لا شك أن اتساع جغرافيا الحرب بليبيا لن تمنح فرص واسعة لرئيس بعثة الأمم المتحدة “برناردينو ليون” في إنجاح الحوار الذي يقوده حاليًا بين المؤتمر الوطني العام من جهة ومجلس النواب المنحل بطبرق شرقي ليبيا من جهة أخرى، خاصة وأن الأخيرين بدا واضحًا لكثير من القوى المحلية والإقليمية والدولية عدم سيطرتهما الكافية لفرض شروط ونتائج الحوار على المكونات المسلحة المؤيدة لهما.
فمنذ انطلاق ما يسمى بعملية الكرامة بمدينة بنغازي بقيادة اللواء المتقاعد “خليفة حفتر” في السادس عشر من مايو/ أيار الماضي، وانطلاق عملية فجر ليبيا لطرد مليشيات الزنتان التي كانت تسيطر على أهم المرافق الحيوية بالعاصمة طرابلس في السادس عشر يوليو/ تموز الماضي، ورقعة ومساحة العمليات العسكرية والقتالية تتسع حتى شملت بنغازي وهلال القرى والمدن المحيطة بالعاصمة طرابلس وصولاً للحدود الليبية التونسية، وامتدت بوسط ليبيا لتدخل منعطف السيطرة على حقول ومرافئ النفط بميناء رأس لانوف والسدرة والتمدد حتى البريقة.
كما تشهد مدن الجبل الغربي (ككلة، غريان) اشتباكات ملحة هي الأخرى بين قوات ما يعرف بجيش القبائل الموالي للواء المتقاعد خليفة حفتر، وقوات معارضة لها مما يعرف بفجر ليبيا، أسفرت عن تهجير كامل قرية ككلة وسقوط ما لا يقل عن تسعمائة قتيلاً، وآلاف الجرحى.
إضافة إلى معارك قبلية مشتعلة هي الأخرى بجنوب ليبيا، وبمدينة أوباري تحديدًا التي تشهد قتالاً بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة بين مكوني “الطوارق” و”التبو” في حرب للسيطرة على منافذ تهريب الهجرة غير الشرعية والوقود والمخدرات وتجارة السلاح العابرة للحدود الجنوبية الليبية مع تشاد والنيجر والجزائر، مع فشل كل جهود الوساطة لتهدئة الأوضاع، كونها حرب من أجل المال والنفوذ.
ومدينة درنة شرقي بنغازي 300 كم ليست بعيدة عن شبح الحرب، فتجهيزات موالين للواء المتقاعد خليفة حفتر بعدة مناطق مجاورة لها، شرقًا بمناطق (مرتوبة، التميمي وأم الرزم)، وغربًا بمناطق (عين مارة، القبة، الأبرق، شحات، البيضاء) وتحشيد قوات قريبة من تخوم المدينة، إضافة إلى الإعلان عن مجلس عسكري جديد بدرنة يضم عدة تشكيلات إسلامية “مجلس مجاهدي درنة” كلها تُنذر بحرب قادمة على المدينة التي يقطنها قرابة المائة ألف نسمة، وشهدت حالات نزوح وهجرة داخلية وخارجية لم يُقدر أعداد النازحين أو اللاجئين منها.
إلا أن هناك خبراء عسكريون يرون أن مدينة درنة قد لا تشهد معارك عسكرية أو محاولة اقتحام لها، إذ إن التهديدات الجارية حاليًا للمدينة باقتحامها من قبل الموالين لحفتر ما هي إلا تكتيك عسكري يهدف إلى منع مشاركة مقاتلي درنة من الجماعات الجهادية في معارك بنغازي إلى جانب قوات ما يعرف بمجلس شورى ثوار بنغازي.
مدينة بنغازي التي تُعد ثاني أهم مدينة ليبية من حيث عدد السكان والتأثير السياسي في ليبيا، دُمرت أغلب بنيتها التحتية بسبب القصف الجوي الذي تشنه طائرات تابعة لسلاح الجو الليبي الموالي لحفتر على أحياء سكنية، فقد انتقلت المعارك من تخوم المدينة بمنطقة بنينا والرجمة التي تتمركز بهما قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، إلى أحياء المدينة الشرقية والغربية ووسط المدينة.
وانقسمت مدينة بنغازي إلى أحياء تابعة ومؤيدة لقوات ما يعرف بمجلس شورى الثوار تسيطر عليها قوات المجلس، كمنطقة “القوارشة، وسي فرج، والصابري، وسوق الحوت، الليثي، قاريونس، بوصنيب، الهواري”.
ومناطق أخرى مؤيدة للواء المتقاعد خليفة حفتر وتشهد اشتباكات مثل “حي السلام الوحيشي، سيدي يونس، بوهديمه، السرتية، الماجوري، والسلماني الشرقي والغربي”.
بحسب شهود عيان من بنغازي فإنه منذ انطلاق قوات مكلفة من القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية “نوري بوسهمين” لحماية الحقول والموانئ النفطية؛ خف ضغط قوات حفتر العسكري على مدينة بنغازي، وذلك لانتقال المعارك إلى مناطق الحقول النفطية بالسدرة بعد السيطرة على مدينة، وهو ما يعني فتح ممرات دعم لقوات ما يعرف بمجلس شورى الثوار فيما لو نجحت عملية السيطرة على الحقول حتى مدينة أجدابيا شرق بنغازي، والتي تتواجد بها مليشيا تابعة لـ “إبراهيم الجضران” رئيس ما يعرف بالمكتب السياسي لإقليم برقة والموالي لحفتر، وهي تشكيل مسلح يعتمد في أغلبه على مناصرين للجضران من مكون التبو والطوارق.
إن تغير المشهد العسكري بأخذ زمام المبادرة من قبل المناوئين لحفتر يفتح احتمالات جديدة على المشهد السياسي والعسكري؛ ستجعل مسألة الحوار الذي يقوده الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة برناردينو ليون أشبه بالمستحيلة في ظل عدم وقف القتال، أو ثباته في رقع جغرافية، وانتشاره من غرب ليبيا مرورًا بوسطها ووصولاً إلى شرقها، وهو ما يعني من زاوية أخرى قطع خطوط الإمداد والاتصال بين قوات حفتر بشرق ليبيا والموالين له بغربها من كتائب الصواعق والقعقاع والمدني وما يعرف بجيش القبائل، وحصر قوات حفتر في أحزمة ساحلية يصعب عليه التحرك فيها، ما لم تتغير المعادلة بتدخل مصري مباشر بدعم إماراتي سعودي، بموجب تصريح من القوى الغربية.