ترجمة وتحرير: نون بوست
أصبحت مصر على مدى السنوات الثلاث الماضية وجهةً للاجئين السوريين على المستوى الإقليمي، مع تزايد الصعوبات التي تعترض طريقهم للوصول إلى دول الجوار أو البقاء فيها. فئة معينة من السوريين المقيمين في مصر تعرف تفسير هذه الجاذبية، لكن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد يمكن أن تغيّر الكثير من المعطيات.
رحّبت مصر، التي شهدت منذ القرن التاسع عشر وفي الخمسينيات من القرن الماضي عدة موجات من هجرة السوريين، بالعديد من اللاجئين السوريين منذ اندلاع الصراع في بلادهم. ووفقًا للأرقام الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، ارتفع عدد اللاجئين السوريين من 13 ألفًا في كانون الثاني/ يناير 2012 إلى 123 ألفًا في أيلول/ سبتمبر 2013 وتجاوز عددهم 145 ألفًا في كانون الأول/ديسمبر 2022.
أضفى هذا الصراع “الطابع الإقليمي على القضية السورية” نظرًا لأن حركة الهجرة تركزت في الشرق الأوسط بين لبنان وتركيا والأردن ومصر. وتتطور هذه الحركة مع كل تطوّر تشهده الأوضاع السياسية والاقتصادية للبلدان المضيفة، وما يصاحبها من تغيّر المواقف تجاه اللاجئين السوريين وهي من العوامل التي تؤثرعلى استراتيجيات الهجرة لهذه البلدان.
والآن، لم تعد الجالية المغتربة السورية في المنفى تركز على دول الجوار بعد أن أصبح من الصعب عليهم العثور على ملاذ في لبنان أو تركيا أو الأردن، وفي المقابل باتت مصر تحتل مكانة متزايدة الأهمية في “الطابع الإقليمي للصراع السوري”.
أُجبروا على الهجرة وترك وظائفهم
أوضحت امرأة قابلتُها في حي 6 أكتوبر، إحدى ضواحي القاهرة التي رحبت بالعديد من السوريين، أنها كانت تعيش في ظروف جيدة للغاية قبل الحرب وسافرت إلى جميع أنحاء العالم مع زوجها الذي كان من أحد رجال الأعمال المهمين. منذ مغادرتهما سوريا في سنة 2012، عانت عائلتهما تدهورا اجتماعيا واقتصاديا.
ولشرح الوضع المزري الذي آلت إليه حياتهما، روت هذه المرأة كيف وجدت نفسها ذات يوم غير قادرة على ركوب وسائل النقل العام بسبب افتقارها للمال، مضيفةً: “أعرف أشخاصًا باعوا منازلهم مقابل 5 آلاف و10 آلاف دولار في المناطق الزراعية المحيطة [بدمشق] حتى يتمكنوا من الهجرة مع عائلاتهم إلى مصر. بمجرد دفع تكاليف التأشيرة للزوج والزوجة والأطفال، يجد المالك السابق نفسه مع هذه الخمسة آلاف دولار فقط في جيبه ليُجابه متطلبات الحياة خلال الأشهر الأولى.
وعندما سؤالها عن سبب اختيار لمصر كوجهة، أجابت: “أين يمكن أن نذهب؟ هل هناك دولة أخرى تقبل السوريين؟ لقد أغلق الأردن حدوده وربما تكون قد شاهدت المظاهرات الأخيرة.. ولم تعد تركيا تقبلنا، وللسفر إلى لبنان تحتاج إلى الحصول على موعد من السفارة. كما أغلق السودان حدوده أمام السوريين منذ فترة. حتى السوريون الذين اشتروا الجنسية السودانية اضطروا للتخلي عنها. تصدر الإمارات العربية المتحدة التأشيرات، ولكن ماذا يمكنك أن تفعل هناك إذا لم يكن لديك عمل؟ وبذلك تبقى مصر أو ربما ليبيا؟”.
مرحلة خطيرة في السودان
بدأت الموجة الأولى من الهجرة إلى مصر بعد اندلاع الصراع في سوريا قبل تغيير الحكومة في تموز/ يوليو 2013، وهو ما تعكسه أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
في عهد الرئيس محمد مرسي، لم يكن السوريون الذين يصلون بالطائرة أو القارب بحاجة إلى تأشيرة. لكن بعد تغيير النظام في سنة 2013، أصبحت التأشيرة إلزامية بسبب بعض الاعتبارات الأمنية، وكان من الضروري دفع ما يقارب 1500 دولار عن طريق الجمع بين التأشيرة وتذكرة الطائرة. كان لهذه السياسة تأثير على تنقل السوريين إلى مصر: فالراغبون في المغادرة، فضلوا شق الطريق عبر السودان الذي لم يكن يطلب منهم في ذلك الوقت الحصول على تأشيرة. ثم سلكوا الطرق المؤدية إلى مصر التي سلكها قبلهم المنفيون السوريون الآخرون الذين كانوا يغادرون السودان بعد محاولة تسوية فاشلة.
شرح رجل كان يشغل إحدى المهن الحرفية أنه قرر الذهاب إلى مصر في سنة 2017 بعد وصوله إلى السودان في سنة 2016، لأنه لم يستطع الاندماج في النسيج الاقتصادي المحلي للبلاد. تسلط هذه القصص الضوء على الظروف الصعبة التي يواجهها السوريون لعبور الحدود بين السودان ومصر، حيث تدعي إحدى الأمهات أنها تعرضت لاعتداء جنسي أمام ابنها. وتروي لاجئة أخرى كيف كادت أن تُلقى من السيارة وهي تشقّ الصحراء بسرعة 240 كيلومترا في الساعة للهروب من حرس الحدود الذين كانوا يطاردونها.
يمكن للسوريين التقدم بطلب للحصول على أنواع مختلفة من تصاريح الإقامة في مصر، سواء كلاجئين من خلال مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أو لمتابعة دورة تعليمية أو للاستثمار في الأعمال التجارية
تروي هذه القصص المراحل المختلفة لرحلة تستغرق يومين أو ثلاثة، يمكن أن يختلف مسارها حسب المهربين واللحظة. وصفت امرأة أخرى سيرها تسع ساعات تليها رحلة بالحافلة في منتصف الليل ثم ركوب سيارة أجرة والمشي 12 ساعة في وسط الصحراء دون ماء أو طعام. وقد شاهد أحد المهاجرين جثثا على الطريق، ولم يشعروا بالأمان قبل أن يركبوا القطار الذي سينقلهم إلى القاهرة التي كانت وجهتهم النهائية وتمكنوا من العثور على الأصدقاء والأقارب الذين كانوا ينتظرونهم في العاصمة المصرية.
أصبح هذا الطريق عبر السودان أقل جاذبية في ظل التغييرات التي طرأت على سياسة الهجرة بعد الانقلاب العسكري في كانون الأول/ ديسمبر 2020. أُجبر السوريون على دفع تأشيرة دخول ناهيك عن مدفوعات الرشاوى والخصومات الأخرى غير المشروعة التي ارتفعت لتصبح مساوية لسعر رحلة جوية مباشرة إلى القاهرة وسعر تأشيرة الدخول إلى مصر.
أوضح أحد الأشخاص الذين أجريت معه مقابلة: تبلغ تكلفة تأشيرة الدخول للسودان 500 دولار]، وتتراوح تكلفة تذكرة الطائرة بين 200 و300 دولار، يُضاف إليها أجر المهرب الذي يرتفع إلى 500 دولار، ناهيك عن المخاطر المرتبطة بعبور الحدود. لكن هل يستحق الأمر كل هذا العناء بينما يمكن للسوريين دفع 1500 دولار مباشرة للوصول إلى مصر بأمان؟
موجة جديدة من الهجرة
تشير العديد من المقابلات إلى أن تدهور الوضع أكثر في سوريا دفع الناس إلى مغادرة البلاد بين سنتي 2019 و2023 وسط “تدهور قطاع الخدمات” والصعوبات التي تواجههم في تلبية الاحتياجات الأساسية (الحصول على الكهرباء والغاز والمياه).
يوضح أحد الأشخاص الذي أُجريت معه مقابلة، والذي يعيش في إحدى ضواحي القاهرة من 6 أكتوبر، أن الأصدقاء وأفراد الأسرة يحاولون الوصول إلى مصر هربًا من سوء الظروف المعيشية في سوريا: “يأتي الناس إلى هنا لأنهم يتضورون جوعا. أخبرتني أختي، وهي معلمة، أنها تعمل يومين فقط في الأسبوع وأن الحكومة تمنحهم إجازة بقية الأسبوع بسبب نقص الوقود. اضطر بعض الناس إلى بيع منازلهم للقدوم إلى مصر. هذه هي النهاية: لقد باعوا ذهبهم بالفعل منذ فترة ولم يبق لهم شيء آخر”.
بالنسبة لامرأة سورية أخرى فإن سبب مغادرتها سوريا في سنة 2019 كان حالتها الجسدية والنفسية وعدم قدرتها على الحصول على الرعاية المناسبة هناك. قرّرت ترك زوجها والانضمام إلى والدتها وشقيقها في مصر بسبب عدم توفر نظام رعاية وخدمات صحية عالية الجودة في سوريا.
شبكات التضامن المحلية
يمكن للسوريين التقدم بطلب للحصول على أنواع مختلفة من تصاريح الإقامة في مصر، سواء كلاجئين من خلال مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أو لمتابعة دورة تعليمية أو للاستثمار في الأعمال التجارية. تم تنظيم الرحلة بشكل أساسي بفضل دعم الشبكات الموجودة مسبقا في البلاد: أفراد العائلة أو الأصدقاء أو العلاقات المهنية. وتكشف الأبحاث الحديثة أن السوريين الذين أسسوا مشروعا في القاهرة جلبوا موظفيهم مباشرة من سوريا منذ سنة 2011 إلى سنة 2022 للعمل في شركتهم أو في ورش عملهم.
يبدو أيضا أن وصول الأشخاص كان مشجعا وميسرا بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. يذكر شاب سوري يعمل في سوق خان الخليلي في وسط القاهرة أنه وجد المعلومات اللازمة لوصوله إلى السودان على مجموعة فيسبوك. ثم حصل على رقم شخص ساعده في العثور على مهرب إلى مصر، في البداية من خلال جهات الاتصال على فيسبوك، واستمرت عبر تطبيق واتساب. سمحت له هذه الاتصالات بالتأقلم والتكيف خلال الأشهر الأولى التي قضاها في السودان.
قصص نجاح
باستثناء الصعوبات التي تواجهها سوريا هناك أسباب أخرى يمكن أن تمثل عوامل جذب لمهاجرين جدد. يُنظر إلى بعض مسارات رواد الأعمال السوريين الذين استقروا في مصر على أنها قصص نجاح. ويبدو أن المصريين لا يظهرون نفس العداء تجاه هذا المجتمع على عكس غيرهم من المجتمعات، وذلك وفقا للدراسات الأخيرة.
يولي السوريون اهتمامًا بمصر لأنهم يرون أنه يمكنهم المشاركة بنشاط في القطاع الخاص كرجال أعمال، بخلاف بعض الدول الأخرى في المنطقة مثل لبنان والأردن. ومع ذلك، نجدهم في العديد من القطاعات غير الرسمية تقريبا مثل قطاع الملابس الجاهزة، والنسيج، والمواد الغذائية أو في التجارة والخدمات، سواء كانت المطاعم، أو المتاجر، أو صالونات التجميل. ووفقا لدراسات مختلفة، استثمر السوريون ما بين 800 مليون دولار ومليار دولار في مصر منذ سنة 2011.
لاحظ المصريون والسوريون التغيير الذي طرأ على بعض القطاعات منذ سنة 2011، وخاصة في صناعة المواد الغذائية. وجاء هذا التغيير تدريجيا من خلال مطاعم سورية تبيع مثلا الشاورما، ومحلات تقدم منتجات غذائية سورية تقليدية. بفضل ثقافة الطهي المستوردة ظهر سوق جديد. وبالنظر إلى النجاح الذي حققه، أصبحت الشركات التجارية مهتمة بهذا السوق وبدأت تأمين احتياجاته، حتى تأسست شركات وصناعات غذائية جديدة تلبي هذا الطلب المحلي بشكل محدد. كانت التوقعات بهذا السوق مشجعة لدرجة أنه تم إنشاء سلسلة إنتاج كاملة. حتى لو لم تكن هذه الشركات مملوكة لسوريين بالضرورة، فإنها تعمل بشكل كبير بفضلهم، حيث يشاركون بنشاط في المهام المتعلقة بالإدارة والمبيعات، مما يضمن نقل مجموعة من المعرفة والخبرات.
واجه سوريون آخرون صعوبات في الاندماج حيث استقروا في أحياء بالقاهرة بعيدة عن المساحات التي تضم المجتمع السوري
قال أحد الذين تمت مقابلتهم: “لا يمكنك أن تطلب من مصري أن يبيع الجوز واللبنة (الزبادي) بنفس طريقة السوريين.. البيع بالنسبة للسوريين هو معرفة كاملة وثقافة المبيعات هذه جزء لا يتجزأ منا”. تسلط هذه الشهادة الضوء على كيفية تحويل رأس مال ثقافي معين إلى رأس مال بشري واقتصادي، على الأقل في السياق المصري. وإذا كانت منتجات الألبان الخاصة مثل اللبنة أو بعض التوابل المستخدمة بشكل خاص في النظام الغذائي السوري جديدة إلى حد ما في مصر، فهي ليست استثنائية في بلدان مثل الأردن أو لبنان التي لديها مطبخ متشابه جدا.
سهل استقرار اللاجئين السوريين في المساحات الحضرية الجديدة بالقاهرة اندماجهم، مثل المدن الكبرى المحيطة بالمدينة على غرار مدينة العبور وحي 6 أكتوبر والرحاب. تم استثمار هذه المساحات ماديا واجتماعيا واقتصاديا وأنشأوا فيها مجتمعات استقبال حقيقية. تعتقد امرأة سورية انتقلت إلى حي ستة أكتوبر في سنة 2012 أن الاستقرار في هذا الحي كان حاسما لاندماجها في البلاد، وعلى حد قولها: “هنا، يوجد مكان لنا”.
على العكس من ذلك، واجه سوريون آخرون صعوبات في الاندماج حيث استقروا في أحياء بالقاهرة بعيدة عن المساحات التي تضم المجتمع السوري. ومن جهته، أشار صانع حرف في خان الخليلي إلى أنه وجد صعوبة في بيع منتجاته المصنوعة من الصدف، على الرغم من تفرد تصاميمه واستخدام تقنيات غير معروفة في مصر حسب قوله.
مستقبل غير مؤكد
من المحتمل أن تولد الأوضاع المأساوية في سوريا وتركيا بعد زلازل شباط/ فبراير 2023 موجة جديدة من اللاجئين السوريين. ولكن على الرغم من أن مصر لا تزال من الملاذات القليلة المتاحة على المستوى الإقليمي، فإن الظروف الاقتصادية والاجتماعية فيها ستصبح أكثر ردعًا في ظل أزمة اقتصادية سببها انخفاض قيمة العملة بشكل حاد وارتفاع التضخم والأسعار بشكل يجعل بعث مشروع مستقبلي في البلاد أكثر تعقيدا. لذلك، يبدو أن بعض السوريين ينظرون إلى مصر بشكل متزايد كمحطة عبور بدلا من أنها بلد يمكن الاستقرار فيه بشكل دائم.
نتيجة لذلك، لم يعد السوريون المقيمون في مصر يشجعون مواطنيهم على الانضمام إليهم ما لم يكن لديهم مشروع ريادي قوي، لأن تكلفة المعيشة أصبحت مرتفعة جدا بالنسبة لموظف بسيط.
إلى جانب ذلك، يرغب الكثير من السوريين في الانتقال إلى بلدان تكون فيها الخدمات الصحية والتعليمية أكثر سهولة وأقل تكلفة. وهم يأملون الاستفادة من عملية إعادة التوطين من خلال المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، خاصة في الولايات المتحدة وأستراليا أو دول الاتحاد الأوروبي. لكن الإجراءات تستغرق وقتا طويلا ولديهم فرص نجاح ضئيلة. لذلك، يخطط بعضهم للوصول إلى أوروبا عن طريق عبور البحر الأبيض المتوسط، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر بسبب تشديد المراقبة على الحدود البحرية المصرية منذ سنة 2016.
الموقع: أوريون 21