تشير أرقام الأمم المتحدة إلى تعاطي نحو 284 مليون شخص أو 5.6% من سكان العالم مخدرًا مثل الهيروين أو الكوكايين أو الأمفيتامينات أو الإكستاسي سنة 2020، وهي أحدث البيانات المتاحة، ومن بين هؤلاء استخدم 209 ملايين القنب الهندي.
تُعزى نحو 500 ألف حالة وفاة سنويًا إلى تعاطي المخدرات في العالم، أكثر من 70% من هذه الوفيات مرتبطة بالمواد الأفيونية المصنوعة من نبات الخشخاش، وأكثر من 30% منها ناجمة عن الجرعة الزائدة للمخدرات.
في بعض البلدان، تحتل الجرعات الزائدة من المخدرات مرتبة عالية في الأسباب الرئيسية للوفاة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، مات عدد أكبر من الأشخاص بسبب الجرعات الزائدة مقارنة بحوادث الطرق، في عام 2017.
ليس هذا فحسب، فآلاف الأبرياء سقطوا ضحايا الحرب على المخدرات في العديد من الدول في العقود الخمس الأخيرة، على رأسها أفغانستان، فضلًا عن آثارها الاجتماعية السلبية التي أثرت على الكثير من الشعوب في العالم.
أرقام مفزعة، جعلتنا نحاول في نون بوست تسليط الضوء على هذه الآفة التي تهدد البشرية، من خلال البحث عن تاريخها، فضلًا عن أبرز أنواعها ومخاطرها والجهود الدولية للتصدي لها، دون أن ننسى الحديث عن أهم بارونات تجارة المخدرات وأبرز الطرق المعتمدة في هذه التجارة.
لمحة تاريخية عن المخدرات
يعود استعمال المخدرات إلى أزمنة بعيدة، وفق ما ورد في تراث الحضارات القديمة، وقد وجدت تلك الآثار على شكل نقوش على جدران المعابد أو كتابات على أوراق البردي المصرية القديمة أو كأساطير مروية تناقلتها الأجيال.
تقول بعض المراجع التاريخية إن استعمال المخدرات شاع في العديد من الحضارات كالصين واليونان والرومان ومصر والهند منذ القدم، إذ عُرفت المخدرات 7000 سنة قبل الميلاد كمادة لعلاج بعض الأمراض كالمغص عند الأطفال والأرق.
كانت هناك علاقة بين استخدام المواد المخدرة والطقوس الدينية، فقد كان الاعتقاد السائد أن تعاطي المخدرات يسهل عملية الاتصال بعالم الأرواح أو بالقوى الغيبية، كما كان استهلاكها قديمًا مقتصرًا فقط على فئة اجتماعية معينة.
لعل من أقدم أنواع المخدرات الأفيون (الخشاش)، وقد عرفه سكان وسط آسيا في الألف السابعة قبل الميلاد ومنها انتشر إلى مناطق العالم المختلفة، أما المصريون القدماء فقد عرفوه في الألف الرابعة قبل الميلاد، واستخدموه كعلاج للأوجاع، وعرفه كذلك السومريون وأطلقوا عليه اسم نبات السعادة.
ثم عرفه البابليون والفرس، كما استخدمه الصينيون والهنود، ثم انتقل إلى اليونان والرومان ولكنهم أساؤوا استعماله فأدمنوه، وأوصى حكماؤهم بمنع استعماله، وأكدت ذلك المخطوطات القديمة بين هوميروس وأبو قراط ومن أرسطو إلى فيرجيل.
بداية استخدامات المورفين كانت طبية فهو يُخفف الآلام، وقد ساعد في العمليات الجراحية خاصة إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية
فيما بعد عُرف القنب، واستخدمته الشعوب القديمة في أغراض متعددة، فصنعت من أليافه الحبال وأنواعًا من الأقمشة، واستعمل كذلك في أغراض دينية وترويحية، فهو واهب السعادة بالنسبة للصينيين ومخفف الأحزان للهندوس.
يعتبر الصينيون من أوائل الشعوب التي عرفت القنب واستخدمته، فقد عرفه الإمبراطور شن ننج عام 2737 قبل الميلاد وأطلق عليه حينها واهب السعادة، أما الآشوريون فقد استعملوه في القرن السابع قبل الميلاد في حفلاتهم الدينية وسموه نبتة “كونوبو”.
بدورهم يعتقد الهندوس أن الإله “شيفا” هو الذي يأتي بنبات القنب من المحيط، ثم تستخرج منه باقي الآلهة ما وصفوه بالرحيق الإلهي ويقصدون به الحشيش، وهو أحب شراب إلى الإله “أندرا”، ولا يزال يستخدم هذا النبات في معابد الهندوس والسيخ في الهند ونيبال ومعابد أتباع شيتا في الأعياد المقدسة حتى الآن.
أما الإغريق فقد نقشوا صورًا لنبات الخشاش على جدران المعابد والمقابر، واختلف المدلول الرمزي لهذه النقوش حسب الآلهة التي تمسك بها، ففي يد الإله “بلوتو” تعني الموت أو النوم الأبدي، فيما الإلهة “هيرا” تعني الأمومة، أما الإلهة “ديميتر” تعني خصوبة الأرض.
فيما عرفت أمريكا اللاتينية أو ما يُعرف قديمًا بحضارة قبائل الإنديز “الكوكايين”، وذلك قبل أكثر من ألفي عام ومنها انتشر إلى معظم أنحاء العالم ولا تزال هذه القارة أكبر منتج له حتى الآن، وتقول أسطورة انتشرت بينهم إن امرأة نزلت من السماء لتخفف آلام الناس، وتجلب لهم نومًا هنيئًا، وتحولت بفضل القوة الإلهية إلى شجرة الكوكا.
بعد ذلك ظهر القات الذي يستخرج من أوراق شجرة معمرة يتراوح ارتفاعها ما بين متر إلى مترين، تزرع في اليمن والقرن الإفريقي وأفغانستان وأواسط آسيا، وجاء أول وصف علمي للقات على يد العالم السويدي بير فورسكال عام 1763، مع ذلك فاستعمالها ظهر قبل ذلك بكثير، إذ ذكرها “المقريزي” الذي عاش بين عامي 1364 و1442 ميلادي في كتبه.
يرى مستهلكو القات أنها تنشط الذاكرة وتذكر الإنسان بما هو منسي، كما تضعف الشهية والنوم، وقد اختلف الباحثون في تحديد أول منطقة ظهرت بها هذه الشجرة، فبينما يرى البعض أن أول ظهور لها كان في تركستان وأفغانستان يرى البعض الآخر أن الموطن الأصلي لها يرجع إلى الحبشة.
توالت البحوث، واشتق العديد من الباحثين موادًا جديدةً من المواد المخدرة القديمة، فمثلًا تم اشتقاق “المورفين” من الأفيون سنة 1806، حيث استطاع العالم الألماني سير تبرز فصله عن الأفيون، وأطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى الإله مورفيوس إله الأحلام عند الإغريق.
بدأت تجارة المخدرات بشكل واسع في الصين، ففي سنة 1906 وصل عدد مدمني الأفيون هناك 15 مليونًا
بداية استخدامات المورفين كانت طبية فهو يخفف الآلام، وقد ساعد في العمليات الجراحية خاصة إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية (1861 – 1861) ومنذ اختراع الإبرة الطبية أصبح استخدام المورفين بطريقة الحقن في متناول اليد.
سنة 1898، اشتقت شركة باير للأدوية “الهيروين” من “المورفين”، لكنه أشد خطرًا منه، وقد أسيئ استخدمه وخرج من الاستعمالات الطبية إلى الاستعمالات الأخرى، ما أدى إلى إدراجه ضمن المواد المخدرة فائقة الخطورة.
قبل ذلك بـ12 سنة تم اكتشاف “الأمفيتامينات” (المنشطات)، وكان الجنود في الحروب يستخدمونها ليواصلوا العمل دون الشعور بالتعب، أما طبيًا فلم يُستخدم إلا عام 1930، وقد سوقت تجاريًا تحت اسم البنزورين، وكثر بعد ذلك تصنيع العديد منها مثل الكيكيدرين والمستيدرين والريتالين.
أما العرب، فقد عرفوا الأفيون منذ القرن الثامن الميلادي، ووصفه ابن سينا لعلاج التهاب غشاء الرئة، وفي القرن الحادي عشر الميلادي، استعمل قائد القرامطة في آسيا الوسطى حسن بن صباح الحشيش، وكان يقدمه مكافأة لأفراد مجموعته البارزين، وقد عرفت هذه الفرقة بالحشاشين.
تجارة المخدرات
لم يكن استهلاك المخدرات محليًا ولا على نطاق ضيق، إذ سرعان ما عرف انتشارًا كبيرًا وأصبح تجارةً تدر أموالًا كثيرة للقائمين عليها، مرورًا بالزراعة، فالتصنيع فالتوزيع فالبيع، حتى إنها أصبحت من أكبر الأسواق السوداء العالمية.
بدأت تجارة المخدرات بشكل واسع في الصين، ففي سنة 1906 وصل عدد مدمني الأفيون هناك 15 مليونًا، وفي سنة 1920 كانت نسبة المدمنين 25% من عدد الذكور في المدن الصينية، وكانت شركة الهند الشرقية التي تسيطر عليها إنجلترا المحتكرة لهذه التجارة في أسواق الصين.
تطورت هذه التجارة، إلى أن أصبحت تحت إشراف شبكات إجرامية عابرة للقارات، ويشارك فيها مزارعون ومنتجون وناقلون ومورّدون وتجار، وفي كثير من الأحيان، يرتبط الاتجار بالمخدرات بأشكال أخرى من الجريمة، مثل غسيل الأموال أو الفساد، كما يمكن للشبكات الإجرامية أن تستخدم مسالك الاتجار لنقل منتجات أخرى غير مشروعة.
من الصعب للغاية تقدير قيمة سوق المخدرات غير المشروعة، وأدت المحاولات القليلة الجادة التي تم إجراؤها إلى أرقام متفاوتة على نطاق واسع، إذ ورد في أحد منشورات الأمم المتحدة لعام 1998 “العواقب الاقتصادية والاجتماعية لتعاطي المخدرات والاتجار غير المشروع” ما يلي:
“مع تقديرات تتراوح بين 100 مليار دولار و110 مليارات دولار للهيروين، و110 مليار دولار إلى 130 مليار دولار للكوكايين، و75 مليار دولار للقنب، و60 مليار دولار للمخدرات الاصطناعية، فإن الرقم العالمي المحتمل لإجمالي صناعة المخدرات غير المشروعة سيكون نحو 360 مليار دولار”.
يمكن أن يكون هذا الرقم أكبر بكثير، خاصة أن تجارة المخدرات تنامت في السنوات الأخيرة، نتيجة الصراعات الدولية، فضلًا عن تسهيل مواقع التواصل الاجتماعي والأدوات الرقمية الأخرى لهذه التجارة، وفق تقرير صادر سنة 2021 عن الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات، وهي هيئة مستقلة تدعمها الأمم المتحدة.
مسارات التهريب الدولية
تمرّ تجارة المخدرات عبر العديد من الطرق أبرزها “طريق فنزويلا”، فتاريخيًا كانت فنزويلا الطريق الأساسي لتهريب المخدرات التي تصنع في كولومبيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا، مرورًا بدول أمريكا الوسطى كالمكسيك ومنطقة البحر الكاريبي كهاييتي والجمهورية الدومينيكية وبورتوريكو.
في هذا الطريق يتم خصوصًا تهريب الكوكايين، وبينت الأمم المتحدة وجود زيادة ملحوظة في هذه المادة المخدرة عن طريق فنزويلا منذ عام 2002، يُذكر أن فنزويلا قطعت علاقتها مع إدارة مكافحة المخدرات للولايات المتحدة (DEA) سنة 2005 متهمة إياها بالتجسس.
تشير العديد من التقارير إلى تورط أعضاء بالحكومات الفنزويلية والجيش في تجارة المخدرات، فالعديد من العصابات تعمل تحت إمرة الدولة، مع ذلك فإن الحكومة غالبًا ما تقوم بضبط بعض الشحنات، ففي السنة الماضية تم ضبط أكثر من 36 ألف كيلوغرام من المخدرات غير المشروعة، ما يمثل زيادة بنسبة 29.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
تشديد الرقابة على فنزويلا، أدى إلى تراجع حجم تجارة المخدرات عبرها وبروز دول أخرى، حيث سبق أن أشارت منظمات أمريكية إلى أن فنزويلا لم تعد تمثل طريقًا رئيسيًا للكوكايين الكولومبي، ففي سنة 2018 تم تمرير 210 أطنان من الكوكايين عبر فنزويلا نحو الأراضي الأمريكية.
تتوافر في مناطق سيطرة النظام السوري كل العوامل اللازمة للاتجار بالمخدرات
هذا الرقم يمثّل 10% من إنتاج كولومبيا، أما الـ90% الأخرى فقد كانت تمر عبر طرق أخرى في غرب الكاريبي وشرق المحيط الهادي، وكانت غواتيملا بمفردها تمرر ستة أضعاف ما يمر عبر فنزويلا، وهذه الدولة لها علاقات قوية بالولايات المتحدة.
كما برزت في السنوات الأخيرة، تجارة الكوكايين عبر المكسيك والبرازيل وبيرو وبوليفيا وشيلي والإكوادور، وتعبر معظم كميات الكوكايين المحيط الأطلسي في حاويات، ويكون المخدر مخبأ في شحنات من الموز أو مسحوق السكر أو السلع المعلبة.
فيما يهرب جزء آخر جوًا في حقائب أو أمعاء المهربين، كما يُهرب أحيانًا في قاع البحر بغواصات يتم التحكم بها عن بعد، وتسيطر المافيا على العديد من الموانئ في أمريكا اللاتينية والقارة الأوروبية، ما يسهل عليهم تجارتهم غير المشروعة.
تهريب الكوكايين الكولومبي لا يمر فقط عبر دول أمريكا اللاتينية، إنما يتم أيضًا عبر غرب إفريقيا، فقد ازدادت عمليات شحن الكوكايين المنتج في كولومبيا وبوليفيا إلى غرب إفريقيا (خاصة في الرأس الأخضر ومالي وبنين وتوغو ونيجيريا والكاميرون وغينيا وغينيا بيساو وغانا)، وكثيرًا ما تجري عمليات غسيل الأموال في بلدان مثل نيجيريا وغانا والسنغال.
المخدرات التي تصل إلى غرب إفريقيا يتم شحنها إلى الدول الأوروبية، وذلك عن طريق الصحراء أو عن طريق طائرات الشحن لنقل البضائع فضلًا عن البحر، ويتم غسل أموال هذه التجارة في تجارة العقارات، ما يفسّر القفزة العقارية الكبيرة في عدد من دول غرب القارة الإفريقية.
تؤكد تقارير عديدة وجود شبكتين رئيسيتين من الطرق تنقلان المخدرات عبر غرب إفريقيا: تمر الأولى عبر مالي والسنغال وغينيا وكوت ديفوار وبوركينا فاسو، أو الحدود الشمالية الغربية مع موريتانيا، قبل الاتجاه إلى النيجر وليبيا، وفي نهاية المطاف إلى أسواق أخرى، فيما يمتد الطريق الثاني على طول الساحل من غينيا بيساو إلى موريتانيا، حيث تنقل قوارب الصيد المخدرات إلى أوروبا.
تصل المخدرات إلى أوروبا عبر آسيا أيضًا، وتعد أفغانستان المصدر الرئيسي لهذه المخدرات، إذ يزرع الأفغان المخدرات ليتم تهريبها إلى غرب ووسط آسيا فيما بعد، ويتخذ المهربون إيران طريقًا رئيسيًا في عمليات التهريب.
يذكر أن زراعة وتجارة المخدرات تشكل 6% إلى 11% من الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان، حسب تقرير أممي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقدّر التقرير عوائد التجارة والزراعة بالأفيون أو المخدرات عمومًا في أفغانستان بما يتراوح بين 1.8 و2.7 مليار دولار خلال العام الماضي.
كما تعد كل من جنوب شرق آسيا وأمريكا الشمالية أكبر سوقين لعقار الميثامفيتامين المخدر، وقد ارتفعت المضبوطات من عقار الميثامفيتامين بنسبة 7% عام 2020 في أمريكا الشمالية مقارنة بعام 2019، بينما زادت المضبوطات في جنوب شرق آسيا بنسبة 30% عن عام 2019، وفق تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
في السنوات الأخيرة، برزت دول ومناطق جديدة في خريطة تجارة المخدرات، أبرزها سوريا التي تحوّلت إلى أحدث دولة مخدرات في العالم، مخترقة لبنان المجاور الذي يعاني من انهيار اقتصاده، حيث أصبح الأمفيتامين الذي كان يستخدم سابقًا كمنبه وعلاج لفرط الحركة، المخدر المفضل في منطقة الخليج خاصة المملكة السعودية.
برزت في السنوات الأخيرة دولة جديدة في خريطة تجارة المخدرات وهي سوريا، ويشرف النظام على هذه التجارة مباشرة
تتوافر في مناطق سيطرة النظام السوري كل العوامل اللازمة للاتجار بالمخدرات، فلديه خبراء لتصنيع الكبتاغون، وآلات خاصة وعشرات المعامل ومرافئ متصلة بممرات الشحن في البحر الأبيض المتوسط وطرق تهريب برية إلى الأردن ولبنان والعراق.
يتم تهريب المخدرات عن طريق لبنان والأردن أو عن طريق البحر لتصل لدول الخليج العربي خاصة السعودية، فضلًا عن ليبيا والدول الأوروبية أيضًا، وتدر هذه التجارة أموالًا كثيرةً على نظام بشار الأسد الذي تلاحقه العقوبات الدولية، بسبب الجرائم التي ارتكبها في حقّ شعبه.
أبرز العصابات الدولية
ضمن هذه التجارة العابرة للحدود والقارات، برزت العديد من العصابات والبارونات، أبرزهم الكولومبي بابلو إسكوبار وهو أكبر وأشهر بارون مخدرات في العالم، أدرجته مجلة فوربس ضمن قائمة أغنى 10 أشخاص في العالم وتوفي عن عمر يناهز 44 عاما فوق سطح أحد المنازل في ميديلين في 2 ديسمبر/كانون الأول عام 1993 خلال مواجهة مع قوات الأمن بعد مطاردة دامت 16 شهرًا.
يُعتبر إسكوبار زعيم العصابات الوحيد على مدار التاريخ الذي أعلن الحرب على الدولة، إذ نفذ العديد من الاعتداءات المسلحة والتفجيرات التي استهدفت قوات الأمن وموظفي القطاع العام والمدنيين، وهو مسؤول عن مقتل ما لا يقل عن 4 آلاف شخص.
ضمن بارونات المخدرات الذين ماتوا، نجد أيضًا فرانك لوكاس الذي برع في تهريب المخدرات إلى داخل أمريكا بطرق غير مسبوقة وترويجها في الشوارع دون وسيط، وتمكن من بناء ثروة طائلة من المال والعقارات، وقبض عليه وسجن لكنه خرج بعد الاتفاق مع أجهزة الأمن، وتوفي في يونيو/حزيران لأسباب طبيعية.
لم يعتمد “لوكاس” في تجارة المخدرات على الوسطاء، إذ كان يستوردها من المصنعين في دول شرق آسيا عمومًا وتايلاند على وجه الخصوص، ويدخلها تهريبًا إلى السوق الأمريكية ويوزعها في الشارع، فعصابته كانت تعمل على مختلف المستويات في الشراء والتهريب والتوزيع، حتى إنها حازت علامة تجارية محددة للهيروين سمّيت “السحر الأزرق”.
نبقى مع بارونات المخدرات، هذه المرة سنتحدث عن المكسيكي خواكين غوزمان الشهير بـ”إل تشابو”، الذي حكمت عليه محكمة فيدرالية في نيويورك قبل 3 سنوات، بالسجن مدى الحياة بالإضافة إلى 30 عامًا، وسبق أن استطاع غوزمان الهرب من سجن مكسيكي عبر نفق في عام 2015، لكنه اعتُقل في وقت لاحق، وسُلّم إلى الولايات المتحدة عام 2017.
قاد غوزمان عصابة “سينالوا” لتجارة المخدرات التي تعد أكبر مورد للمخدرات إلى الولايات المتحدة، وتشير تقارير إلى تصدير “إل تشابو” مئات الأطنان من الكوكايين إلى الولايات المتحدة، فضلًا عن إشرافه على توزيع مخدرات الهيروين والميثامفيتامين والماريجوانا، كما استخدم قتلة محترفين لتنفيذ المئات من جرائم القتل والخطف والتعذيب.
بعد القبض على “إل شابو”، ظهر المكسيكي إسماعيل زامبادا المعروف بـ”إل مايو”، يعتبر “إل مايو” ثاني أكثر المجرمين المطلوبين لدى الولايات المتحدة الأمريكية، ويتهم بتوريد الكوكايين والهيروين إلى المدن الأمريكية من خلال القطار والسفن والطائرات.
بالعودة إلى كولومبيا، فقد برز دايرو أنطونيو أوسوغا، الشهير باسم “أوتونييل”، وقد تم القبض عليه وسلمته سلطات بلاده إلى الولايات المتحدة في مايو/أيار الماضي، ويُعتبر “أوتونيل” أكبر تاجر مخدرات في البلاد.
وكان أوسوغا (50 عامًا) المطلوب الأول في كولومبيا إلى أن أوقفته قوات الأمن في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2021 في شمال غربي البلاد، خلال عملية عسكرية واسعة النطاق، وهو ملاحق منذ 2009 أمام محكمة في نيويورك بتهمة الاتجار بالمخدّرات.
فضلًا عن هذه العصابات، وجهت العديد من التقارير الغربية اتهامات لبعض الدول بالاتجار في المخدرات من ذلك الاتهام الأمريكي للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وعدد من كبار مسؤوليه بجرائم متعلقة بالمخدرات، ورصدت واشنطن مكافأة قدرها 15 مليون دولار مقابل الإدلاء بمعلومات تؤدي للقبض على مادورو.
تعود أقدم الحروب ضد المخدرات إلى القرن السابع عشر، وذلك في الصين التي عرفت “حروب الأفيون”
كما تُتهم إيران بالتورط في تجارة المخدرات، انطلاقًا من غرب إفريقيا وأفغانستان ليتم توزيعها في العراق وتركيا وأذربيجان، وصولًا إلى أوروبا، ويشرف على هذه التجارة الحرس الثوري الإيراني وتدرّ له أموالًا طائلة.
فضلًا عن فنزويلا وإيران، برزت في السنوات الأخيرة دولة جديدة في خريطة تجارة المخدرات وهي سوريا، ويشرف النظام على هذه التجارة مباشرة، وأسندت المهمة لشقيق رئيس النظام بشار، الأسد ماهر، وهو قائد أهم الفرق العسكرية بجيش النظام (الفرقة الرابعة).
يستفيد نظام بشار الأسد من العديد من المليشيات، أبرزها مليشيات “حزب الله” البارعة في هذه التجارة، فلها دراية كبيرة بها، نظرًا لتجربتها الطويلة في دول غرب إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتقدم مليشيا “حزب الله” الحراسة والتسهيلات لهذه التجارة، إذ تقوم بحراسة المرافق والمنشآت وإخفائها، وتسهيل ترويجها في البلاد وخارجه.
الحرب على المخدرات
تلحق تجارة المخدرات الضرر بأغلب دول العالم تقريبًا، وتقوض الاستقرار السياسي والاقتصادي في العديد منها، وتدمر حياة الأفراد والمجتمعات، ما دفع الدول والمجتمع الدولي إلى شنّ حرب ضدّها سواء عبر التشريعات أم من خلال الحرب العسكرية والأمنية.
عالميًا، تُجرّم تجارة المخدرات، وتتراوح العقوبات بين السجن والأشغال الشاقة والغرامات المالية وتصل إلى الإعدام في أماكن كثيرة، إذ توجد 13 دولة في العالم تفرض عقوبة الإعدام على مهربي المخدرات من بينها ماليزيا وإندونيسيا.
الاختلاف يكمن في تجريم حيازة بعض المواد المخدرة بهدف الاستهلاك الشخصي منها القنب الهندي، فبعض الدول تجرّم ذلك وتفرض على المستهلكين عقوبات مالية وسجنية، فيما دول أخرى تعتبر المخدرات مخالفة بسيطة ويعاقب عليها كمعاقبة قيادة السيارة بسرعة.
تبرز هولاندا بنهجها الليبرالي حيال المخدرات الخفيفة مثل الحشيش والماريجوانا، حيث يتم غض النظر عن بيع كميات صغيرة من المخدرات الخفيفة وفقًا لشروط منها عدم بيعها لغير البالغين وعدم وجود شكاوى من الجيران في أماكن تداولها، مع استمرار حظر البيع بكميات كبيرة.
وتقود العديد من المنظمات الحقوقية، حملات لتقنين استهلاك المخدرات بكميات صغيرة، بحجة أن التضييق على المدنيين يمكن أن يجبرهم على الانضواء صلب العصابات المنظمة، ما يهدّد السلم والأمن الدولي، ويصعب مهمة القضاء على هذه الآفة.
حرب عسكرية راح ضحيتها مئات آلاف الأبرياء
لم تكف القوانين للحد من تجارة المخدرات، ما اضطر العديد من الدول إلى شنّ حرب عسكرية ضدها، وتُعتبر الحرب على المخدرات، من أطول الحروب التي يخوضها العالم، وبالأخص الولايات المتحدة التي استخدمت تريليونات من الدولارات لهذه الحرب، لكن دون جدوى تذكر.
سنة 1972، أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون الحرب على المخدرات، وشملت في ذلك الوقت بالأخص دول أمريكا اللاتينية، في البداية ارتفعت كميات الكوكايين المصادرة وتم القضاء على مساحات شاسعة في مزارع نباتات المخدرات وتم القبض على عناصر بعض العصابات، لكن بالوقت عادت الكميات المروّجة في الارتفاع أكثر وابتكرت العصابات طرقًا جديدةً للتهريب وخصصت أماكن نائية للزراعة.
مع ذلك، كانت فاتورة هذه الحرب باهظة، إذ يقول الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو إن هذه الحرب أدت إلى مقتل أكثر من مليون امرأة من أمريكا اللاتينية وسجن أكثر من مليوني أمريكي، ما يعني أن هذه الحرب فشلت.
وفي شمال القارة الأمريكية، شنت المكسيك سنة 2006 حربًا على عصابات المخدرات، راح ضحيتها قرابة 360 ألف شخص، وتُعتبر المكسيك أحد أكبر موردي الهيروين إلى السوق الأمريكية، وأكبر مصدر أجنبي للماريغوانا.
أما في وسط القارة، فقد أعلن رئيس السلفادور نجيب بوكيلة نهاية السنة الماضية عن حرب ضد عصابات تجارة المخدرات، إذ دفع بآلاف الجنود والمدرعات للمدن والأحياء التي تسيطر عليها هذه العصابات، وخلالها تم اعتقال نحو 60 ألف متهم.
صعوبة التصدّي لعصابات الاتجار بالمخدرات وتنامي هذه التجارة في السنوات الأخيرة، دفع العديد من الدول إلى تقنين “الحشيش”
في سنة 2016، أطلقت حكومة الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي حربها على المخدرات بعد فترة وجيزة من توليه منصبه في يونيو/حزيران، وأسفرت هذه الحرب عن مقتل نحو 8 آلاف شخص واعتقال أكثر من 357 ألف مشتبه به، وتقول منظمات حقوقية إن العدد الحقيقي للضحايا أعلى بكثير من الحصيلة التي أعلنتها الحكومة.
وتعود أقدم الحروب ضد المخدرات إلى القرن السابع عشر، وذلك في الصين التي عرفت “حروب الأفيون”، وهما حربان اندلعتا بين الصين وبريطانيا، وكان السبب هو محاولة الصين الحد من زراعة الأفيون واستيراده، مما حدا ببريطانيا أن تقف في وجهها بسبب الأرباح الكبيرة التي كانت تجنيها من تجارة الأفيون هناك.
بدأت الحرب الأولى سنة 1839، وكان من نتائجها أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانية، أما الثانية فبدأت سنة 1856 واستمرت 4 سنوات، وخلالهما اُرتكبت مجازر وحشية من البريطانيين وحلفائهم، وعملوا على نشر تعاطي الأفيون بين الشعب الصيني، واستمر هذا الداء مستشريًا في الصين حتى مطلع القرن العشرين حتى قضي على تعاطيه نهائيًا في عهد ماو تسي تونغ القيادي الصيني الشيوعي.
الأبرياء لم يسقطوا في حروب الدول ضد العصابات فقط، إنما سقطوا أيضًا في الاشتباكات المسلحة بين العصابات الإجرامية، فدائمًا ما يتم التبليغ عن اشتباكات وصراعات بين عصابات المخدرات للسيطرة على مسالك التوزيع والأسواق.
وفي نهاية السنة الماضية، أعلنت عصابة “جاليسكو نيوجنيريشن كارتل” المعروفة اختصارًا باسم “سي جيه إن جي” (CJNG)، الحرب على عصابة “إل تشابو” الشهيرة، وذلك بسبب النزاع على السيطرة على ولاية زاكاتيكاس غربي المكسيك.
صعوبة التصدّي لعصابات الاتجار بالمخدرات وتنامي هذه التجارة في السنوات الأخيرة، دفعت العديد من الدول إلى تقنين “الحشيش” أي “القنب الهندي” إما للترفيه وإما للاستعمال الصحي، منها دول الأمريكيتين ودول أوروبية عديدة كهولاندا وفي الدول العربية نجد المغرب.
وتدرس العديد من الدول الأخرى، على غرار ألمانيا تقنين استهلاك هذه المادة، لكن تقارير أممية أكدت أن تقنين القنب في أمريكا الشمالية زاد من التعاطي اليومي به، وخاصة بين الشباب، كما تم الإبلاغ عن زيادة في الانتحار والاستشفاء وعدد الأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات النفسية.
صحيح أن تقنين الحشيش زاد من عائدات الضرائب وخفض معدلات الاعتقال لحيازة هذه المادة إلا أنه لم يقض عليها، ولم يساهم في تراجع إنتاج المخدرات، حيث سجّلت صناعة الكوكايين رقمًا قياسيًا عام 2020، نمت بنسبة 11% من عام 2019 إلى 1982 طنًا، كما نما إنتاج الأفيون في جميع أنحاء العالم بنسبة 7% بين عامي 2020 و2021 إلى 7930 طنًا.
تؤكد هذه الوقائع والأرقام أن سياسيات التصدي للمخدرات فشلت في الوصول إلى أهدافها إلى حد الآن، ما يقتضي ضرورة إعادة النظر فيها وصياغة سياسات جديدة تكون كفيلة بوضع حد لهذه الآفة التي تهدد البشرية.