نتائجها اشتعال الشارع الفرنسي بالاحتجاجات العارمة التي تطالبه بالاستقالة، يعد أحد الأسباب والدوافع التي تسوقه نحو انتصار دبلوماسي خارجي يخفف نسبيًا من حدة الفشل الداخلي، والهروب من فخ الإسقاط بالقاضية بإرادة الشعب، ويمنحه فرصة جديدة لتمجيد اسمه وتخليده بين الزعماء المؤثرين في مسيرة الجمهورية الفرنسية الخامسة.
وسواء كان إشعال الوضع داخليًا شأنًا فرنسيًا بحتًا أو تأجيجًا من الخارج، خاصة الولايات المتحدة كنوع من العقاب لماكرون على طموحه في التغريد خارج السرب، فإن هناك شبه اتفاق على فشل الرئيس الشاب في تحقيق طموحاته السياسية بعد الإخفاقات التي منيت بها دبلوماسيته التي فقدت الكثير من سماتها التقليدية كالتوازن والانسجام والثبات وعدم التأرجح.