يحافظ السوريون قدر استطاعتهم على طقوسهم وعاداتهم في شهر رمضان المبارك، فقبل أذان المغرب بدقائق قليلة، تُطرق أبواب المنازل لتبادل أطباق من وجبة الإفطار لهذا اليوم.
وفي الشمال السوري تحديدًا أصبحت هذه الأطباق أو ما يسميها السوريون “سكبة رمضان” طريقة للتعرف على ثقافات المحافظات الأخرى خاصة أطباقها الشهيرة، ولعل ما عزز هذا التقليد القديم والأصيل، هو ما فرضه واقع النزوح والتهجير خلال السنوات الأخيرة واستقرار آلاف العوائل من معظم المحافظات السورية في شمال سوريا.
هيفاء رفاعي (48 عامًا)، مهجرة من مدينة درعا وتقيم بمدينة إدلب، في بناء طابقي مؤلف من 4 شقق، تسكن كل شقة أسرة من محافظة سورية مختلفة، ليجتمع في البناء الواحد أبناء الشمال والجنوب والشرق، على حد قولها.
تقول السيدة هيفاء في حديثها لـ”نون بوست”: “في السنة الماضية عندما انتقلنا إلى هذا المنزل، لم نكن على اختلاط بجيراننا أبدًا، خاصةً أنني لا أعرفهم وجميعهم لا ينحدرون من محافظتي “درعا”، لكن في رمضان، تعرّفنا على أدب وأخلاق وأذواق الجيران عبر “السكبة” الرمضانية التي تزين مائدتي كل يوم”.
وتابعت قائلةً: “بشكل يومي يصلني سكبة من جيراني، وفي كل مرة أشعر بالدهشة من هذا الطعام، لجمالية السكبة ومذاقها الجديد والشهي، فمثلًا جارتي المهجرة من مدينة حلب قدمت لي قبل أيام طبق “السفرجلية” الحلبي الذي لم أكن أعرف مذاقه من قبل، لأعيد لها الطبق مليئًا بوجبة “المليحي” وهي الأكلة الشهيرة في درعا”.
وعلى الرغم من تدهور الوضع المعيشي وارتفاع أسعار المواد الغذائية في شمال سوريا، لم تتراجع عادة “سكبة رمضان” خلال هذا العام، فمفهوم السكبة منذ القدم يعتبر بادرة لتعزيز العلاقات الاجتماعية بين العائلات، فلا تقتصر على ميسوري الحال أو أصحاب الدخول المتوسطة بل تشمل جميع الطبقات.
نحو 12.1 مليون شخص في سوريا أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ومتوسط الأجر الشهري في سوريا، يغطي حاليًّا نحو ربع الاحتياجات الغذائية للأسرة الواحدة فقط
يؤكد استطلاع أجراه مكتب الأتارب الإعلامي، الشهر الماضي مارس/آذار، على قرابة 20 شخصًا في مدينة الأتارب (30 كيلومتر غرب حلب) أن 90% منهم لا يمكنهم وضع أي خطط للاحتفال برمضان أو التنعّم بوجبات مليئة باللحوم، لأنهم استنفدوا مواردهم الأخيرة خاصة بعد وقوع كارثة الزلزال التي ألحقت بمنازلهم تصدعًا وتكسيرًا في أثاث المنازل.
ويكشف المكتب أن ما يقارب 80% ممن شملهم الاستطلاع، دُمرت منازلهم جزئيًا بعد الزلزال، وقرابة 40% منهم يعتمدون على مساعدات المنظمات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، كما فقد قرابة 15% منهم وظائفهم أو مصادر دخلهم.
سميرة خربطلي (39 عامًا) مهجرة من أساسات مدينة عربين في الغوطة الشرقية لدمشق، تقيم بقرية الزهور في محيط بلدة كللي شمال إدلب، تقول: “ما زلت إلى اليوم أحافظ على عاداتنا المتوارثة في رمضان المبارك رغم الغلاء وحالتنا المعيشية الصعبة، فقد طبخت اليوم أكلة “الشاكرية” لكن بالدجاج بسبب ارتفاع سعر لحم الغنم بشكل جنوني، فقد بلغ الكيلو الواحد 135 ليرة تركية”.
وأسهبت قائلةً: “رغم أن الشاكرية هي أشهر الأطباق الرمضانية البيضاء التي تعد من اللبن واللحم، أحيانًا يمكن إدخال لحم الدجاج عوضًا عن لحم الغنم فيها بالنظر لاختلاف الأذواق وتفاوت القدرات الشرائية”.
ويؤكد تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي في شهر مارس/آذار، أن نحو 12.1 مليون شخص في سوريا أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن متوسط الأجر الشهري في سوريا، يغطي حاليًّا نحو ربع الاحتياجات الغذائية للأسرة الواحدة فقط.
يقول فياض عبد الرحيم الذي يقيم في مدينة سلقين لـ”نون بوست”: “لم أتوقع يومًا أن أشاهد طبق “الثريد” على مائدتي، كنت أسمع عن انتشاره في محافظة دير الزور، لكنني تذوقته أخيرًا بعدما ردت جارتنا الديرية إلينا سكبة “الكبة” التي أرسلتها زوجتي بأخرى من طبق الثريد”.
يتحايل أهالي الشمال السوري على ظروفهم المعيشية القاهرة وعلى واقعهم الصعب بإحياء تقاليد قديمة، رغم حياة البؤس والنزوح والتهجير، للدلالة على بقاء الخير بين الناس
وأضاف “شعرت حينها أن السكبة أتاحت لنا فرصة جديدة للتعرف إلى عادات وثقافات مختلفة، صرت أطلب من زوجتي أن تشارك جيراننا بوجباتنا الإدلبية المشهورة كلما تعد واحدة منها مثل الكبة والمقلوبة والملوخية كي نتعرف إلى أكلاتهم المشهورة ونعرفهم إلى أكلاتنا”.
ترى المختصة في علم النفس الاجتماعي منى الصادق خلال حديثها لـ”نون بوست” أن لـ”السكبة” آثارًا اجتماعيةً كبيرةً تؤثر في الحالة النفسية للإنسان، إذ تساهم هذه العادة في تقوية النسيج الاجتماعي، ما ينعكس أثره على التعامل الإيجابي بين الناس وإزالة الضغائن من النفوس، ويثبت المودة والمحبة بين الأفراد.
وتبين الصادق أن السكبة عادة اجتماعية شرقية أصيلة سادت المجتمع السوري تعبيرًا عن المحبة والتآخي بين الجيران ودلالة على قوة العلاقة.
وتشير إلى أن الجيران قديمًا كانوا أشبه بعائلة ممتدة يملأ قلوبهم الخير والبساطة والألفة والرحمة في ظل تلك القيم الاجتماعية والعادات التكافلية، لكن مع التغيرات الحياتية وعولمة الثقافات والانتقال الجغرافي للأسر وامتدادها وكبرها وانتشار الثقافات المادية، كل ذلك أثر في شكل العادات والمظاهر الاجتماعية.
ويبين أن هذه العادة تعزز التكافل والتواصل والرحمة وتنشر المحبة، فلا تجد جارًا محرومًا من طعام معين ولو بالشيء القليل، كل حسب مقدرته، “هذا التكافل المباشر وغير المباشر يحقق الأمان الغذائي والاستقرار النفسي والوجداني والاجتماعي”.
ويتحايل أهالي الشمال السوري على ظروفهم المعيشية القاهرة وعلى واقعهم الصعب بإحياء تقاليد قديمة لها ذكريات في مخيلتهم، تدفعهم للحفاظ عليها وممارستها رغم حياة البؤس والنزوح والتهجير، للدلالة على بقاء الخير بين الناس في أبسط الأمور كصحن طعام يدخل المنزل فيجبر الخاطر.