صلاة العيد ليست ركنًا شرعيًا ضمن أحكام العيد فقط، بل هي مظلة اجتماعية روحية تعزز لُحمة المسلمين وتعزز أواصرهم، وتحول هذا الشتات المبعثر إلى كيان موحد متلاصق لا يفصل بين الواحد والآخر أكثر من بضعة سنتيمترات أو أقل، في نظام متناسق يسر الناظرين.
وتقوم فلسفة الصلاة بصفة عامة، بجانب أنها التزام لأمر إلهي وعبادة رئيسية في الإسلام، على فكرة الأخوية وتعميق العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم، لتتحول المساجد من دور عبادة صرفة إلى مكان يلتقي فيه المسلمون ويتبادلون التحيات والتعاضد والتلاحم، كما كانت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ومن بعده صحابته الكرام ثم السلف الصالح.
وفي الأعياد الأمر يزداد حضورًا، لوحات فنية مبهرة ترسمها ساحات العراء التي يُصلى فيها العيد، فرحة كبيرة تعم الأجواء بين المصلين، حماسة التكبيرات تكشف حجم الابتهاج بهذا الضيف الذي لا يأتي في العام إلا مرتين، وتحول الأمر في الآونة الأخيرة أن أصبحت تلك الصلاة هي تجمع المسلمين الوحيد اجتماعيًا في ظل حالة الانقسام والرضوخ لضغوطات الحياة التي أفقدت الكثيرين لذة الاحتفال بالأعياد.
وقد تجلى ذلك حين اضطرت بعض الدول لمنع إقامة صلاة العيد أو إقامتها بضوابط وإجراءات احترازية، بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) قبل عامين، حينها استشعر الكثيرون الوحشة، حيث كانت تلك الصلاة هي طقس العيد الأبرز، وربما الوحيد – لدى البعض – وحين غابت فقدوا جزءًا كبيرًا من الفرحة والبهجة بتلك المناسبة السعيدة.
مناسبة عظيمة
صلاة العيد في الإسلام مناسبة عظيمة يلتقي فيها المسلمون على أرضية الدين والدنيا معًا، استجابة لأمر إلهي وتعزيزًا لضرورة اجتماعية، ولذا أولاها النبي عليه الصلاة والسلام أهمية كبيرة حين أوصى بأدائها وأنها ركن أصيل من العيد، بل شرّع للمسلمين أدابًا وأحكامًا تجعل من تلك الشعيرة عالمًا خاصًا من الروعة والجمال.
وكان النبي حين يفرغ من صلاة العيد يمر على المصلين وهم جلوس في أماكنهم وصفوفهم، يعظمهم ويوصيهم بأمور دينهم ودنياهم، مشددًا على أهمية اللحمة بين المسلمين والتكاتف، وكان من حرصه على ذلك أنه كان يخطبهم وهو قائم على الأرض لا يصعد إلى المنبر كما هو الحال مثلًا في صلاة الجمعة.
وفي كتابه “الأعياد وأثرها على المسلمين” يوضح سليمان بن سالم السحيمي أن العيد ليس مجرد احتفال فقط، ومظهر تعبدي فحسب، بل له مقاصد سامية عدة منها: “تحقيق العبودية لله عز وجل وشكره على ما أنعم به علينا من إتمام الصيام وما تيسر من القيام، والفرح والسرور الذي يكون عونًا على طاعة الله ولا يكون سُلَّمًا لمعصيته، وصلة الأقارب والعفو والصفو والتسامح، وتحقيق الأخوة الإسلامية، وتذكر رباط العقيدة”.
كما يستعرض الآثار الإيجابية للأعياد على المسلمين التي من أبرزها تغذية الروح والبدن مثل التجمل في المظهر واللبس والتطيب ومشروعية التكبير وروحانياته، هذا بجانب التكافل الاجتماعي حيث نجد أن “عيد الفطر يقترن بتشريع زكاة الفطر، وعيد الأضحى يقترن بتشريع نحر الأضحية، وذلك للبر بالمعوزين والتوسعة على الفقراء في وقت أعده الله لفرح المسلمين وسرورهم ولجأ الكل إلى المشاركة في بهجة العيد، وأعياد الإسلام شرع فيها ذلك لإزالة الأنانية والشحناء ولإشاعة روح البهجة بين المسلمين”.
فرصة للتلاحم.. التجمع الأبرز اجتماعيًا
الاستعداد لصلاة العيد يبدأ من صلاة الفجر، حيث يعود المصلون من الصلاة ليأكلوا بعض التمرات في منازلهم استنانًا بسنة النبي عليه السلام، ثم يرتدون ملابسهم الجديدة، ويتوجهون فورًا إلى ساحات الصلاة في العراء، ويحرص البعض على سلك طرق وشوارع غير مألوفة بالنسبة لهم، للتمكين من مقابلة ومصافحة أناس آخرين، وتتحول الشوارع والممرات الموصلة إلى ساحة الصلاة إلى شبكات عنكبوتية من المارة المصافحين لبعضهم البعض.
وفي ظل ضغوط الحياة ومشاكلها، وسرعتها الجنونية، وما بثته التكنولوجيا من سموم العزلة والوحدة والانكفاء، تحولت صلاة العيد إلى التجمع الأبرز اجتماعيًا بين المسلمين في العيد، بل ربما تكون التجمع الوحيد، فبعدها يذهب كل إلى منزله، البعض يكمل نومه والآخر يتوجه إلى عمله، ومن تمكن من البقاء في المنزل اكتفى بالجلوس أمام التلفاز، مستعيضًا عن زيارة الأهل بإجراء الاتصالات الهاتفية.
“قد لا أرى جاري في العام كله إلا في صلاة العيد فقط” هكذا يقول “شريف” (45 عامًا) مستدعيًا ذكرياته مع صلاة العيد، لافتًا إلى أن جاره الذي لا يفصله عنه إلا بضعة أمتار ويعمل مزارعًا يقضي طول يومه في الحقل ثم يعود بعد صلاة المغرب ليقضي ساعة أو ساعتين على الأكثر وينام حتى يستيقظ فجرًا، وهكذا حياته اليومية، وهو ما يجعل من رؤيته مسألة صعبة، “بالتالي تكون صلاة العيد هي مكان الالتقاء الوحيد الذي يمكن أن أقابل فيه جاري رغم أن الذي بيني وبينه لا يساوي 5 أمتار” وفق حديثه لـ”نون بوست”.
ويكشف شريف أن الزيارات في العيد تراجعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وقام الإنترنت والهواتف بهذا الدور، ما زاد من حجم الفجوة بين الأسر والعائلات، وأضاف “هناك أشقاء – تفصلهم بلدان ليست بالبعيدة – لم يزورا بعضهم البعض منذ أكثر من 3 أعوام، أعرفهم عن قرب، فقط الاتصال هاتفيًا هو وسيلة التواصل الوحيدة”، ومن هنا تأتي صلاة العيد لتكون ساحة التقاء لمن لم يلتقوا طيلة العام.
الرأي ذاته أكده “حسين” (65 عامًا) الذي يقول إنه يحرص دومًا على صلاة العيد في ساحات العراء لرؤية أصدقاء طفولته وبعض جيرانه وأحبابه ممن لا يستطيع مقابلتهم طيلة العام بسبب انشغالهم بهموم وضغوط الحياة، مؤكدًا أن فرحة العيد الأساسية هي الصلاة، إن لم تكن هي الفرحة الوحيدة والطقس المتبقي من طقوس الماضي الجميل.
وهكذا تظل صلاة العيد، بعيدًا عن جانبها الشرعي، المتنفس الاجتماعي الأبرز للمسلمين في تلك المناسبات، والواجهة الأكثر حضورًا على جدران المجتمع المسلم، والطقس الأبقى بين طقوس العيد المندثرة تحت ركام الحياة العصرية، واللوحة الأروع فنيًا لتلاحم المسلمين وتكاتفهم حتى إن غابت ملامحها لاحقًا.