ترجمة حفصة جودة
يتذكر مزارق عرش “أبو سلمان” حينما كانت الأسمالك تسبح في الأراضي الرطبة بغزة، بينما تحلق آلاف الطيور المهاجرة فوقه في الربيع والخريف، اعتادت المياه أن تتدفق من تلال الخليل في الضفة الغربية لتتجه نحو صحراء النقب، فتملأ الأراضي الرطبة الساحلية وسط غزة قبل أن تصل إلى البحر الأبيض المتوسط.
يقول أبو سلمان الذي عاش في وادي غزة كل حياته: “كان هناك الكثير من الحيوانات والنباتات، كان الماء نظيفًا للغاية حتى إننا كنا نشرب منه”، لا يعلم أبو سلمان كم يبلغ عمره لكنه يعتقد أنه تجاوز الـ60.
خلال عقود، شهد أبو سلمان التدهور الخطير للأراضي الرطبة التي كانت نابضة بالحياة، وكانت محطة مهمة للطيور المهاجرة بين إفريقيا وأوروبا وآسيا.
“كارثة بيئية”.. ما الذي حدث لوادي غزة؟
في السبعينيات، حولت “إسرائيل” مجرى المياه، مما أدى إلى نقص تدفق مياه الأمطار التي تصل وادي غزة، بعد ذلك بدأت البلديات المحلية بالتخلص من مياه الصرف الصحي الخام والنفايات الصلبة في الوادي، ليتحول ما بقي من الأراضي الرطبة إلى أراضي نفايات.
في عام 2000 أعلنت السلطة الفلسطينية المكان محمية طبيعية، في محاولة لوقف تدهور موارده الطبيعية وتنوعه البيئي، لكن الوضع في قطاع غزة ازداد سوءًا.
انهارت البنية التحتية لقطاع غزة منذ أن فرضت “إسرائيل” حصارًا جويًا وبحريًا وبريًا على القطاع عام 2007، وذلك بعد أن تولت حماس السلطة، وتسببت القيود الإسرائيلية في انقطاع الكهرباء بشكل مستمر ونقص الوقود، ما أدى إلى اضطراب منشآت المياه والصرف الصحي.
مع نمو السكان لأكثر من مليوني نسمة، تكومت النفايات وتسببت الرائحة النتنة في خنق الحياة التي كانت منتعشة في وادي غزة، وكانت المياه تصل إلى البحر ملوثة بشدة، حتى إنه في 2017 كانت 73% من شواطئ غزة غير آمنة للسباحة؟
تقول يسر الأطرش، مستشارة المياه والبيئة التي درست التأثير المدمر للتلوث على الحياة البرية والصحة العامة في الوادي: “لقد أصبح وادي غزة كارثة بيئية، وأصبح الوضع خطيرًا للتنوع البيولوجي هناك، وللسكان الذين يعيشون في المنطقة حيث يعانون من الطفيليات والعدوى والأمراض”.
كيف عاد وادي غزة للحياة؟
أدت عقود من نقص تدفق المياه العذبة وتطور الزحف العمراني والتلوث إلى تدهور بيئة وادي غزة الهشة، لكن رغم دفنه تحت طبقات من الصرف الصحي والنفايات، ما زال الوادي نابضًا بالحياة.
يهدف مشروع برنامج الأمم المتحدة للتنمية “UNDP” إلى إحياء المنطقة كمحمية طبيعية وأرض ساحلية رطبة، ومنذ انطلاق محطة معالجة مياه الصرف – الممولة دوليًا – في 2021، تدفقت المياه النظيفة مرة أخرى في وادي غزة.
يقول أحمد حلس، رئيس معهد غزة القومي للتنمية والبيئة “NIED”: “إنه الوقت المناسب لاستعادة الأراضي الرطبة، لأن محطة معالجة مياه الصرف توفر مصدرًا مستمرًا للمياه يمكننا الاعتماد عليه لتغذية وادي غزة”.
تقول يفوني هيلي، المبعوثة الخاصة لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية “مساعدة الشعب الفلسطيني”: “كانت مهمة المرحلة الأولى للمشروع ضمان عمل البلديات الخمس المحيطة بوادي غزة معًا وتأسيس مجلس خدمة مشترك، أما المرحلة الثانية تضمنت تنظيف 50 ألف طن من النفايات ومحاولة إيقاف عملية إلقاء النفايات غير القانونية في المنطقة”.
يهدف مشروع الإحياء التابع لبرنامح الأمم المتحدة للتنمية بقيمة 50 مليون دولار ومدته 10 سنوات، إلى إنشاء واحة بيئية ومركز ترفيهي لسكان غزة، وبتمويل أولي قدره 9 ملايين دولار من بلجيكا والنرويج واليابان، ما زال المشروع بحاجة لتأمين تمويل إضافة إلى مواصلة العمل، لكن علماء البيئة بدأوا يلاحظون بعض التغيرات بالفعل.
يقول عبد الفتاح عبد ربه، أستاذ الدراسات البيئية بالجامعة الإسلامية في غزة والمتخصص في التنوع البيولوجي بوادي غزة “الوضع بدأ في التحسن”، بينما تقول الأطرش: “قبل عدة سنوات كانت الرائحة هنا لا تُطاق، والآن نرى الحياة تعود إلى الوادي والحيوانات التي اختفت تعود مرة أخرى”.
الخطوة التالية تعزيز جسر الوادي للسيطرة على تدفق المياه وبدء تخضير المنطقة بزراعة الأنواع المحلية التي تتكيف مع المنطقة، تهدف خطة برنامج الأمم المتحدة إلى معالجة مشكلات التلوث وحماية تدفق المياه وتحسين جودتها واستعادة التنوع البيولوجي، فقد اعتادت المنطقة أن تدعم أكثر من 100 نوع من الطيور و250 نوعًا من النباتات.
لكن المشروع لا يتعلق فقط بالبيئة، بل بتحسين المعيشة في واحدة من أكثر المناطق ازدحامًا بالسكان في العالم، تقول هيلي: “يحتاج الناس إلى مساحة ترفيهية حيث يمكنهم المشي والتنفس والاسترخاء، هذا المشروع يتعلق بجودة الحياة والشعور بالكرامة والفخر”.
تجدد الأمل واستمرار النضال من أجل الأراضي الرطبة في غزة
تضم الأنظمة البيئية للأراضي الرطبة تنوعًا بيولوجيًا غنيًا، وتوفر عددًا من الخدمات مثل تنقية المياه وتنظيم تدفقها والسيطرة على التآكل، كما تلعب دورًا في مكافحة أحداث المناخ المتطرفة مثل الفيضانات وتخزين كميات هائلة من الكربون، لذا فصيانة المكان تساعد في الحد من تغير المناخ.
لقد فقد العالم بالفعل 87% من الأراضي الرطبة الطبيعية في الثلاثة قرون الأخيرة، ويرفع مشروع وادي غزة من الآمال التي دُمرت بسبب الحصار، تقول الأطرش: “للأراضي الرطبة في وادي غزة أهمية تاريخية أيضًا، فهي جزء من التراث ومهمة للتنوع البيئي هنا، لذا فهي مهمة لاستعادتهم”.
لكن هناك تحديات بارزة، فكما تقول الأطرش يعد خطر الفيضانات من أكبر المشكلات، لقد حولت “إسرائيل” مجرى المياه لإمداد عدد السكان والصناعات المتزايد، بما يمنع التدفق الطبيعي لمياه الأمطار نحو الأراضي المنخفضة في قطاع غزة.
ومع ذلك، ففي أثناء الأمطار الكثيفة، تسمح السلطات الإسرائيلية بتدفق المياه، ما ينتج عنه فيضانات كارثية تؤثر على المناطق الزراعية والسكنية في السنوات الرطبة، تضيف الأطرش: “هناك أيضًا مشكلة متعلقة بتمويل المشروع ليستمر في عمله بطريقة مستدامة”.
يقول حلس إن الصعوبات لا تتعلق فقط بالقيود الإسرائيلية والتحكم في تدفق المياه، بل بالسلطات المحلية أيضًا، ويضيف “نحتاج إلى تطبيق القانون ومراقبته لضمان حماية المنطقة”.
أما بالنسبة للسكان الذين يعيشون بالقرب من الأراضي الرطبة، فمعالجة مياه الصرف وإزالة أكوام القمامة، حققت تغييرًا واضحًا، يقول أبو سلمان من مسكنه المؤقت بالجزء الشرقي لوادي غزة: “لقد أصبح الوادي أكثر نظافة ويبدو أكثر اتساعًا وأصبح هناك مساحة لنا، على الأقل يمكننا أن نتنفس قليلًا الآن”.
المصدر: يورو نيوز