مرة أخرى، تعود مشاهد إضرام النار في أجساد “المقهورين” إلى الواجهة في تونس، مشاهد تؤكد حجم القهر والظلم الذي تعرّض له المعني بالأمر – وغيره الكثير – فلولا تعرضه للتهميش وعدم إحكام القانون لما أقدم على إضرام النار في جسده والتضحية بحياته.
مشاهد تعيد إلى الأذهان واقعة الشاب محمد البوعزيزي، البائع المتجول الذي أضرم النار في جسده في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 بمحافظة سيدي بوزيد، ما أدى إلى اندلاع الثورة التونسية التي أنهت عهد الرئيس زين العابدين بن علي وتلاها تفجر ثورات الربيع العربي في بلدان أخرى بالمنطقة.
نحو 13 سنة مرت على حادثة البوعزيزي، ومع ذلك تكررت حوادث إشعال التونسيين النار في أنفسهم أكثر من مرة، حتى إن البعض أصبح يعتبر إضرام النار في الجسد وسيلة احتجاجية قوية لليائسين والمحتجين على السلطة.
نحو 13 سنة، لم تفلح فيها الدولة التونسية – أو لعلها لم تحاول أصلًا – في فهم مطالب مواطنيها والإنصات لهم وإحكام دولة القانون والمؤسسات، فالظلم متواصل والتمييز والتهميش والقهر أيضًا، فضلًا عن الإفلات من العقاب.
حادثة العيساوي
لاعب كرة القدم، نزار العيساوي، آخر ضحايا “غياب القانون” في تونس، فقد توفي العويساوي مساء أول أمس الخميس، بعد 3 أيام من إضرام النار في جسده أمام مركز شرطة مدينة حفوز بمحافظة القيروان التي تقع على بعد 160 كيلومترًا من العاصمة.
فارق نزار العيساوي البالغ من العمر 37 سنة وأب لأربعة أطفال، الحياة في مستشفى “الحروق البليغة” ببن عروس (قرب العاصمة تونس)، متأثرًا بجروح وحروق بليغة في جسده وخاصة في رقبته.
لم يكن الشاب نزار العيساوي، الضحية الأولى لتجاوزات السلطة – ممثلة في الأمن – وغياب القانون، فقد سبقه الكثير من التونسيين الذين لم يجدوا من ينصت إليهم
ظهر لاعب الكرة، يوم الإثنين الماضي، أمام مركز الشرطة بالمدينة التي يسكن فيها وهو في حالة غضب كبيرة للغاية، بعد “اتهامه بالإرهاب على خلفية تقدمه بشكاية ضد بائع غلال بمنطقته يبيع الموز بسعر مخالف للتسعيرة المحددة من وزارة التجارة التونسية”، وفقًا لما أكده في فيديو له.
وقال العيساوي في الفيديو: “أردت أن ألفت نظر الشرطة إلى أن أحد الباعة خالف القانون، وهو يبيع الموز بعشرة دنانير للكيلوغرام الواحد، فكان جزائي أن اتهومني بالإرهاب وورطوني في قضية لا دخل لي فيها”.
في أثناء تصوير الفيديو، كان العيساوي محاطًا بعدد كبير من الناس منهم على ما يبدو أفراد من عائلته، وقد حاولوا إقناعه بالهدوء، لكنه أصر على إضرام النار في جسده، وسط حالة من الصراخ والهلع في صفوف الناس.
وما إن أنهى اللاعب الإدلاء بروايته حتى أضرم النار في نفسه بعد أن سكب على جسده البنزين، وفق ما يوثقه مقطع الفيديو المتداول.
والعيساوي هو لاعب كرة قدم انتمى في آخر تجاربه للنادي اللجمي الذي ينافس في دوري الهواة، وهو مهاجم سابق للعديد من الفرق التونسية المحترفة مثل الاتحاد المنستيري وقرمبالية الرياضية وقوافل قفصة وجريدة توزر.
ظلم وغياب للقانون
حددت الدولة التونسية سعر كيلوغرام الموز بـ5 دنانير، ووجد نزار السعر مضاعفًا عند أحد الباعة، احتج على عين المكان، فلم يجد آذانًا صاغية هناك، فتوجه للدولة التي طالبت المواطنين بضرورة الإبلاغ عن أي تجاوز في هذه المسألة.
ظن العيساوي أنه في دولة قانون واستجاب لما طُلب منه، وقدم شكايته عند مركز شرطة المدينة، لكن يبدو أنه نسي أمرًا مهمًا، لولا الواسطة التي يملكها البائع لما تجرأ على مضاعفة سعر الموز، فانقلبت الحكاية، إذ دخل نزار شاكيًا وخرج متهمًا.
حادثة كان يمكن أن تنتهي بسرعة، ويطبّق فيها القانون ويعاقب البائع وتحجز بضاعته، لكن في غياب القانون، كل شيء وارد، فلا أهمية لما تقوله الدولة ولما تحدّد من أسعار إن كانت لك واسطة قوية، فما تقوله الدولة مجرد كلام ليس أكثر.
تبيّن هذه الحادثة، عدم تغير التعاطي الأمني مع المواطنين في تونس، رغم مرور أكثر من 12 سنة على ثورة الحرية والكرامة، والانطلاق في إصلاح وبناء أمن جمهوري، يقطع مع ممارسات الأمن القمعية التي عُرف بها قبل الثورة.
بقدرة قادر، تحول المشتكي إلى متهم بقضية إرهابية، ما يؤكد وجود خلل كبير في التعاطي الأمني مع المواطنين في تونس، ما من شأنه أن يعزز مخالفة القوانين والإفلات من العقاب في البلاد ويزيد من معدل الجريمة.
وغالبًا ما تشكل ممارسات عدد من أعوان الأمن وتعاملهم مع المواطنين، محور انتقاد المواطنين للجهاز الأمني الذي يظل في نظرهم بعيدًا عن تحقيق القطيعة مع الممارسات التي شهدتها فترة بن علي، ودفعت تلك الممارسات لمزيد من التصدع في علاقة المواطن بعون الأمن.
ظاهرة حرق الذات في تونس
لا تتعلق حادثة نزار العيساوي بحالة يأس قصوى بلغها الشاب، جراء تجاوزات السلطة المتكررة ووضع صعب تعاني منه شرائح واسعة من التونسيين، إنما بصرخة احتجاج قوية أراد نزار أن يترك صداها يتردد في تونس.
لم يكن الشاب نزار العيساوي الضحية الأولى لتجاوزات السلطة – ممثلة في الأمن – وغياب القانون، فقد سبقه الكثير من التونسيين الذين لم يجدوا من ينصت إليهم ومن يمنحهم حقوقهم، حتى أصبح حرق الذات البشرية ظاهرة في تونس بعد الثورة.
تؤكد حادثة وفاة نزار العيساوي وما أعقبها من احتجاجات، تنامي الاحتقان الاجتماعي في تونس
رغم وحشية الأمر، فإن حرق الذات أصبح الوسيلة الأسرع للاحتجاج على الظلم والقهر في تونس، ما جعلها عملية احتجاج في تصاعد مستمر بالبلاد، فدائمًا ما نسمع عن العديد من عمليات الانتحار حرقًا.
تواصل الظلم والمحسوبية في تونس وعدم تطبيق القانون وتنامي ظاهرة الإفلات من العقاب، جعل العديد من التونسيين يبادرون إلى تقليد محمد البوعزيزي في أسلوب احتجاجه، عبر إحراق الجسد والانتحار بتلك الصورة المفجعة، ما يدل على تنامي مشاعر الإحباط واليأس في نفوسهم بشكل خطير.
ليس من الهيّن أن يضحي الإنسان بحياته، فما بالك بإضرام النار في جسده، لكن غياب الدولة في أحيان كثيرة وتفشي سلطة الغاب والبقاء للأقوى، دفع العديد من شباب تونس إلى اختيار هذا الطريق، بعد أن تيقنوا من استحالة العيش هناك.
تنامي الاحتقان الاجتماعي في تونس
لم يرد العيساوي أن يكون بطلًا في أنظار التونسيين، وإنما أراد تسليط الضوء مجددًا على التجاوزات الأمنية وغياب دولة القانون، كما أراد أن يحيي النقاش مجددًا بشأن حق المواطن في العيش بكرامة في وطنٍ أصبح فيه المواطنون مجرد دافعي ضرائب وعملاء عند المالكين الحقيقيين للوطن.
مباشرة إثر وفاته، شهدت مدينة حفوز – مسقط رأسه – حالة من الاحتقان والتوتر ومواجهات بين عدد من الأهالي والوحدات الأمنية، ورشق محتجون أعوان الأمن بالحجارة، وردت وحدات الأمن باستعمال الغاز المسيل للدموع.
? فيديو من منطقة حفوز التابعة لولاية القيروان إثر ورود خبر وفاة اللاعب نزار العيساوي متأثرا بالحروق التي أصيب بها بعد أن التهمت النيران جسده منذ أيام.#عاجل #القيروان #تونس pic.twitter.com/96SRdEbPXg
— Kashf Media – كشف ميديا (@KashfMedia) April 13, 2023
تؤكد حادثة وفاة نزار العيساوي وما أعقبها من احتجاجات، تنامي الاحتقان الاجتماعي في تونس، فلا بوادر أمل تظهر في الأفق، ولا نية للإصلاح، فدولة اللاقانون متواصلة وظاهرة الإفلات من العقاب في تزايد، فضلًا عن الظلم والقهر.
احتقان في حفوز بولاية #القيروان مسقط رأس لاعب كرة القدم #نزار_العيساوي الذي توفي متأثراً بحروق بالغة أصابته بعد أن أضرم النار في جسده احتجاجاً ضد الأمن #تونس pic.twitter.com/Lx01lZtmoF
— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) April 14, 2023
رغم كل ذلك، ما زال الرئيس التونسي قيس سعيد يصر على غلق عينيه وصم أذنيه أمام المشاكل الأساسية للتونسيين لافتعال صراعات سياسية جانبية، من شأنها أن تزيد من تأزيم الوضع أكثر فأكثر.