عن كثب.. كيف تسيطر الشركات على طعامنا؟
في سبتمبر/أيلول عام 2022، ربحت شركة “صن وورلد” (Sun World) الأمريكية المتخصصة في مجال علم الوراثة والترخيص والتكنولوجيا للفاكهة قضيتها التي رفعتها ضد مزارعين مصريين في القاهرة والإسكندرية وطنطا، اعتقدوا أنهم يستطيعون زراعة أصناف من العنب الأسود الخالي من البذور من نوع “سوجراتيرتين” (Sugrathirteen)، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، لأن الشركة تملك “الحق الحصري للملكية الفكري” لهذا النوع من العنب.
قبل شهرين فقط من هذه الواقعة، أصدرت المحكمة الاقتصادية بمحافظة بني سويف حكمها بإزالة مساحة 11 فدانًا (9 آلاف شجرة) مزروعة بنوع آخر من العنب المعروف تجاريًا باسم “إيرلي سويت” (Early Sweet) دون الحصول على ترخيص من الشركة المالكة لحقوق هذا الصنف، وألزمت صاحب المزرعة بوقف عرض أو إكثار أو بيع أو تصدير هذا الصنف المحمي بموجب الاتفاقية الدولية لحماية الأصناف النباتية (UPOV) التي وقَّعت عليها مصر في مارس/آذار 2017، وتنص على حماية حقوق الملكية الفكرية للأصناف النباتية الجديدة.
في الواقع، يحدث هذا مئات المرات كل عام في أجزاء أخرى من العالم، ففي ولاية غوجارات بغرب الهند، كان هاريبهاي باتيل يزرع القطن والفول السوداني والبطاطس، استخدم هو وعائلته لسنوات الشتلات من محصول واحد لزراعة محاصيل العام المقبل في حقله الذي تبلغ مساحته 4 أفدنة، حتى زرع في عام 2018 نوعًا جديدًا من البطاطس يُعرف باسم”FC5″، وقاده هذا القرار في النهاية إلى المحكمة، لأن شركة “بيبسيكو” الأمريكية طالبت بالفعل بحقوق صنف البطاطس هذا.
يدَّعي باتيل أنه لم يكن على علم باسم البطاطس، ناهيك بادعاء شركة “بيبسيكو إنديا” (PepsiCo India) التي رفعت دعوى قضائية ضده و4 مزارعين آخرين من المنطقة بتهمة انتهاك براءة اختراعها على “FC5” التي تُزرع بشكل خاص لشركة “لايز” (Lays) التابعة لشركة “بيبسيكو” ومنتجها – رقائق البطاطس – الموزع دوليًا.
كانت الشركة تسعى للحصول على 10 ملايين روبية (140 ألف دولار)، لكنها سحبت الشكوى بشكل غير متوقع بعد اجتماعات مغلقة مع حكومة الولاية في مايو/آيار من نفس العام، وبعد احتجاجات حاشدة من المزارعين الهنود الذين طالبوا بمقاطعة الشركة متعددة الجنسيات، كما انتقد السياسيون الشركة.
القضية هي مثال آخر على الاتجاه العالمي المستمر للشركات المطالبة بحقوق الملكية للنباتات المعدَّلة وراثيًا في جميع أنحاء العالم، ومثال أيضًا على الطريقة التي تتحكم بها شركات الأغذية فيما يزرعه المزارعون ومن ثمَّ الطعام الذي يُوضع أمامك، فماذا يعني امتلاك براءات اختراع المواد الحية بعد أن كانت لحماية الاختراعات البشرية مثل الراديو أو الهاتف المحمول؟ ولماذا نشعر بالفزع من 4 شركات فقط تتحكم إلى حد كبير في إمداداتنا الغذائية في المستقبل؟
كل شيء يبدأ بالبذور
على مدى آلاف السنين من الزراعة وإنتاج الغذاء والأعلاف والألياف وسلع أخرى، حالت الطبيعة الجوهرية للبذور وقدرتها على التكاثر دون تحويلها إلى سلعة بسهولة، زُرعت البذور وأعاد المزارعون زراعتها، وتبادلوها بحرية، لكن كل ذلك تغير في التسعينيات مع إصدار قوانين لحماية المحاصيل الجديدة المعدلة وراثيًا.
حتى عام 1998 لم تُوجد براءات اختراع على الكائنات الحية لأنه لا يمكن اعتبارها “اختراعات”، لكن في ذلك العام ظهرت الهندسة الوراثية التي أدت إلى ظهور البذور المعدلة وراثيًا، وأدخل العلماء جينات على البذور جعلت المحاصيل مقاومة للحشرات والأعشاب الضارة، وتعيش وسط مبيدات ومواد كيماوية، وتحتاج إلى كميات أقل من المياه.
غالبًا ما تُطبق براءات الاختراع على نباتات ذات سمات خاصة مثل مقاومة الأمراض أو مقاومة تأثيرات تغير المناخ، كانت هناك أيضًا أمثلة لشركات مثل “مونسانتو” (Monsanto) – التي استحوذت عليها شركة “باير” الألمانية – تقوم بتطوير نباتات مقاومة لمبيدات الآفات التي يبيعونها، وبسبب كل هذه الخصائص، لا تستطيع البذور العادية منافسة المعدلة وراثيًا جينيًا، وتصبح تكلفة حمايتها من الحشرات أعلى بكثير.
لا تنتج هذه الشركات بذورًا معدلة وراثيًا فحسب، بل تنتج نظامًا كاملًا لإنتاج الغذاء، فنوع البذور يحدد أيضًا نظام الأسمدة ومبيدات الآفات والحشرات والفطريات التي تبيعها نفس الشركة، حيث تسيطر الشركات الزراعية الأربعة الكبرى على نحو 70% من سوق مبيدات الآفات العالمي في عام 2018، وقبل 25 عامًا، كانت حصتها في السوق 29% فقط من جميع الأسمدة والمبيدات الحشرية، التي يجب على المزارعين شراؤها لضمان الحصول على محصول جيد، ليبدو الأمر كما لو أن البذرة عبارة عن لعبة تأتي مع قائمة طويلة من الأجزاء التي يتعين عليك شرائها لجعلها تعمل بشكل صحيح.
إذا كان هناك ربح يمكن تحقيقه من بيع منتج واحد يحتاج المزارعون إلى شرائه، فهناك ربح أكبر بكثير يمكن تحقيقه من إنشاء نظام من المنتجات المصممة للعمل معًا، على سبيل المثال، ربط البذور بمواد كيميائية معينة تبيعها هذه الشركات أيضًا، مثل فول الصويا (المملوك لشركة مونسانتو) المصمم هندسيًا لمقاومة مبيد الأعشاب “راوند أب” (Roundup) قاتل الحشائش الذي تنتجه نفس الشركة، إذا زرع مزارع فول الصويا هذا، فسيشتري بالضرورة هذا المبيد أيضًا.
يحد المنتجون الرئيسيون للبذور المعدّلة وراثيًا والهندسة البيولوجية بشكل صارم من كيفية استخدام المزارعين للأصناف التي يبيعونها، عادة يجب على المشتريين توقيع اتفاقيات تحظر عليهم الاحتفاظ بالبذور من محاصيلهم لاستبدالها أو إعادة عرضها في العام التالي، ولا تسمح معظم البلدان إلا ببراءات الاختراع على البذور المعدلة وراثيًا، لكن يمكن أيضًا التحكم الصارم في أنواع النباتات الأخرى بواسطة نوع آخر من تشريعات الملكية الفكرية يسمى “حماية الأصناف النباتية”.
تطلب منظمة التجارة العالمية من الدول الأعضاء – جميع دول العالم تقريبًا – أن يكون لديها شكل من أشكال التشريعات لحماية الأصناف النباتية، الكثير من هذه الدول تستجيب لهذا المطلب من خلال الانضمام إلى الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة، الذي يضع قيودًا على إنتاج وبيع وتبادل البذور.
يقول الاتحاد – والشركات الكبرى – إن القيود التي يفرضها تشجع الابتكار من خلال السماح للمربين باحتكار مؤقت للاستفادة من الأصناف النباتية الجديدة التي يطورونها دون مواجهة المنافسة، وهذا يعني أنهم قادرون على التحكم في الطريقة التي تُسوِّق بها هذا التنوع تجاريًا، ويمكنهم الحصول على عائد من الاستثمار الذي يقومون به، لأن الأمر يستغرق ما يصل إلى 10 أو 15 عامًا لتطوير مجموعة متنوعة جديدة.
لا يوجد التزام قانوني بالانضمام إلى الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة لكن دولًا من بينها الولايات المتحدة وكندا وسويسرا واليابان وكذلك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، من بين الدول التي تستخدم اتفاقيات التجارة الثنائية والإقليمية للضغط على دول في جنوب الكرة الأرضية، مثل زيمبابوي والهند، للانضمام.
كل هذا يثير مخاوف بشأن كيفية تطور هذه الصناعة على الأرجح، فقد أصبحت الشركات الكبرى تمارس نفوذًا اقتصاديًا أكبر بشكل ملحوظ على الزراعة من خلال الملكية الفكرية للبذور، ما يثير قضية الاحتكار في التكنولوجيا الحيوية الزراعية، فمعارضو المنتجات المعدلة وراثيًا ليسوا قلقين فقط بشأن سلامة هذه المحاصيل، لكن أيضًا بشأن سيطرتها الاحتكارية على الإمدادات الغذائية في العالم.
يُقدر حجم السوق العالمي للمحاصيل المعدلة وراثيًا بـ22.29 مليار دولار عام 2023، مقارنةً بـ21.08 مليار دولار في عام 2022 بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 5.8%، ومن المتوقع أن ينمو حجم السوق العالمي إلى 28.03 مليار دولار في عام 2027 بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 5.9%.
ووفقًا لوكالة أبحاث السوق “موردور إنتليجنس” (Mordor Intelligence)، ومقرها الهند، ستصل الإيرادات في قطاع البذور إلى 90 مليار دولار بحلول عام 2024 مقارنة بنحو 60 مليار دولار في عام 2018، وأكثر من 50% من حصة السوق العالمية في أيدي شركة الكيماويات الأمريكية “ديو بونت” (Du Pont)، وشركة “سينجنتا” (Syngenta) المملوكة لشركة “ChemChina” الصينية المملوكة للدولة، وشركة “باير” (Bayer) الألمانية التي تتكون من 307 مؤسسات.
تثير هذه السيطرة المبالغ فيها انتقادات نشطاء مناهضين للأطعمة المعدلة وراثيًا الذين يعبرون عن قلقهم أيضًا بشأن التأثيرات على تنوع طعامنا، على سبيل المثال، قاومت الهند، وهي موطن لمئات من أنواع “برينجال” (الكلمة الهندية للباذنجان)، منذ فترة طويلة الباذنجان المعدل وراثيًا لشركة “مونسانتو” خشية أن يتفوق على الأصناف المحلية، ما يؤدي إلى إفقار النظام الغذائي والأطباق التي اعتاد الهنود تناولها.
يشعر النقاد أيضًا بالقلق من أن الاستخدام الواسع النطاق للمحاصيل المعدلة وراثيًا سيضع إمدادات الغذاء إلى حد كبير في أيدي عدد قليل من الشركات العملاقة التي تصنع البذور، ويجادل هؤلاء بأن براءات الاختراع تمنع وصول المزارعين إلى المواد الجينية وتقلل من التنوع البيولوجي وتنوع المحاصيل وتزيد من اعتماد المزارعين على منتجي البذور.
مصدر قلق آخر هو من يمتلك البذور ومن ينتج الغذاء، ووفقًا لمنظمة “German watch” غير الحكومية التي تسعى للتأثير على السياسة العامة للتجارة والبيئة والعلاقات بين البلدان، فإن معظم صناعة إنتاج البذور تأتي من شمال الكرة الأرضية، لكن 90% من الموارد البيولوجية (المنتجات الزراعية والمواد الطبيعية) تأتي من الجنوب العالمي (البلدان ذات الدخل المنخفض).
بينما تظل قوانين براءات الاختراع أكثر تقييدًا في الجنوب، تظهر دراسة أجرتها منظمة “أوكسفام” التي تركز على تخفيف حدة الفقر في العالم أن اللاعبين العالميين الكبار يبدو أنهم يجدون ثغرات، ففي الهند، على سبيل المثال، لا يُطبق القانون بصرامة رغم استبعاد براءة الجينات المعزولة، ما يجعل المزارعين معرضين لخطر منح براءات الاختراع على الجينات المعزولة.
مخطط احتكار البذور
البذور هي في النهاية ما يغذينا ويطعم الحيوانات التي نأكلها، والسيطرة عليها يعني التحكم في الإمدادات الغذائية، وقبل 50 عامًا فقط، كانت نحو ألف شركة بذور صغيرة ومملوكة للعائلات تنتج البذور وتوزعها في الولايات المتحدة، بحلول عام 2009، كان هناك أقل من مئة شركة.
وبفضل سلسلة من عمليات الدمج والاستحواذ على مدى السنوات القليلة الماضية، أصبح عدد محدود للغاية من شركات الكيماويات الزراعية الكبرى تتحكم في أكثر من نصف بذور العالم، وتسبب هذا التحول إلى البذور الموحدة في حدوث تحول اقتصادي كبير في صناعة الأغذية.
تظهر أحدث النتائج أن الشركات الستة الكبرى “Big 6” تم دمجها في 4 شركات متعددة الجنسيات تُلقب بـ”Big Food”، وتتحكم في أكثر من 60% من مبيعات البذور العالمية.
عندما نشر فيليب هوارد من جامعة ميشيغان الأمريكية مخطط توحيد صناعة البذور عام 2008، أوضح مدى عمليات الاستحواذ والاندماج في العقد السابق حيث سيطرت 6 شركات على غالبية سوق البذور ذات العلامات التجارية، وبدأوا في الدخول في تحالفات جديدة مع المنافسين، ما هدد بمزيد من إضعاف المنافسة.
مخطط البذور الذي حدَّثه هوارد عام 2018 مشابه لمخططه المنشور منذ سنوات، لكنه يوضح كيف أن ضعف إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار التي تهدف إلى تعزيز المنافسة ومنع ما يسميه البعض “استعمار زراعي مقنَّع” والإشراف من وزارة العدل الأمريكية سمح لعدد قليل من الشركات بسيطرة قوة سوقية واقتصادية وسياسية هائلة على إمدادنا العالمي بالبذور.
بدأ هوارد تتبعه السنوي لتغييرات ملكية صناعة البذور في عام 1998، وهو العام الذي كان بمثابة نقطة تحول في مجال الهندسة الوراثية، وبعد عامين من إدخال الأصناف المعدلة وراثيًا، قامت شركات الأعمال الزراعية الكبرى بتسريع دمجها عن طريق شراء شركات أصغر لتجميع المزيد من حقوق الملكية الفكرية.
بحلول عام 2008، زُرعت الجينات الوراثية الحاصلة على براءة اختراع لشركة “مونسانتو” وحدها في 80% من الأراضي المزروعة بالذرة في الولايات المتحدة، و86% من الأراضي المزروعة بالقطن، و92% من الأراضي المزروعة بفول الصويا، اليوم، هذه النسب أعلى من ذلك.
تظهر أحدث النتائج أن الشركات الستة الكبرى “Big 6″ تم دمجها في 4 شركات متعددة الجنسيات تُلقب بـ”Big Food“، وتتحكم في أكثر من 60% من مبيعات البذور العالمية، وتشمل عمليات الاندماج العملاقة الأكثر شهرة في مخطط هوارد المحدَّث ما يلي:
– شركة داو للكيماويات (DOW) وشركة “دو بونت” (DuPont) الكيميائية: نتج عن هذا الاندماج الذي تبلغ قيمته 130 مليار دولار تقسيم شركتين للمواد الكيميائية إلى ثلاث شركات اعتبارًا من 31 أغسطس/آب 2017، بما في ذلك شركة زراعية كبرى للكيماويات والبذور تسمى “كورتيفا” (Corteva).
– الشركة الكيميائية الوطنية الصينية، المعروفة باسم “كيم تشاينا” (ChemChina) وشركة سينجنتا (Syngenta) للبذور والمبيدات الحشرية: سمح هذا الاندماج الذي تبلغ قيمته 43 مليار دولار للصين بإضافة تصنيف شركتها في المرتبة الثانية ضمن أفضل 10 شركات عالمية في مبيعات البذور جنبًا إلى جنب مع شركة “يوان لونج بينج” (Yuan Longping) العاملة في مجال البحث والإنتاج وبيع البذور.
– شركة “مونسانتو” (Monsanto) وشركة باير (Bayer): كانت هذه الصفقة البالغ قيمتها 63 مليار دولار ثاني أكبر صفقة اندماج أُعلن عنها في عام 2016، ومنذ ذلك الحين أسقطت “باير” اسم “مونسانتو” التي تمتلك عددًا مذهلاً من شركات البذور التي كانت فيما مضى منافسة لها والبالغ عمرها 117 عامًا، وأصبحت الأكبر والأكثر احتكارًا، فالاستحواذ على حصة كبيرة من سوق بذور الخضروات يعني لهذه الشركات العملاقة الحصول على الجينات الحاصلة على براءة اختراع.
على الرغم من أن “باير” باعت عددًا من أعمال وأصول البذور والمحاصيل ومبيدات الأعشاب لشركة “باسف” (BASF) الصينية التي تطلق على نفسها اسم “أكبر منتج كيميائي في العالم”، لتمهيد الطريق لاستحواذها على شركة “مونسانتو”، فإن حصة السوق التي تسيطر عليها أكبر الشركات قد زادت، علاوة على ذلك، على الرغم من أن هذه الشركات قدمت وعودًا بنمو الوظائف وزيادة الابتكار إذا تمت الموافقة على الاندماج، فقد أعلنت “باير” في نوفمبر/كانون الثاني 2018 أنها ستلغي 12 ألف وظيفة، أو نحو 10% من قوتها العاملة العالمية.
في حين أن عمليات الاندماج الثلاثة المذكورة حظيت بأكبر قدر من الاهتمام الإعلامي وأثارت الانتقادات، وجد تقرير هوارد الأخير أن عام 2018 شهد 56 عملية استحواذ إضافية ومشاريع مشتركة تضم شركات أخرى كبرى للبذور، بما في ذلك شركة “Vilmorin-Mikado” المتخصصة في تطوير وإنتاج وبيع بذور الخضراوات الفرنسية اليابانية وشركة “يوان لونج بينج” في الصين، التي استحوذت على قسم الذرة في شركة “داو” (Dow) في البرازيل، وتخطط كل من “كيم تشاينا” و”يوان لونج بينج” لمزيد من الاستحواذ على شركات البذور في الصين.
يقول خبراء الاقتصاد إن الصناعة تفقد طابعها التنافسي عندما تكون نسبة 40% أو أكثر مركزة في الشركات الأربعة الكبرى، رغم ذلك، تستمر صناعة البذور في تجاوز هذا المعيار ليس فقط عبر العرض العالمي، لكن عبر أنواع المحاصيل أيضًا، على سبيل المثال، حتى قبل اندماج الشركات الأربعة الكبرى، كانت ثلاث شركات فقط – مونسانتو وسينجينتا وفيلمورين – تسيطر على 60% من سوق بذور الخضراوات العالمية.
توضح وقائع التاريخ أن توحيد صناعة البذور يؤدي إلى خيارات أقل وأسعار أعلى للمزارعين، فهذه الشركات تدافع وتحمي حقوق الملكية الفكرية الخاصة بها بقوة، ما يعني ابتكارًا أقل والمزيد من القيود على كيفية استخدام البذور وتبادلها، كما تؤثر هذه القيود على الزراعة التقليدية والعضوية على حد سواء من خلال جعل مجموعة كبيرة من الجينات النباتية غير متاحة للباحثين والمزارعين والمربين المستقلين، ما يحد بدوره من تنوع البذور في المناظر الطبيعية والأسواق، ويضعف الأمن الغذائي.
وتشير الدراسات إلى أن الهيمنة المتزايدة على السوق تعيق تحفيز الشركات على الابتكار، وتؤكد بيانات وزارة الزراعة الأمريكية هذا الاتجاه، فقد وجدت أن عددًا أقل من اللاعبين يعني ابتكارًا أقل، نظرًا لأن صناعة البذور أصبحت أكثر تركيزًا، فإن الأبحاث الخاصة “تراجعت أو تباطأت”، وتلك الشركات التي نجت من الاندماج “ترعى أبحاثًا أقل بالنسبة لحجم أسواقها الفردية مما كانت عليه عندما تشارك المزيد من الشركات”.
لكن الشركات الكبرى تزعم أن دعم قوانين براءات الاختراع يساعد في تمويل الابتكارات الجديدة، وعدم حمايتها سيعيق تطوير تقنيات أحدث وأفضل، فقد ذكرت شركة “مونسانتو” أنها تستثمر ملايين الدولارات يوميًا في البحث والتطوير لمنتجاتها الزراعية، ومقابل كل 10 دولارات ينفقها مزارع على البذور، تعيد شركة الشركة استثمار دولار واحد في البحث والتطوير، لكن الأمر لا يخلو من نوع من الاحتيال تعتمده بعض الشركات.
العدد المتزايد لبراءات الاختراع النباتية في جميع أنحاء العالم وزيادة الاندماج في صناعة البذور يهددان حقوق المزارعين التي حددتها الأمم المتحدة
في أوروبا، لفتت قضية تتعلق بشركة “موسانتو” وسلالة معينة من البطيخ انتباه وسائل الإعلام منذ عدة سنوات، فقد اكتشفت الشركة أن نوعًا من البطيخ الهندي مقاوم بشكل طبيعي لفيروس معين، فتقدمت لمكتب براءات الاختراع الأوروبي للحصول على براءة اختراع لهذه السمة بعد تكاثرها في بطيخ آخر.
من هذه اللحظة فصاعدًا، لم تكن هذه السمة تنتمي إلى شركة “مونسانتو” فحسب، لكن أيضًا كل أنواع البطيخ التي تحتوي عليها، بما في ذلك البطيخ الهندي الذي نشأت منه، لكن براءة الاختراع هذه أُلغيت في وقت لاحق من مؤسسات الاتحاد الأوروبي على أساس أن السمة لا يمكن اعتبارها “اختراعًا”، وأطلق معارضو براءات الاختراع على هذه الممارسة اسم “القرصنة البيولوجية”.
السيطرة على غذاء العالم
على مدى العقود القليلة الماضية، زاد عدد براءات الاختراع على النباتات بشكل كبير في أجزاء مختلفة من العالم، لكن معظم الأبحاث ركزت حصريًا على البلدان المتقدمة – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص – بينما لا يُعرف الكثير عن مدى تسجيل براءات اختراع للنباتات في أجزاء أخرى من العالم.
قدمت الولايات المتحدة لأول مرة فكرة تسجيل براءات الاختراع للمواد الحية في الثمانينيات، وسرعان ما اتخذت الدول الغربية زمام المبادرة، فمنذ أن أطلقت شركة “مونسانتو” أول محصول معدل وراثيًا في العالم عام 1996، اتجهت أكثر من 25 دولة إلى المحاصيل المعدلة وراثيًا بما في ذلك فول الصويا والذرة والطماطم والكوسة والبابايا وبنجر السكر.
وعلى مدار القرن الماضي، زاد عدد براءات الاختراع على النباتات في جميع أنحاء العالم مئة ضعف (من أقل من 120 إلى 12 ألف)، 3500 منها مسجلة في أوروبا، وفقًا للمبادرة الأوروبية لـ”لا لبراءات الاختراع على البذور”.
عندما تطوِّر مختبرات الشركات بذرة جديدة معدلة جينيًا تصدر لها براءة اختراع، وهذا يعني أن العدد المتزايد لبراءات الاختراع النباتية في جميع أنحاء العالم وزيادة الاندماج في صناعة البذور يهددان حقوق المزارعين التي حددتها الأمم المتحدة في تخزين البذور واستخدامها وتبادلها وبيعها من محاصيلهم.
مثل أي براءة اختراع أخرى تمنع قانونيًا أي شخص باستثناء صاحبها من صنع القرار أو استخدامه أو بيعه، وعن طريق تسجيل براءة اختراع للنبات أو خصائص النبات، يصبح لدى مالك البراءة حقوق حصرية في الغالب لتربية المنتج وتنميته وبيعه.
هذا يعني أن المزارع الذي يشتري هذه البذور لا يمكنه استخراج البذور من المحاصيل لإعادة استخدامها العام المقبل بل عليه شراء بذور جديدة كل عام بالأسعار والمواصفات التي تحددها الشركات الكبرى، الأمر الذي يحرم المزارعين من زراعة هذا الصنف أو حصاده أو تكاثره دون إذن.
وبحسب الخبراء، تعد إمكانية الحصول على براءة اختراع لصفات النباتات كاختراع فعلي مشكلة في عالم يزداد احترارًا لأن جينات النباتات تتطور وتتحول بشكل طبيعي، ومع تغير درجات الحرارة وهطول الأمطار، تتغير أيضًا المناطق التي يمكن للنبات أن يزدهر فيها، لذلك إذا كانت سمة مثل تفاحة ذات نقاط وردية حاصلة على براءة اختراع، وعثر مزارع عن طريق الخطأ عليها فوق أشجاره، فيمكن نظريًا مقاضاته من صاحب براءة الاختراع.
هذا مجرد مثال على كيفية تأثير براءات الاختراع هذه سلبًا على المزارعين، كما تتسبب بارتفاع الأسعار والاعتماد على الشركات للحصول على البذور، ورغم أن البذور المعدلة وراثيًا للخضراوات ستكلف على الأرجح ثلاثة أضعاف السعر وسيحتاج المزارعون إلى شراء البذور كل مرة يزرعون فيها بدلًا من إعادة استخدام بذور المحاصيل، يقول المؤيدون إن النفقات الإضافية سيتم تعويضها عن طريق انخفاض تكاليف المبيدات الحشرية وتقليل خسائر المحاصيل المدمرة.
من خلال البذور الحاصلة على براءة اختراع، تسيطر الشركات الكبرى نفسها على طعامنا بشكل متزايد لأنها في النهاية تقرر ما الذي يُزرع في الحقول في المستقبل
لا يقتصر الأمر على تضييق القنوات التي يمكن من خلالها تبادل البذور وتوزيعها، فأصبحت البذور نفسها أقل تنوعًا، فقد تسبب الاحتكار في اختفاء 75% من أصناف المحاصيل في العالم منذ القرن العشرين وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة “فاو”، وترك المزارعون في جميع أنحاء العالم أصنافهم المحلية المتعددة والسلالات المحلية لأصناف موحدة وراثيًا عالية الغلة، وفي الوقت الحاليّ، يوجد أكثر من 13 ألف نوع من النباتات الحاصلة على براءة اختراع في العالم.
ووفقًا لتقرير المكتب الفيدرالي الألماني للزراعة والأغذية، اختفت آلاف الخضراوات من الأطباق الألمانية، ووجد الباحثون أن نحو 3 من كل 4 أنواع من الخضراوات المزروعة في وقت ما بين 1836 و1956 لم تعد موجودة، وأظهرت النتائج أن نحو 5250 (من أصل نحو 7 آلاف نوع) من الخضراوات المدرجة لم تعد موجودة، في حين أن 16% منها “مهددة بالانقراض”.
ويعتمد إنتاج 75% من غذاء العالم على 12 نباتًا فقط، وبحسب تقرير لمنظمة “فاو” التابعة للأمم المتحدة، يستخدم الإنسان 150 إلى 200 نوع فقط من أصل 250 ألف إلى 300 ألف نوع معروف من النباتات الصالحة للأكل. 3 منها فقط – الأرز والذرة والقمح – تساهم بنحو 60% من السعرات الحرارية والبروتينات التي يحصل عليها الإنسان من النباتات.
تبدو هنا مسألة من ينتج أصناف نباتية جديدة أمر بالغ الأهمية لمستقبلنا جميعًا، ومن خلال البذور الحاصلة على براءة اختراع، تسيطر الشركات الكبرى نفسها على طعامنا بشكل متزايد لأنها في النهاية تقرر ما الذي يُزرع في الحقول في المستقبل، وبالنسبة للأشخاص الذين يشترون مواد البقالة، من المحزن أن يدركوا أن العشرات من العلامات التجارية في متجر البقالة مملوكة في الغالب لعدد قليل من الشركات الأم.
وبحسب وصف منظمة “Food and water watch” غير الحكومية التي تتخذ من واشنطن مقرًا لها، عندما تحتكر شركة ما فعليًا ممرًا كاملًا في متجر البقالة أو مجموعة من المنتجات الزراعية، فإنها تتخذ بذلك قرارات بشأن ما يمكننا تناوله بناءً على ما هو أفضل لأرباحها، وليس ما هو الأفضل لعملائها أو الكوكب.
خدعة المحاصيل المعدلة وراثيًا
إذا كنت تفحص ملصقات الأطعمة للتحقق مما إذا كنت على وشك شراء منتجات تحتوي على أطعمة معدلة وراثيًا، فأنت تضيع وقتك، فقد قررت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية منذ أكثر من عقد من الزمان أن الأطعمة المعدلة وراثيًا لا يجب أن يتم تصنيفها، لذلك لا توجد طريقة سهلة لمعرفة ما إذا كان طعام معين مصنوعًا من المحاصيل المعدلة وراثيًا.
كذلك إذا كنت تعتقد أن عربة التسوق الخاصة بك خالية من الأطعمة المعدلة وراثيًا، فعليك التفكير مرة أخرى، فوفقًا لشركة “ويب إم دي” (WebMD) الأمريكية، يعتقد 26% فقط من الأمريكيين أنهم تناولوا أطعمة معدلة وراثيًا، والواقع أن ما يصل إلى 70% من الطعام في متجر البقالة يحتوي على بعض المواد المعدلة وراثيًا.
ووفقًا لاستطلاعات مركز “بيو” للأبحاث، التي أُجري آخرها في أكتوبر/تشرين الأول 2019، يعتقد نحو نصف البالغين في الولايات المتحدة أن الكائنات المعدلة وراثيًا هي أسوأ بالنسبة لصحة الناس من الأطعمة التي لا تحتوي على مكونات معدلة وراثيًا، وقال 7% فقط إنها أفضل للصحة من الأطعمة الأخرى، ونمت الآراء بشأن الآثار الصحية لهذه الأطعمة بشكل أكثر سلبية بين عامي 2016 و 2018 وظلت ثابتة منذ ذلك الحين.
أكثر المواد الغذائية شيوعًا هي فول الصويا والذرة، وهذا يعني أن شراب الذرة والمشروبات الغازية المحلاة والحبوب والوجبات الخفيفة ربما تحتوي على مواد معدلة وراثيًا، ويحذر الخبراء من أن ذلك قد يكون له عواقب وخيمة على الأمن الغذائي، خاصة مع ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.
يبدو أن رد الفعل العنيف ضد التكنولوجيا الحيوية الزراعية يتنامى على مستوى العالم، مع تجذر مقاومة المستهلك لما يسميه البعض “أسطورة الغذاء المعدل جينيًا” أو “أسطورة الفرانكنفود”، حتى المدافعين عن حقوق الإنسان يعترفون بأن المحاصيل المعدلة وراثيًا ليست “رصاصة سحرية”.
كما أثار تقرير الأمم المتحدة “الحق في الغذاء” مخاوف بشأن الأمن الغذائي بسبب “هيكل احتكار القلة لمقدمي المدخلات”، محذرًا من أنه قد يتسبب أيضًا في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وحرمان أفقر الدول من الغذاء.
كذلك يثير حماس رواد الأعمال تجاه تصنيع اللحوم المزروعة في المختبرات مخاوف مماثلة، إذا انتهى الأمر بشركات اللحوم القائمة على المختبرات بتوفير نسبة كبيرة من البروتين، فستصبح تقنياتها ذات أهمية متزايدة في الإمدادات الغذائية في العالم، هذا يعني المزيد من السيطرة على ما نأكله وما ندفعه مقابل ذلك.
في سنغافورة مثلًا، حصلت شركة “Eat Just” الأمريكية على موافقة لبيع قطع الدجاج المزروعة في المختبرات للمستهلكين في ديسمبر/كانون الأول 2020، وطرحت الشركة منتجاتها الأولى تحت الاسم التجاري “Good Meat”، بالإضافة إلى سلطة الدجاج الآسيوية، يبيع المطعم أيضًا لحومه الجديدة على شكل زلابية الدجاج والأرز المقلي بالدجاج، وكان الطلب مرتفعًا بالفعل.
بدلًا من الحد من استخدام المبيدات الحشرية، أدت المحاصيل المعدلة وراثيًا في الواقع إلى زيادة استخدام هذه المواد الكيميائية، وتسببت في انتشار وباء الأعشاب المقاومة للمبيدات
قطعت اللحوم النباتية خطوات واسعة في السنوات القليلة الماضية، لكن الإنتاج لا يزال ضئيلًا، على الرغم من أن علم زراعة الأنسجة كان موجودًا منذ أكثر من نصف قرن، فإن زراعة ما يكفي من اللحم لصنع منتج صالح للأكل بسعر تنافسي كان التحدي الرئيسي.
يبلغ سعر الوجبة 23 دولارًا سنغافوريًا (17 دولارًا أمريكيًا)، بالتأكيد ليست رخيصة، لكن على المدى الطويل، ربما تفوق الفوائد الأخلاقية والبيئية التكاليف الاجتماعية للحوم المختبر، أو أن هذه الصناعة تتطور بطرق تؤدي إلى احتكار ملكية الإمدادات الغذائية أو تسطيح ثقافة الطعام بدلًا من استخدام الاستثمارات لضمان أكبر قدر ممكن من التنوع في المنتجات المزروعة في المختبر.
تقول منظمة الأغذية والزراعة إن إنتاج الغذاء سيحتاج إلى الضعف بحلول منتصف القرن لتلبية الطلب من سكان العالم المتزايدين، ما أثار دعوات لثورة خضراء ثانية، لكن منظمة السلام الأخضر “غرينبيس” تؤكد أن المحاصيل المعدلة وراثيًا وسيلة إلهاء مكلفة عن معالجة الجوع من خلال مكافحة الفقر ومساعدة أصحاب الحيازات الصغيرة في البلدان النامية على بيع منتجاتهم.
ربما تكون قد سمعت أو قرأت أن “العالم بحاجة إلى أطعمة معدلة وراثيًا لتحقيق الاكتفاء الذاتي”، على افتراض أن المحاصيل المعدلة وراثيًا فقط هي التي تتمتع بإنتاجية عالية بما يكفي لمواكبة النمو السكاني، المشكلة هي أن هذا ببساطة ليس صحيحًا، فقد وجدت الدراسات التي أُجريت على بعض المحاصيل المعدلة وراثيًا أن هناك القليل من التحسينات في الغلة أو لا توجد تحسينات على الإطلاق، وتظهر الدراسات طويلة الأجل للزراعة العضوية أن المنتجات العضوية يمكن أن تتطابق مع محاصيل الزراعة التقليدية.
في حالات أخرى، تدَّعي شركات التكنولوجيا الحيوية أن المحاصيل المعدلة وراثيًا لديها فوائد غذائية، أو ستحل بعض الأزمات المعلقة الأخرى، على سبيل المثال، “الأرز الذهبي” الذي من المفترض أن يعالج نقص “فيتامين أ” في العالم النامي، لكن لسوء الحظ، لا يحدث ذلك، لأن الجسم لا يمكنه امتصاص “البيتا كاروتين” (مركب عضوي) الموجود في “الأرز الذهبي” ما لم يُدمج مع بعض الدهون والزيوت، وهو أمر غير مفيد للأشخاص الذين يعيشون في فقر مع نظام غذائي محدود.
الكثير من الأطعمة غير المعدلة وراثيًا، مثل الجزر والبطاطا الحلوة، غنية بـ”فيتامين أ”، ولا تتطلب ملايين الدولارات لإنتاجها وتنميتها، وهذا يعني أن بعض المحصيل المعدلة وراثيًا مثل “الأرز الذهبي” لن تحل مشاكل التغذية في العالم، وفي حالات أخرى لا تخدم المحاصيل المعدلة وراثيًا أي غرض عملي على الإطلاق، على الأقل للأشخاص الذين يتناولونها.
هناك أيضًا احتمال حدوث تلوث جيني إذا تقاطعت جينات “البكتيريا الممرضة للحشرات” التي يشيع استخدامها مبيدًا حيويًا للآفات مع أنواع أخرى، فقد ذكر تقرير صادر عن وكالة حماية البيئة الأمريكية أنه بدلًا من الحد من استخدام المبيدات الحشرية، أدت المحاصيل المعدلة وراثيًا في الواقع إلى زيادة استخدام هذه المواد الكيميائية، وتسببت في انتشار وباء الأعشاب المقاومة للمبيدات، وأدى إلى مزيد من المخلفات الكيميائية في الأطعمة.
وفي حين، صُممت العديد من المحاصيل المعدلة وراثيًا على وجه التحديد لمقاومة بعض مبيدات الأعشاب الضارة، مثل “راوند أب”، أكثر مبيدات الأعشاب شيوعًا في العالم، يُحتمل أن يكون مُسببًا للسرطان، لذا فإن زراعة المحاصيل المعدلة وراثيًا يعني أن المزارعين ينتهي بهم الأمر باستخدام المواد الكيميائية المرتبطة بها، واستخدامها بكثرة عند استخدامهم لمحاصيل البذور المعدلة وراثيًا.
تنتهي هذه المواد الكيميائية في البيئة، وتهدد صحة المزارعين، فضلًا عن المجتمعات التي يعيشون فيها، والأسوأ من ذلك أنه بسبب زيادة استخدام المواد الكيميائية، فإن الأعشاب الضارة والحشرات تُطور بمرور الوقت مقاومة للمواد الكيميائية التي نستخدمها ضدها، وهذا يعني أننا كلما استخدمنا أكثر، كلما تكيَّفت النباتات المعدلة وراثيًا بشكل أسرع.
لم تعد العديد من مبيدات الأعشاب الشائعة فعالة في المزارع، مما يترك شركات التكنولوجيا الحيوية لتشجيع استخدام المواد الكيميائية الأكثر قسوة، التي سوف تتكيف معها الآفات في نهاية المطاف، ما يؤدي إلى سباق تسلح للمواد الكيميائية الخطرة حيث سيكون الناس والبيئة الخاسرين حتمًا.
من ناحية أخرى، تبدو محاولة الحفاظ على مزرعة خالية من الكائنات المعدلة وراثيًا أصعب مما تعتقد، فبعض النباتات المعدلة وراثيًا لا تبقى في مكانها المزروع، ومن الشائع أن يتسبب انتشار حبوب اللقاح من المحاصيل الحاصلة على براءة اختراع بفعل الرياح في اختلاط المواد الجينية الموجودة في الحقول المختلفة.
هذه مشكلة خطيرة للمزارعين للنباتات العضوية، الذين لا يُسمح لهم باستخدام الكائنات المعدلة وراثيًا، على سبيل المثال، في عام 2004، رفعت شركة “مونسانتو” دعوى قضائية ضد مزارع كندي يُدعى بيرسي شميزر لإعادة زراعة فول الصويا بعد حصاده دون إذن الشركة.
ادَّعى المزارع أن حقله قد تلوث منذ سنوات بحبوب اللقاح المعدلة وراثيًا، لكن الشركة أثبتت في المحكمة أنها كانت على حق، ومع ذلك، نظرًا لضآلة كمية الجينات الحاصلة على براءة اختراع في محاصيل شميزر، قضت المحكمة بأنه ليس لديه أي ميزة، وبالتالي لا يتعين عليه دفع تعويضات.
بالمحصلة، توجد الكثير من الأسباب الوجيهة للقلق بشأن المحاصيل المعدلة وراثيًا، لكن بالنسبة للمستهلكين المهتمين، ليس من الواضح دائمًا في السوق أين تنتهي تأثيرات المحاصيل المعدلة وراثيًا على صحتنا وبيئتنا، في حين تواصل شركات التكنولوجيا الحيوية والأغذية جهودها لعرقلة المطالبات الجديدة بوقف تصنيف الأطعمة المعدلة وراثيًا.