حرب الجنرالات في السودان.. ماذا عن الانتقال المدني للسلطة؟

تتجدد المعارك العنيفة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع تحت إمرة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) لليوم الثالث على التوالي وسط تصعيد في المواجهات أسفرت حتى كتابة تلك السطور عن سقوط 97 قتيلًا و942 إصابة وفق إحصاء لجنة أطباء السودان المركزية التي حذرت من تفاقم الوضع الإنساني وأن “المستشفيات بالعاصمة الخرطوم تعيش تحت وطأة الحرب أوضاعًا عصيبة وبالغة التعقيد من انعزال وانقطاع الإمداد من الكوادر الطبية والمعينات والمستهلكات الطبية”.
وتتضارب الأنباء بشأن الوضع ميدانيًا بين الجيش وقوات الدعم، إذ يزعم كل طرف سيطرته على البقاع الإستراتيجية في العاصمة الخرطوم، مرتكزًا على بعض المقاطع المصورة والبيانات الإعلامية التي تُبث على منصات التواصل الاجتماعي دون استيثاق دقيق لتفاصيل المشهد وحقيقة المزاعم المتبادلة.
وتكشف تقارير المراسلين الإعلاميين وشهود العيان عن احتدام المواجهات والمعارك في أم درمان وحي كافوري وفي شرق النيل، كذلك اشتعال الموقف حول القصر الجمهوري وقيادة الجيش وسط الخرطوم، مع استمرار القتال في المطار الدولي ومناطق عدة من العاصمة وعدد من الولايات.
حراك دبلوماسي تقوم به بعض الجهات والدول لاحتواء الموقف قبل تجاوزه الخطوط الحمراء وسط تحذيرات من اندلاع حرب أهلية طويلة الأمد إن لم يتم عرقلة كرة النار المتدحرجة بين الجيش وقوات الدعم، لا سيما بعد التلميح إلى احتمالية تدخلات خارجية، سواء بطريق مباشر أم غير مباشر، فيما يقبع الشعب السوداني في مقاعد المتفرجين في انتظار ما ستسفر عنه معركة الجنرالات على تورتة السلطة
أوضاع مأساوية في مستشفى الخرطوم، ومطالبات بتوفير الوقود لتشغيل مولدات الطاقة والأدوية المنقذة للحياة وحماية الطواقم الطبية من الاستهداف.#السودان pic.twitter.com/EZaxCAFw0g
— Sudan News (@Sudan_tweet) April 17, 2023
4 سيناريوهات
القراءة الأولى للمشهد تشير إلى 4 سيناريوهات رئيسية تحكم الموقف، تتباين فيما بينها حول درجة ومستوى التحقق، وفق تطورات الوضع ميدانيًا، الأول: انتصار الجيش على قوات الدعم السريع، وهو السيناريو الأقرب وفق المقربين من دوائر صنع القرار، في ضوء فارق الإمكانيات بين الطرفين لصالح المؤسسة العسكرية الرسمية، بجانب الدعم الذي يحظى به الجيش، خارجيًا وداخليًا، إذا ما كان الخصم هو قوات الدعم.
المؤشرات الراهنة تذهب باتجاه هذا السيناريو، على الأقل حسم معركة الخرطوم لصالح قوات البرهان، في ظل التفوق العسكري في العدد والعتاد، وإن كانت معارك الأطراف والإقليم ستكون أكثر شراسة لما يحظى به حميدتي – صاحب الخطاب الشعبوي – من نفوذ هناك، إذ يتوقع أن يكون للقبلية دور مؤثر في تلك المعركة.
وعلى النقيض تمامًا يأتي السيناريو الثاني: انتصار قوات الدعم السريع، وهو السيناريو الأبعد لكنه ليس بالمستحيل في ظل الدعم الخارجي من جانب، ورخوة المشهد وقابليته لأي تقلبات جذرية من شأنها أن تعيد هيكلته بالكلية من جانب آخر، لكن في هذه الحالة سيدخل السودان نفقًا مظلمًا من الفوضى والتيه ويعاد سيناريو دارفور والجنوب مجددًا.
منذ الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في أبريل/نيسان 2019 حرص العسكر على البقاء في السلطة مهما كانت ضغوط الشارع والخارج بشأن مدنية الدولة وعودة الجيش إلى ثكناتهم، وهنا تلاقت مصالح البرهان وحميدتي معًا رغم تباين الخلفيات الأيديولوجية
وفي تطور يعكس نوايا قائد قوات الدعم ورؤيته للمعركة ومستقبلها، طالب حميدتي – من خلال منشور له على صفحته الرسمية على فيسبوك – المجتمع الدولي بالتدخل لإنقاذ بلاده مما أسماه “الراديكاليين” قائلًا: “يجب على المجتمع الدولي الآن التدخل ضد جرائم الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان الإسلامي الراديكالي الذي يقصف المدنيين من الجو، جيشه يشن حملة وحشية ضد الأبرياء، يقصفهم بالميج، نحن نقاتل ضد الإسلاميين الراديكاليين الذين يأملون في إبقاء السودان معزولًا وفي الظلام، وبعيدًا عن الديمقراطية. سنواصل ملاحقة البرهان وتقديمه للعدالة”.
وتابع “المعركة التي نخوضها الآن هي ثمن الديمقراطية. نحن لم نهاجم أي شخص، أعمالنا هي مجرد رد على الحصار والاعتداء على قواتنا. نحن نقاتل من أجل شعب السودان لضمان التقدم الديمقراطي، الذي تطلع إليه طويلًا”.
أما السيناريو الثالث فلا يقل خطورة عن الثاني، حيث الولوج في حرب أهلية طويلة الأمد، إذ لا رابح ولا مهزوم، مع إبقاء الوضع على ما هو عليه، معارك مستمرة وحروب لا تتوقف، وتتحول مدن السودان كلها إلى ساحات مواجهة، ويتوقف تحقق هذا السيناريو على موقف القوى الخارجية الداعمة للطرفين، ومدى إصرارها على دعم الطرفين وسبل ذلك في ضوء الأجندات التي تستهدف تقسيم البلاد أو إخراجها بعيدًا عن حواف الاستقرار.
وفي الأخير هناك سيناريو التوافق السياسي والرضوخ لمساعي التهدئة بعدما يكون كل طرف قد استنزف الآخر، في ضوء الجهود الدبلوماسية التي تبذلها بعض القوى لوقف المعارك المحتدمة، ومن بين تلك الجهود قرار الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) إرسال رؤساء كينيا ويليام روتو، وجنوب السودان سيلفا كير، وجيبوتي إسماعيل عمر جيلي، إلى الخرطوم للتوفيق بين طرفي المواجهة، كذلك ضغوط المجتمع الدولي وبعض القوى العربية الإقليمية كمصر والسعودية، وقد تدخل بعض القوى الدولية الأخرى على خط الوساطة.
شهادة وفاة للعملية السياسية
منذ الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في أبريل/نيسان 2019 حرص العسكر على البقاء في السلطة مهما كانت ضغوط الشارع والخارج بشأن مدنية الدولة وعودة الجيش إلى ثكناتهم، وهنا تلاقت مصالح البرهان وحميدتي معًا رغم تباين الخلفيات الأيديولوجية والسياسية، بل والقبلية لكليهما.
وحين رفض المحتجون استبدال عسكر بعسكر، البرهان بديلًا عن البشير، رافعين شعارات المدنية، وملازمين الشوارع والميادين بعدما فشلت محاولات تفريقهم بالقوة، رضخ المجلس السيادي العسكري تحت وطأة تلك الضغوط وسمح لعبد الله حمدوك بتشكيل حكومة مدنية، وهنا كان التحدي الأول للجنرال ونائبه في مواجهة الانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة.
وما إن اقترب الحديث عن تسليم السلطة للمدنيين وإجراء انتخابات عامة وإعادة العسكر لثكناتهم، قام البرهان بانقلاب جديد في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أطاح فيه بحمدوك من رئاسة الحكومة وجمّد أعمال لجان المحاسبة وملاحقة الفاسدين، لكن الضغوط لم تتوقف، وهذه المرة كانت وطأتها الخارجية أكثر ضراوة ليجد الجنرال نفسه أمام موجة عالية من الانتقادات التي قد تطيح به شخصيًا من الحكم، فآثر اللعب على الوتر ليعيد حمدوك للحكومة مرة أخرى لكنه لم يستمر طويلًا، فما إن هدأت العاصفة حتى أطيح به مرة أخرى بعد شهرين، حتى لو كان هو من تقدم باستقالته.
ما تشهده الساحة السودانية اليوم هو إعلان شبه رسمي عن وفاة عملية الانتقال السياسي السلمي للسلطة للمدنيين، وأن المبادرات والأطر والاتفاقيات السياسية التي أُبرمت منذ الإطاحة بالبشير كان هدفها الأساسي كسب المزيد من الوقت لترسيخ أركان حكم العسكر
وهنا لم يقف الشارع السوداني مكتوف الأيدي، لتتواصل الاحتجاجات المطالبة بإسقاط الانقلاب، والعودة إلى المسار السياسي والانتقال للحكم المدني كما كان متفق عليه، وعلى وقع تلك الضغوط المدعمة بالخارج وبعد سجالات ومباحثات وجولات تفاوض عدة، لعب فيها البرهان وحميدتي دور القط والفأر، فيما يتعلق بالتقرب من الثورة والثوار والمدنيين، خلص المشهد السوداني إلى إطار اتفاقي جديد يسهل عملية الانتقال الديمقراطي للسلطة ودمج قوات الدعم داخل المؤسسة العسكرية، ومن ثم بدأ يستشعر كلا من الجنرالين خطورة الموقف وتهديده لمستقبلهما وطموحهما السياسي، كل وفق حساباته الخاصة، وعليه كان لا بد من قلب الطاولة مرة أخرى أسوة بما حدث في 2021، لتنشب تلك المعركة بين عسكر السودان صراعًا على الحكم.
أثبتت التجارب على مدار الأعوام الأربع الماضية أن تشبث العسكر بالسلطة لا يمكن ثنيه بسهولة، فهم يدافعون عن حياتهم قبل مناصبهم السياسية، خاصة بعد تورطهم في جرائم قتل وإبادة تستوجب العقاب وقضاء ما تبقى في الحياة داخل السجون إن لم يكن لمقصلة الإعدام رأي آخر، ومن ثم فالضمانة الوحيدة لأمنهم وسلامتهم أن يكونوا في السلطة.
ومن هنا يتفق الكثيرون أن ما تشهده الساحة السودانية اليوم هو إعلان شبه رسمي عن وفاة عملية الانتقال السياسي السلمي للسلطة للمدنيين، وأن المبادرات والأطر والاتفاقيات السياسية التي أُبرمت منذ الإطاحة بالبشير كان هدفها الأساسي كسب المزيد من الوقت لترسيخ أركان حكم العسكر بعد أمواج الضغوط العاتية التي تعرضوا لها.
ورغم ذلك فإن الأمر لم يُحسم بعد، فالتطورات التي قد تشهدها المعركة الدائرة الآن بين الجنرالات قد تفضي في نهاية المطاف إلى القضاء على البرهان وحميدتي معًا، على المستوى السياسي والسلطوي، خاصة إذا ما كانت هناك تدخلات خارجية بأي شكل من الأشكال، وصاحبها حراك شعبي قوي ومنظم، وقد يُسرع ذلك بتسليم السلطة لمدنيين وإجراء انتخابات عامة في أقرب وقت، لكن يبقى ذلك مشروطًا بما تشهده الساحة من متغيرات ومستجدات خلال الفترة المقبلة.