عُرض دون حفاوة، وانتهى في صمت، حتى السخرية منه كانت باهتة، هكذا هو حال مسلسل “الكتيبة 101” الذي لم ينل مشاهدة قوية مثلما حققت مسلسلات مثل “جعفر العمدة”، ولم ينل نقاش جدي مثل الحالة التي أحدثها مسلسل “تحت الوصاية” ولم ينل نصيبًا من السخرية كحال مسلسلات سره الباتع ورسالة الإمام.
“المسلسلات التي تجسد بطولات وتضحيات الجيش المصري العظيم مثل مسلسل الكتيبة 101 لا يبغضها إلا متطرف عنيف أو خائن غير شريف أو عدو غير حليف أو عديم الفهم غير الحصيف”، كانت تلك تدوينة للشيخ ياسر سلمي على صفحته بمنصة فيسبوك نشرها رابع أيام الشهر الكريم، فيما كان المسلسل يشهد عزوفًا من المشاهدين، ما جعل “الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية UMS” التابعة للمخابرات تلجأ إلى هذه الخطوة البائسة لحث الجمهور على مشاهدة المسلسل من خلال مشاهير قادرين على إحداث الجدل، لكن تلك التدوينة لم تلق إلا الكثير من التفاعل بالضحك سخرية منها، لتستمر حالة الحصار والمقاطعة التي فرضها المواطنون على مسلسل “الكتيبة 101”.
حتى في تطبيق Watchit المملوك للمخابرات المصرية، الذي يختص ببث المسلسلات والأفلام التي من إنتاج “سينرجي” التابعة للمتحدة للخدمات الإعلامية، لم تستطع الجهة المسؤولة عن التطبيق أن تزوّر مشاهدات وتصنيفات للمسلسل الذي أصبح معلومًا فشله الذريع، فهو ليس موجودًا في قائمة أكثر 10 مسلسلات مشاهدة في رمضان على الأقل، مع وجود أعمال تُحسب على أنها تافهة وغير جدية مثل مسلسل “1000 حمدلله على السلامة”.
حشد مسلسل “الكتيبة 101” نجوم الصف الأول في مصر مثل آسر ياسين وعمرو يوسف اللذين يقدمان أعمالًا ناجحة مؤخرًا في الدراما والسينما وبطولة فتحي عبد الوهاب، وبحضور ضيوف الشرف من نجوم وازنين في الدراما المصرية مثل لبلبة وخالد الصاوي وأحمد عبد العزيز وكريم فهمي ومحمد رجب، لكن ذلك الحشد من الأسماء لم يشفع للمسلسل الذي تم تسويقه قبل رمضان كما لم يُسوق لغيره من المسلسلات، ووعد الجماهير بتنفيد عالمي لتقنيات المعارك والتصوير الخاص بالمسلسل، ورغم أن المسلسل جاء على مستوى تقني عالٍ بالفعل، فإن ذلك لم يكن شفيعًا له أمام المشاهدين الذين ملوا جوقة ممثلين “الجيش”.
كان من المُقدر من صناع العمل أن يكون مسلسل “الكتيبة 101” ناجحًا لأسباب عدة، فأولًا المدة القصيرة المكثفة لعرض القصة التي تعرضت للكثير من النقاشات، إذ جرى التخلي عن أسلوب الثلاثين حلقة، ثم اللجوء إلى 15 حلقة كحل للتغلب على الملل، لكن تم التغيير في اللحظات الأخيرة لصناعة 19 حلقة، مختومة بالحلقة العشرين الوثائقية عن الأحداث الحقيقية للقصة والاستعانة بمصادر لدعم السردية الدرامية بمصادر توثيقية تاريخية، وأسند إخراج تلك الحلقة لأحمد الدريني مدير قطاع الإنتاجي التسجيلي في المتحدة للخدمات الإعلامية ورئيس قناة “الوثائقية” التي افتتحت حديثًا لتعزيز البروباغندا بإنتاجات وثائقية.
اختيار القصة نفسها كان مبعثًا للتفاؤل، فهي تدور عن أحداث الكتيبة 101 التي استشهد من جنودها وضباطها، 26 شخصًا عام 2015، وتلك الحادثة كان وقعها مدويًا على نظام الأمن في مصر حيث تبناها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وآنذاك قطع السيسي زيارته إلى إثيوبيا ليكون موجودًا لمتابعة الأحداث عن كثب.
وتلك القصة تبدو كالوجه الآخر لقصة “كمين البرث” التي جاءت في مسلسل “الاختيار” الجزء الأول الذي حقق نجاحًا كبيرًا وكاسحًا، بينما كانت قصة “الاختيار” الجزء الثاني والثالث، تناقش قضية مثل قضايا مجزرة فض رابعة وتشخيص السيسي بنفسه في الجزء الثالث، وهي الأحداث التي استدعت الكثير من الانتقادات التي رأت أن المسلسلين يدوران في فلك قاعدة “تاريخ يكتبه المنتصر” وامتلائهمها بالبروغاندا الزاعقة في حق النظام وشيطنة جماعة الإخوان وأعضائها، لكن مواجهة عسكرية بين الجيش المصري وميلشيات الدولة الإسلامية في سيناء – محور أحداث الاختيار الجزء الأول -، كانت اختيارًا استطاع تحييد المشاهد وإقصاءه عن الجدل السياسي والاحتفاء ببطولات الجيش في سيناء ورثاء أبطاله، لكن لماذا لم ينجح ذلك الأسلوب المماثل في “الكتيبة 101″؟
يتقاطع الوضع الاقتصادي في مصر مع تلقي المشاهد للدراما في الكثير من الأحيان، ففي 2020 وتحت وطأة فيروس الكورونا على اقتصاد العالم، كانت الحكومة المصرية تتفاخر بأنها تحقق معدلات اقتصادية تتنامى رغم الفيروس، وأنها قادرة على تحقيق اكتفائها من الغذاء، بل وقدمت دعمًا ماليًا للكثير من المواطنين العاملين بالاقتصاد غير المنظم من الحرفيين والعاطلين عن العمل كذلك، وكانت الحكومة تقدم خطابات تحمل الكثير من الآمال بشأن عبور الأزمة بسلامة صحة المصريين واقتصادهم.
لم يكن المشاهد ناقمًا على النظام في 2020، لذلك تلقى مسلسل الاختيار في الجزء الأول منه بحفاوة بالغة، وتفاعلًا كبيرًا على منصات السوشيال ميديا مع كل حلقة من حلقات المسلسل، وتفاعلًا أكبر مع الممثل أمير كرارة الذي قدم شخصية المقدم “أحمد المنسي” الذي تحول إلى أيقونة حقيقية في الشارع المصري عقب الانتهاء من المسلسل.
حاولت المتحدة للخدمات الإعلامية استثمار ذلك النجاح في المواسم الرمضانية التالية لتقدم مسلسلات تدين الإسلام السياسي بمباشرة فجة، وتشتبك مع تاريخية الأحداث وصناعة سردية موازية للحقائق التاريخية من خلال الدراما، وركزت على أدوار أجهزة المخابرات والجيش في مسلسلات مثل “الاختيار 2 والاختيار 3 والعائدون والقاهرة-كابول وهجمة مرتدة”.
لكن أحدًا منها، لم يستطع أن يحقق نجاح الاختيار في جزئه الأول، وإن حقق بعض منها الشهرة التي رافقها جدل كبير مثل حلقات “فض رابعة” في الاختيار 2، وشخصية “السيسي” التي جسدها ياسر جلال على مدار 30 حلقة في الاختيار في جزئه الثالث، الذي إن لم يكن يهتم بتجسيد الشخصيات الفاعلة في السياسة المصرية منذ 2011 لما شاهده أحد، لكن الفضول كان دافعًا أساسيًا لمشاهدة كيف سيتم تقديم السيسي، في عهد السيسي، في ظاهرة لم تحدث في تاريخ أي رئيس مصري من قبل!
لا يُنكر أحد نبل القضية التي يعرضها مسلسل “الكتيبة 101″، لكن أبرز ألسنة النقد تعرضت للشخصيات الكاريكاتورية للضباط الذين يعرضهم المسلسل، فهم أحاديون وبيض بالكامل، لا يتسلل الشر أو الزيغ إلى قلوبهم
بالعودة إلى “الكتيبة 101” في العام 2023، يمكننا أن نعزي سبب العزوف عنه لسبب واضح وهو حالة الركود الاقتصادي وأرقام التضخم العالية وانخفاض العملة أمام الدولار، التي ضربت الشارع المصري وسببت له الكثير من الأزمات التي تواجهه يوميًا في معيشته، فكما يقول المطرب حمزة نمرة في إحدى أغانيه: “حب الوطن بيعيش، لما يموت الجوع”.
تراجعت شرعية الضابط الذي يحارب الإرهاب في سيناء طيلة الوقت، وهي السردية التي أسس عليها نظام السيسي شرعيته منذ البداية، حينما قال للمصريين: “أريد منكم تفويضًا لمحاربة الإرهاب”، وكانت ركيزة محاربة الإرهاب في سردية نظام السيسي تتقدم على الوعود بالنمو الاقتصادي، وطبعًا كان هناك غياب كامل للوعود بفتح المناخ السياسي والحفاظ على مكتسبات ثورة يناير.
أعلن السيسي في خطاباته في أكثر من مرة أن مصر استردت سيناء بالكامل، وانتصرت في الحرب على الإرهاب، حتى إنه زار منطقة شرق القناة للمرة الأولى في حكمه في 1 أبريل/نيسان الحاليّ بالتوازي مع عرض المسلسل، ليعلن أن مصر أخضعت كل الإرهابيين في كل البلاد، حتى إنه بنفسه يقف في أشد المواقع خطورة، لكن تلك الرمزية لزيارته، لم تستطع أن تحدث أي صدى في المقابل عند شعب غاضب وناقم على الفشل الاقتصادي المتتالي لحكومته.
رأت بروباغندا السيسي أن مسلسلًا محيدًا للقضايا السياسية ومنصبًا بكامل تركيزه على عملية انتقامية لجيش مصر سيكون قادرًا على التحشيد الشعبي من جديد لصف النظام، والجيش بالأخص، الذي تكشّف مؤخرًا في مساومات البنك الدولي ودول الخليج مع الحكومة المصرية لدعم الاقتصاد المصري من أجل تقليص دور المؤسسة العسكرية، أن استيلائه على المناخ الاقتصادي للبلاد بأكمله كان هو البلاء الأكبر الذي جره نظام السيسي على النظام المصري، لكن الرد جاء من الجماهير، إما عزوفًا وإما تفنيدًا لما يعرضه المسلسل.
يصر صناع العمل على الاستخفاف بعقلية المشاهد المصري، الذي هو من الأساس سئم السردية الوطنية والمارشات العسكرية في مسلسلات تنفصل تمامًا عن واقعه
لا يُنكر أحد نبل القضية التي يعرضها مسلسل “الكتيبة 101″، لكن أبرز ألسنة النقد تعرضت للشخصيات الكاريكاتورية للضباط الذين يعرضهم المسلسل، فهم أحاديون وبيض بالكامل، لا يتسلل الشر أو الزيغ إلى قلوبهم، فهناك أحد الضباط يرفض أن ينزل إجازة لأسرته قبل أن يأتي بالقصاص لزميله، وهناك ضابط آخر يتعامل مع مصر كأنها زوجته وأهله وأمه وأبنائه الحقيقيين، وفي مجتمع مثل مصر، يختبر تجربة الخدمة العسكرية الإجبارية، كان من السهل جدًا عدم استساغة تلك الخطابات الهذيلة عن حب الوطن، حيث يعلم الجميع من الذكور بالأخص الذين خدموا في الجيش، أنه لا يوجد ضباط بتلك الملائكية وذلك الزهد في الدنيا والأهل لصالح الوطن.
كان من القضايا التي أثارت جدلًا محدودًا، نظرًا لمحدودية مشاهدة المسلسل، قضية كيف تعاملت كتائب الجيش التي تجاور أهالي سيناء، فقد تغاضى المسلسل تمامًا عن ذكر أي تهجير للأهالي من مواقعهم أو تدمير تلك المواقع بغرض حاجة الجيش العسكرية إلى خطوة مثل تلك، أو شك الجيش في بعض الأهالي الذين يجاورونه أنهم متواطئون مع الإرهابيين، بل أظهر المسلسل ضباط الجيش يتعاملون بما فوق الحسنى مع أهالي الإرهابيين ذاتهم، فهذا ضابط يسقي زوجة وابن إرهابي يقتلهم العطش، تحت شعار “أن لا ذنب لهم في أن عائلهم إرهابي” رغم أن الفيديوهات المسربة عن تعاملات الجيش على الأرض في سيناء مع الإرهابيين وذويهم بها الكثير من الأشياء المروعة.
يصر صناع العمل على الاستخفاف بعقلية المشاهد المصري، الذي هو من الأساس سئم السردية الوطنية والمارشات العسكرية في مسلسلات تنفصل تمامًا عن واقعه وعن أزماته، أصبح المواطن المصري في حاجة إلى رؤية ضابط يحارب الغلاء في مسلسل، أكثر من ضابط يحارب الإرهاب، فالمصري إن لم تصبه رصاصات الإرهاب، فرصاصات التجويع قادرة على قتله أيضًا.
وبانتهاء مسلسل “الكتيبة 101” يبدأ مسلسل عسكري آخر اسمه “حرب” في العشر الأواخر من رمضان، يجسد صدامًا أيضًا بين الإرهابي متمثلًا في “الظافر/أحمد السقا” والدولة مجسدة في محمد فراج، وهو مسلسل على مستوى المشاهدات والنجاح، والأحداث، يتشابه كثيرًا مع أخيه “الكتيبة 101”.
على الجانب الآخر، يسيطر مسلسل “جعفر العمدة” للممثل محمد رمضان على الساحة الدرامية لرمضان 2023، وهو المسلسل الذي يجسد دون أن يكون واعيًا لذلك، غياب الدولة بشكل كامل ومؤسساتها، فجعفر هو ابن منطقة شعبية ذو أصل بسيط، وفي نفس الوقت هو قادر على اختراق عوالم الأغنياء والزواج منهم وإهانتهم ودخول مجتمعاتهم بكل سهولة محافظًا على ثوبه الشعبي في نفس الوقت، ويحقق انتقامه بنفسه دون الحاجة إلى قانون الدولة ومؤسساتها الأمنية، ولعل استبدال أيقونة أحمد المنسي بأيقونة جعفر العمدة تحمل دلالات رمزية تعطي السيسي ونظامه صورة حقيقية عن شعبيتهم لدى المشاهد المصري الذي بإمكانه أن يعبر عن غضبه أيضًا، من خلال رفض الأكل من مسلسلات السلطة التي تخترق مائدته الرمضانية.