استقبل النظام التونسي، صباح أمس الإثنين، وزير خارجية نظام بشار الأسد، فيصل المقداد، النظام المتهم بارتكاب فظاعات وجرائم ضد الإنسانية بحق ملايين السوريين، من قتل وتشريد وتعذيب وغيرها من الانتهاكات، مع ذلك استقبل وزير خارجيته في تونس – مهد الثورات العربية – وجرى الاحتفاء بالزيارة.
في مساء نفس اليوم، أُلقيَ القبض على زعيم الحزب السياسي الأكبر في تونس ورئيس البرلمان الثاني المنتخب بعد ثورة الحرية والكرامة، الشيخ راشد الغنوشي، كأن تونس أصبحت تعيش زمن التناقضات في عهد الرئيس قيس سعيد الذي انقلب على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية منذ نحو سنتين.
تفاصيل اعتقال الغنوشي
اعتقل الغنوشي وقت الإفطار، ليلة 27 رمضان، بطريقة استعراضية وفق تصريح قادة الحركة الأبرز في تونس، وبالتزامن مع اعتقاله، أقدمت فرقة أمنية على مداهمة منزله وتفتيشه وأخلته من كل الموجودين فيه.
مباشرة إثر اعتقاله، نظمت حركة النهضة مؤتمرًا صحفيًا طارئًا، حمّلت فيه السلطة مسؤولية سلامة الغنوشي، مبينة أنها تندد بطريقة الاعتقال، وأوضحت الحركة أن اعتقال الغنوشي لن يفيد التونسيين في شيء، مضيفة “الاعتقال لم يطل الغنوشي فقط، بل بعض مرافقيه كذلك”.
وقال القيادي في النهضة، منذر الونيسي: “الاعتقال تم بطريقة استعراضية، وتم تفتيش منزل الغنوشي، واقتياده إلى جهة غير معلومة، إذ توجه محاموه إلى ثكنة العوينة في البداية وتم نفي وجوده هناك ثم تأكد بعد ساعات أنه هناك”، مؤكدًا “تم منع المحامين من حضور التحقيق”.
في ليلة السابع والعشرين من رمضان وقبيل الإفطار تتم مداهمة بيت الأستاذ راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب واقتياده لثكنة العوينة، هذا دليل على التخبط السياسي والانحطاط الأخلاقي الذين يسمان هذا الانقلاب الغادر.الغنوشي قاوم دكتاتورية بورقيبة وبن علي وستكون هذه الحلقة الأخيرة بحول الله. pic.twitter.com/qpwZpMqWwX
— Dr Rafik Abdessalem (@RafikAbdessalem) April 17, 2023
أوضح الونيسي أن “مثل هذه الممارسات حصلت مع نائب رئيس الحركة نور الدين البحيري ورئيس الحكومة الأسبق علي العريض، وهي تتكرر في تجاوز واضح للقانون”، مشددًا على أن “النهضة تحمل سلطة الأمر الواقع أي مساس بسلامته الجسدية والنفسية، والتعدي على حق التونسيين في ممارسة السياسة”.
وأضاف الونيسي خلال المؤتمر الصحفي “النهضة تتحمل مظلمة تاريخية ثانية من الإقصاء، وكأن البعض لا يريد وجودها في تونس”، مؤكدًا في الوقت ذاته أن “الديمقراطية حق مشروع ومطلب جل الشعوب”.
بعد اعتقال الغنوشي، داهمت قوات أمنية مقر حركة النهضة المركزي بالعاصمة تونس، وقامت بإخلائه من أجل التفتيش، ما اعتبره المستشار السياسي للغنوشي، رياض الشعيبي، “انتهاكًا واضحًا لحرية العمل الحزبي والتنظيم”.
استهداف المعارضة وتخويفها
لا يمكن فصل اعتقال الغنوشي – رئيس البرلمان السابق – بهذه الطريقة، عن خطط قيس سعيد لاستهداف المعارضة وإنهاكها والحد من فعاليتها، وذلك لتعبيد الطريق أمامه لفرض برنامجه الأحادي القائم على حكم الفرد الواحد.
في تعقيبه على ما حصل للغنوشي، قال أحمد نجيب الشابي رئيس جبهة الخلاص الوطني: “ما يجري الآن مرحلة جديدة من الأزمة السياسية من خلال توقيف رئيس أهم حزب سياسي في البلاد الذي تمسك بالعمل السلمي السياسي”.
وأضاف الشابي – الذي يقود جبهة معارضة لسعيد تضم أحزابًا سياسيةً على رأسها النهضة – “هذا يؤكد أنه لا يوجد منطق سياسي في البلاد وأن هناك انتقامًا عشوائيًا من المعارضين السياسيين من السلطة الحاليّة”.
لا يوجد أسفل من الشعبوي الوضيع #قيس_سعيد في رمضان يعتقل من هو في مقام الشيخ راشد الغنوشي وعمره. pic.twitter.com/m5iOfCVAtR
— ياسر أبوهلالة (@abuhilalah) April 17, 2023
تشن السلطات التونسية، منذ11 فبراير/شباط الماضي حملة توقيفات شملت سياسيين وإعلاميين وناشطين وقضاة ورجال أعمال، من بينهم أعضاء في جبهة الخلاص الوطني المعارضة، ولم ينتظر سعيد المسار القضائي، إذ سارع باتهام الموقوفين بـ”التآمر على الدولة”، واصفًا إياهم بالـ”خونة والعملاء”.
يقول قيادات جبهة الخلاص إنه من المستبعد أن يتجه المسار القضائي عكس ما يريده قيس سعيد، خاصة أنه سبق وأن قال: “من يتجرّأ على تبرئتهم (أي الموقوفين)، فهو شريك لهم”، وهو بذلك يضغط على القضاة ويروعهم.
يأتي اعتقال المعارضين، ضمن تمشٍ كامل اختاره قيس سعيد لإحكام قبضته على السلطة في تونس، بدأ بحل البرلمان والحكومة والهيئات الدستورية، وتعليق العمل بالدستور وصياغة آخر مكانه، وتنظيم انتخابات شكلية وتعيين أصدقائه والمقربين منه في مؤسسات الدولة وإقصاء المناوئين له.
التنكيل بالقامات
تعقيبًا على اعتقال الغنوشي، كتب رئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي “من بين كل القواعد التي عبث بها المنقلب قاعدة حفظ المقامات، هي تحفظ للصراع السياسي الحد الأدنى من التحضر مانعة الانتقال من العنف الرمزي المتمثل في الصراع بالكلمات والأفكار إلى العنف بكل تبعاته”.
لم يحفظ قيس سعيد قامات البلاد، واعتقل أبرز سياسي في البلاد وزعيم أكبر حزب ورئيس البرلمان السابق، ويرجع سبب ذلك إلى رغبته في التشفي من قامات البلاد بعد أن تنكر لأبرز الأعياد والمناسبات الوطنية.
نظرة بسيطة إلى سيرة الغنوشي وسعيد، نرى الفرق بينهما، إذ يحسب لزعيم النهضة راشد الغنوشي دوره الكبير في إنجاح التجربة الديمقراطية في تونس، قبل أن ينقلب عليها قيس سعيد ويضع حدًا لها في يوليو/تموز 2021.
حياة الغنوشي السياسية لم تكن وليدة اليوم، فمنذ ستينيات القرن الماضي، برز اسم الغنوشي كمعارض للرئيس الحبيب بورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي، رغبةً منه في إرساء نظام ديمقراطي في بلاده بعيدًا عن الأنظمة الاستبدادية.
من بين كل القواعد التي عبث بها المنقلب في #تونس قاعدة حفظ المقامات، فهي تحفظ للصراع السياسي الحد الأدنى من التحضر مانعة الانتقال من العنف الرمزي المتمثل في الصراع بالكلمات والأفكار إلى العنف بكل تبعاته
عودوا إلى رشدكم فلو دامت لغيركم لما أتتكم pic.twitter.com/64zXsk2jx3
— منصف المرزوقي – Moncef Marzouki (@MMarzouki01) April 17, 2023
بعد الثورة، لمع نجم الغنوشي أكثر، وما فتئ اسمه يحقق صعودًا متواصلًا، لدوره الكبير في الحياة السياسية الداخلية لبلاده ومشاركته وحزبه القوية في صنع القرار السياسي وفي الحكم، فحركة النهضة تعتبر الحزب الأول في البلاد وزعيمها يمثل صمام أمان للتوافق الوطني.
كما عمل على حشد التضامن الدولي مع تجربة بلاده الديمقراطية، بعد أن ساهم وحركته في تحقيق الاستقرار السياسي التونسي ونجاح تجربة الانتقال الديمقراطي التي شهدت العديد من الأزمات خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
تدعمت مكانة الغنوشي خارجيًا أيضًا، وذلك من خلال تنامي حضوره “الدبلوماسي” في الخارج، حيث يتم استقباله رسميًا من زعماء الدول ورؤسائها وكبار المسؤولين الرسميين في العالم وصناع القرار الدولي، كما تم منحه العديد من الجوائز العالمية، منها جائزة غاندي لنشر قيم السلام.
تبرئة الغنوشي من تهم الإرهاب التي تلاحقه
عودة إلى عملية اعتقال راشد الغنوشي، نرى أنها تمت بناءً على صدور مذكرة توقيف من النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب على خلفية إدلاء الغنوشي بـ”تصريحات تحريضية” وفق الأمن التونسي.
في هذه التصريحات قال الغنوشي: “هناك إعاقة فكرية وإيديولوجية في تونس تؤسس للحرب الأهلية”، وأضاف “لا تصور لتونس بدون طرف أو ذاك، تونس بدون نهضة، تونس بدون إسلام سياسي، تونس بدون يسار، أو أي مكوّن، هي مشروع لحرب أهلية، هذا إجرام في الحقيقة”.
يعني ذلك أن الغنوشي لم يُعتقل على قضية إرهابية أو مالية، كما يريد خصومه وكما عملوا لسنوات عدة، فقد تمت ملاحقته والتحقيق معه في العديد من القضايا المالية والمتعلقة بالإرهاب، لكنه بقي حرًا خارج أسوار السجن لعدم وجود أي دليل يدينه، ما جعل السلطة تترصد أي فعل أو كلمة يقولها للانقضاض عليه.
الفيديو الذي سُجن بسببه الشيخ راشد الغنوشي اليوم pic.twitter.com/sviz828ovu
— طارق الخليفي (@Tarek_Alkhelifi) April 17, 2023
لسنوات عديدة، اتهم الغنوشي بتهم عديدة، تصل عقوبة بعضها إلى الإعدام، فنُصبت المحاكم في البلاتوهات التليفزيونية والإذاعية وتمت المحاكمة وأُصدرت الأحكام، دون أن يُعطى للغنوشي حق الدفاع عن نفسه، أو لنقل فشل في “افتكاك” حقه، فالأسهم موجهة إليه من كل صوب.
فشل الغنوشي، لكن جاء من يؤدي المهمة على أحسن وجه دون أن تكون له نية ذلك، بالعكس فقد كانت نيته توريطه وضرب صورته، نعني هنا الرئيس قيس سعيد الذي نجح فيما فشل فيه الغنوشي وقادة حزبه من حيث لا يدري، فقد أكد براءته من جميع الاتهامات التي تلاحقه منذ قرابة العقد.
كيلت للغنوشي تهم كثيرة، منها اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، واستغلال وجوده في السلطة طيلة السنوات التي أعقبت الثورة للتغطية على عمليات الاغتيالات السياسية، كما يتهم بتأسيس “جهاز سري” يجمع بين جناحين مدني وآخر عسكري، فضلًا عن تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إلى جانب اتهامات بتسفير مئات التونسيين نحو بؤر التوتر خاصة سوريا.
اعتقال الشيخ راشد الغنوشي وهو سياسي مخضرم ومفكر كبير ورئيس البرلمان التونسي السابق في ليلة مباركة هي خير من ألف شهر هو عمل لا يليق بسلطة تمثل شعب حر وعظيم مثل الشعب التونسي الشقيق .
نتمنى من السلطة التونسية الإفراج عن الغنوشي #اعتقال_الغنوشي pic.twitter.com/JrVNlHlqko
— Yasin Aktay ?? (@yaktay) April 17, 2023
اتهامات دون دليل، مع ذلك واجه الغنوشي مشكلة في التصدي لها أمام الراي العام بسبب غزارتها والتحشيد لها، ما أثر على صورته في تونس.
حاول قيس سعيد السير على نفس المنوال، وكرّر نفس الاتهامات وبحث في الملفات والوثائق عله يجد ما يُدين الغنوشي، لكن لم يجد، فلم تصدر أي أحكام في حقه رغم التهم الكثيرة والمتنوعة، شاهدنا فقط كتهم كيدية بهدف التنكيل بعد تأكد النظام من البراءة.
رغم يقينه ببراءة راشد الغنوشي من التهم الموجهة إليه، يحرص قيس سعيد على التنكيل بالرجل البالغ من العمر 82 سنة، كلما سنحت له الفرصة، رغبةً منه في إذلاله وصناعة مجد شخصي افتقده طيلة العقود الماضية.