ترجمة وتحرير: نون بوست
عذّب حراس سجن سوري عاملة إغاثة أمريكية بوحشية لعدة أشهر وهدّدوا بقتل أحبائها، لتستجيب في النهاية لمطالبهم وتعترف بجرائم لم ترتكبها، وتلى ذلك محاكمة لم تستغرق أكثر من بضع دقائق صدر فيها حكم بإعدامها في أواخر سنة 2016.
التزام الحكومة الأمريكية الصمت بشأن موت عاملة الإغاثة ليلى شويكاني (26 سنة) أثار غضب ناشطي حقوق الإنسان والسياسيين. لم تحظ قضيتها بنفس مستوى الاهتمام الذي حظيت به قضايا مواطنين أمريكيين آخرين أسِروا في الخارج على غرار الصحفي المستقل أوستن تايس الذي اختُطِف خارج دمشق في سنة 2012 أثناء تغطية الحرب في سوريا، وجاسون رضائيان مراسل صحيفة واشنطن بوست الذي تحدث عن تعرضه لسوء المعاملة النفسية والحرمان من النوم بعد إطلاق سراحه من سجن إيراني في سنة 2016، وبريتني غرينر نجمة كرة السلة المحترفة التي سُجنت لمدة تقارب السنة في روسيا.
لكن وفقًا لأربعة أشخاص مطلعين على التحقيق، كانت وزارة العدل طيلة خمس سنوات تحقق بهدوء في قضية مقتل ليلى شويكاني بقيادة المدعي العام الأمريكي في شيكاغو. سافر عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي إلى أوروبا والشرق الأوسط لجمع الأدلة واستجواب الشهود المحتملين، بما في ذلك الرجل الذي قد يكون دفن ليلى شويكاني. واستدعت النيابة العامة الفدرالية هيئة المحلفين التي كانت تفحص الأدلة.
يهدف التحقيق، الذي لم يتم الإبلاغ عنه سابقًا، إلى محاسبة كبار المسؤولين السوريين الذين يُعتبرون المهندسين الرئيسيين لنظام اعتقال وتعذيب شرس ازدهر في عهد بشار الأسد: كان جميل الحسن رئيس مديرية المخابرات الجوية عندما اختفت ليلى شويكاني، بينما كان علي مملوك رئيس جهاز المخابرات في مكتب الأمن القومي السوري.
ومن خلال لائحة الاتهام الفيدرالية الموجهة ضد هاذين المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب تكون هذه المرة الأولى التي توجّه فيها الولايات المتحدة اتهامات جنائية لكبار المسؤولين السوريين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان التي لطالما نفاها الأسد ويستخدمها لإسكات المعارضة. ومع أنه من غير المرجح أن يلقى القبض على هاذين المسؤولين، إلا أن الإدانة ستشير إلى أن الولايات المتحدة تهدف إلى تحميل الحكومة السورية المسؤولية، ولقد فرضت الولايات المتحدة بالفعل عقوبات على الأسد ودائرته المقربة، بما في ذلك مملوك والحسن، بسبب انتهاكات تشمل ممارسة العنف ضد المدنيين.
كانت الجهود الدولية لتقديم كبار المسؤولين في سوريا إلى العدالة لارتكابهم جرائم الحرب على مدى أكثر من عقد من الصراع محدودة بشكل لافت، ولم يحاكم سوى عدد قليل من الجناة ما يزيد المخاطر عن اي تهم محتملة ويختبر العلاقات الدبلوماسية. قال السفير السابق جيمس إف جيفري، المبعوث الخاص لإدارة ترامب بشأن سوريا، إن توجيه لائحة اتهام محتملة من شأنه أن “يضفي طابعًا شخصيًا على شرّ هذا النظام ويوضح أنه لا يمكن التعامل مع الأسد”.
رغم الاعتراف الواسع بأن قوات الأمن في عهد الأسد سعت إلى القضاء بشكل منهجي على كل من يعارض حكمه الاستبدادي، إلا أنه يقترب من العودة تدريجيًا إلى المشهد العالمي. وتحاول بعض الدول العربية بقيادة الإمارات العربية المتحدة إعادة سوريا إلى المجتمع الدولي. وقد اتهم النقاد الرئيس بايدن بالتراجع ضمنيًا عن الموقف الذي اتخذته الإدارات السابقة بأنه لا ينبغي أن تتعامل أي دولة مع سوريا على الإطلاق، وهو ما نفاه البيت الأبيض. وبعد الزلزال القوي الذي دمّر سوريا في شباط/ فبراير الماضي، عملت الدول الغربية بشكل ودّي مع حكومة الأسد لتقديم المساعدات.
قال معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لفريق عمل منظمة الطوارئ السورية، إن لائحة الاتهام تتضمن رسالة لا يمكن إنكارها: “لا ينبغي لأحد تطبيع العلاقات مع نظام قتل ما يتراوح بين 500 ألف إلى مليون شخص، بمن فيهم مواطنون أمريكيون وأوروبيون، ويستمر في القيام بذلك”.
تعليقًا على هذا المقال أو ما إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد تواصل معه، أفاد محمد شويكاني، والد ليلى شويكاني: “لا أريد شيئا من قصتكم أو مكتب التحقيقات الفيدرالي”. فضلا عن ذلك، رفضت المتحدثات باسم وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي التعليق على هذه المسألة.
سافرت ليلى شويكاني في طفولتها إلى سوريا لرؤية عائلتها، وحصلت في سنة 2012 على درجة البكالوريوس في علوم الحاسوب من الجامعة العربية الدولية، وذلك وفقًا لحسابها على “لينكدإن”. وبعد عملها مهندسة برمجيات لبضع سنوات، انتقلت في سنة 2015 من ضواحي شيكاغو إلى دمشق للانضمام إلى شبكة شعبية من عمال الإغاثة الإنسانية. لكن بما أن الأسد يسيطر بإحكام على جميع جهود المساعدة الرسمية في بلاده، فقد تعامل مع الجهود التي يديرها المواطنون على أنها تهديد، ووجه لهم اتهامات بالإرهاب.
بحلول الوقت الذي اعتقلت فيه السلطات ليلى شويكاني في 19 شباط/ فبراير 2016 مع والدها وخطيبها، اللذين كانا أيضًا في البلاد، كان كل عضو تقريبًا من مجموعة الإغاثة التي تنتمي إليها قد تم احتجازه في سوريا. قضت ما يقارب سنة في سجون في ضواحي دمشق حيث تنتشر الظروف الصحية السيئة والمرض والتعذيب، وذلك في مركز احتجاز في مطار المزة، وسجن عدرا المدني وسجن صيدنايا العسكري، حيث يعتقد الشهود أنه تم محاكمتها وإعدامها.
عذّب حراس السجن ليلى شويكاني وتوعّدوا بقتل والدها وخطيبها، اللذين كانا معتقلين لبضعة أيام فقط، وذلك حسب ما أفاد به شهود لمحققي وزارة العدل لاحقاً. وفي نهاية المطاف، اعترفت ليلى شويكاني تحت التعذيب بارتكاب جرائم ضد الدولة، بما في ذلك الإرهاب. ويُعتقد أن بعض أسوأ ممارسات التعذيب التي تعرضت لها ليلى كانت في مركز احتجاز المزة الذي كان يسيطر عليه الحسن في ذلك الوقت، حيث وصف أحد المعتقلين السابقين الظروف القاسية هناك بعد اعتقاله في سنة 2012 كجزء من حملة الحكومة القمعية على حمص، التي كانت يومًا ما قلب المقاومة ضد الأسد.
قال محمد، الذي طلب عدم الكشف عن هويته إلا باسمه الأول خوفًا من الانتقام: “تكون معصوب العينين ومقيّد اليدين وعاريًا وفي زنزانة مكتظة لدرجة أنك تنام واقفًا. لا تعرف كم الساعة الآن، ولكنك تعلم أنك تنتظر التعذيب دائمًا”. عانى محمد من الجرب والقمل وتآكل الجلد. توفي بعض السجناء من الغرغرينا الناجمة عن التشويه والبتر، بينما مات آخرون من الجوع والاختناق.
لقد علّقه الحراس من معصميه، وبالكاد لامست قدماه الأرض، حيث كانوا يتناوبون عليه بالضرب وتركوه معلقًا لساعات ليستمع إلى صراخ الرجال والنساء والأطفال أثناء اعتداء الحراس عليهم. قال: “لقد اعترفت بأي شيء يريدونه”.
نُقلت ليلى شويكاني إلى سجن عدرا حيث أرسلت إدارة أوباما السفيرة التشيكية، إيفا فيليب، لمقابلتها في كانون الأول/ ديسمبر 2016 لأنها قطعت العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع سوريا. وقد نقلت السفيرة إلى مسؤولين في واشنطن اقتناعها بأن ليلى شويكاني اعترفت تحت التعذيب، وذلك حسب ما ذكره مسؤولان سابقان.
لكن قبل أن تتدخل الحكومة الأمريكية، نُقلت ليلى شويكاني في أواخر كانون الأول/ ديسمبر إلى سجن صيدنايا العسكري، وأدينت بعد محاكمة ميدانية وجيزة. ويعتقد المحققون أنها أعدِمت شنقًا على الساعة 7:07 صباحًا من يوم 28 كانون الأول/ ديسمبر 2016، وذلك وفقًا لوثيقة حكومية حصلت عليها وكالة “زمان الوصل” الإخبارية السورية.
في جلسة استماع للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب بشأن سوريا في سنة 2018، كشف آدم كينزينجر، النائب الجمهوري عن ولاية إلينوي، عن وفاة ليلى شويكاني للجمهور. وقال كينزينجر: “إنها أول مواطنة أمريكية نعرف أن نظام الأسد قتلها”، مضيفًا: “أيا كان الرد الذي ستقرر الإدارة اتخاذه فإنه سيشكل كيفية تعامل النظام السوري وداعميه مع بقية المواطنين الأمريكيين”.
وفي جلسة استماع، أكّد السفير جيفري أن ليلى شويكاني توفيت “على أيدي الحكومة السورية”. بعد أربعة أشهر، أخبر الرئيس دونالد ترامب المشرعين الجمهوريين في اجتماع خاص بالبيت الأبيض أنه من غير المرجح أن يرد على جريمة القتل التي ارتكبتها الحكومة السورية، وذلك وفقًا لشخصين مطلعين على المحادثة. وعلى الرغم من أن مجموعات حقوق الإنسان لديها تفاصيل تدعم مزاعم التعذيب والقتل، قال ترامب إنه لا يحبذ التعامل مع هذه المسألة بسبب مزاعم الأسد بشأن عمال الإغاثة والتطرف.
لكن قال شخصان من مكتب التحقيقات الفيدرالي إنهما أبلغا كينزينجر بشكل خاص أن المكتب لن يتراجع عن التحقيق في وفاتها. وأعرب مسؤولون أمريكيون سابقون وحاليون يشاركون في التدقيق في أنشطة ليلى شويكاني عن شكوكهم بشأن اتهامات سوريا المتعلقة بالإرهاب.
بينما جمع المحققون معلومات وفيرة توضح وجود ليلى شويكاني في السجون وشهادات حول معاملتها الوحشية، كان التحدي الأكبر الربط المباشر بين كبار مسؤولي المخابرات السورية وتعذيبها ووفاتها، لكنهم حققوا نجاحات في هذا الأمر إلى حد كبير بمساعدة الناشطين السوريين والضحايا والمنظمات غير الحكومية التي جمعت لسنوات أدلة على أنشطة سوريا.
شهد معتقل واحد على الأقل برؤية الحسن في سجن المزة بينما كانت ليلى شويكاني هناك. وتم توقيع وختم الأوراق الخاصة بالحفار الذي أُذن له بالتخلص من الجثث في سجون سوريا من قبل مملوك. وفي مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز”، قال إن الحسن هو من أمر بمباشرة عمله. وفي كل ليلة تقريبًا، كان ضباط المخابرات يتصلون به عبر جهاز اتصالات عسكري ليقابل شاحنات الجرارات التي كانت تنقل الجثث إلى مقابر جماعية: “في بعض الأحيان كان من المستحيل فتح الشاحنة بسبب ارتفاع الضغط داخلها نتيجة تحلل الجثث”.
ألقت المقطورات الجثث في خنادق واسعة، وحسب حفار القبور “كانت بالمئات وبدا بعضها على هيئة هيكل عظمي نتيجة الجوع، بينما انفجرت أحشاء البعض الآخر. كنت أرى نهرًا من الأشلاء”. وأضاف: “كان يجب علي أنا وفريقي إدخال الجثث التي كانت تعلق على الحافة في الحفرة”. لقد بقيت الرائحة في أنفه وفمه لعدة أيام.
لكن الجثث من سجن صيدنايا كانت مختلفة، إذ كانت تصل في السيارات وعدد بضع عشرات في كل مرة. قال حفار القبور: “كانت جثثهم لا تزال دافئة، حيث تم إعدامهم للتو. لطالما رأيت علامة حبل المشنقة على رقبتهم وكانت أيديهم وأرجلهم مقيدة، وكانوا دائمًا عراةً”.
قضى المدعون العامون في ألمانيا وفرنسا سنوات في العمل على قضايا جنائية ضد مساعدي الأسد، مما يبرز بعض الصعوبات في السعي لتحقيق العدالة للجرائم المرتكبة في دول مثل سوريا.
في كانون الثاني/ يناير 2022، أصدرت محكمة ألمانية حكمًا تاريخيًا بالسجن مدى الحياة ضد العقيد السوري أنور رسلان بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك تعذيب أكثر من 4000 سجين سوري. وفي سنة 2018، أصدر المدعون الألمان مذكرة توقيف بحق الحسن، لكنهم لم يلقوا القبض عليه بعد. وفي آذار/ مارس، وجّه المدعون العامون في فرنسا لائحة اتهام وأصدروا مذكرات توقيف بحق مملوك والحسن تتعلق بقتل رجلين يحملان الجنسية الفرنسية والسورية.
إذا كانت وزارة العدل ستوجه الاتهام إلى الحسن ومملوك، فمن غير المرجح أن يدخل هذان الرجلان دولة ترغب في تسليمهما إلى الولايات المتحدة. لكن محامي حقوق الإنسان يقولون إن الملاحقة القضائية ستظل ذات قيمة وستكشف المزيد عن الفظائع التي لا تزال تُرتكب في سوريا. وحسب كليمانس بيكارت، محامي الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان الذي مثل عائلة الضحيتين في لائحة الاتهام الفرنسية الأخيرة: “الأسد لا يزال في السلطة. والمحاكمات في الوقت الحالي الطريقة الوحيدة للضحايا للتعبير عن سعيهم لتحقيق العدالة”.
المصدر: نيويورك تايمز