يعتبر العيد، الفطر كان أو الأضحى، المناسبة الاجتماعية الأبرز التي تجمع حول مائدتها أفراد العائلة، بل هو الطاولة المستديرة التي يلتف حولها من لم يلتقوا طيلة العام كله، وتقوم فلسفة تلك المناسبة على بث روح الإخاء والتكاتف والتكافل وتقاسم البهجة والفرحة بين نسيج الأسرة الواحدة.
لكن الأمر قد يكون مختلفًا لدى المغتربين، ممن تركوا أوطانهم وأسرهم بحثًا عن لقمة العيش أو هربًا من واقع بائس، فهؤلاء ربما تزداد معاناتهم نسبيًا في العيد الذي بلا شك يحرك بداخلهم ذكريات الماضي وحنين اللقاءات الأسرية، لتتوق النفس إلى تلك الأيام الخوالي.
غير أن الاستسلام لتلك المشاعر قد يُفسد فرحة العيد على من هم ليسوا بأوطانهم، وهو الأمر الذي يرفضه الكثيرون منهم، لا سيما الموقنين بأن تلك المناسبات إنما خلقها الله للفرحة والبهجة وإضفاء السرور على المسلمين، أيًا كان الوضع، فهبوا للائتمار بأمر الله ورسوله، ساعين إلى تسول السعادة على أي مائدة كانت.. فكيف يقضي هؤلاء العيد؟
حنين وذكريات
“لا عيد دون الأهل”.. هكذا بدأ “هشام” (40 عامًا) حديثه عن عيد المغترب، مضيفًا “فرحة العيد الأساسية إنما تكون في التجمعات والشعور بالدفء والاحتواء بين أولادك وأسرتك وجيرانك وأقاربك، لكن حين تفقد كل ذلك فالشعور بتلك المناسبة من المؤكد أن يكون منقوصًا مهما توافرت سبل الإسعاد والبهجة”.
ويضيف الشاب المصري الذي يعمل بالسعودية، إنه يحرص منذ أكثر من 5 سنوات على استقدام زوجته وابنتيه للمملكة قبيل العيد كل عام، لكن الوضع مختلف هذه المرة، حيث رفض طلب دعوته، وهو ما أحزنه كثيرًا، إذ اعتاد حضورهم معه في العيدين، يستقدمهم في شهر رمضان ويقضون معه عيد الفطر وعيد الأضحى ثم يعودون إلى مصر مرة أخرى.
أما “خالد” (38 عامًا) الذي يعمل محاسبًا بالكويت، فدومًا ما يقع أسير الحنين للعائلة ولمتها السنوية في صلاة العيد ثم تناول إفطار العيد وطقوسه المختلفة من عيدية وتبادل زيارات وتنزه في المساء، فتلك الأجواء في حد ذاتها هي الفرحة، أما ما دونها فلا قيمة له، على حد قوله.
وأشار الشاب الأردني إلى أن تلك ضريبة الغربة، التي يجب أن يتعامل معها المغتربون بسكينة ورضا، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة ساهمت كثيرًا في تخفيف لوعة الفراق في هذا اليوم، مقارنة بما كانت عليه في السابق، إذ كان يجلس المغترب ولا سبيل أمامه للتواصل مع أهله، وكان الأمر غاية في الصعوبة، لافتًا إلى أنه لطالما عانى طويلًا حين كان صغيرًا ووالده مغترب في السعودية، لكن الوضع اليوم أفضل بكثير، وفق تعبيره.
كيف يقضي المغترب العيد؟
توجهنا بهذا السؤال إلى عدد من المغتربين، فجاءت الإجابات متباينة، كل حسب ظروفه الخاصة، فالمغترب الذي يقيم وحيدًا غير الذي يقيم مع أسرته أو أقارب له، والأعزب غير المتزوج، ومن هم في العواصم والمدن الرئيسية يختلفون كثيرًا عمن في المناطق النائية والبعيدة.
نصف عيد.. أشار البعض إلى أنهم يحرصون على قضاء صلاة العيد ابتداءً ثم يتواصل كل فرد مع أسرته وأهله في وطنه للاطمئنان عليهم وتهنئتهم بتلك المناسبة، وبعد ذلك يخرجون في جماعات للتنزه حيث يتناولون الإفطار والغداء في الخارج، ثم العودة للمنزل والمكوث فيه، البعض ينام والآخر يجلس أمام التلفاز أو على الهاتف.
عيد النوم.. آخرون أشاروا إلى أنهم يستغلون قدوم العيد لتعويض ما فاتهم من النوم طيلة أيام العام حيث ضغوط العمل من الصباح الباكر وحتى المساء، فهو فرصة جيدة لإراحة البدن، فيما ألمح بعضهم إلى أن النوم ما هو إلا وسيلة للهروب من مشاعر الغربة السلبية والحنين للأهل والوطن والأسرة.
عيد العمل.. هناك فريق من المغتربين، خاصة من العزاب غير المتزوجين ومن بعض مناطق صعيد مصر، يقضون العيد في العمل، وذلك لضرب عصفورين بحجر واحد كما جاء على لسان “شحاتة” المصري القادم من صعيد مصر (أسيوط)، الذي أشار إلى أنه لو استسلم لمشاعر الحنين للأهل في العيد سيقضي اليوم كله حزينًا، وعليه ليس هناك وسيلة للهروب إلا النوم أو العمل، والعمل أفضل فهو يعود بالنفع على صاحبه من جانب ويشغله عن مشاعر الفرحة الغائبة في هذا اليوم من جانب آخر، على حد قوله.
هكذا نبحث عن الفرحة
رغم هذا الوضع، وتلك المشاعر، فإن المغتربين يأبون إلا أن يتشبثوا بفرحة العيد، متجاوزين عقبات الزمان وبعد المكان، محاولين قدر الإمكان البحث عن البهجة والسعادة والظفر بها من رحم مشاعر الحنين والذكريات المؤلمة في بعضها.
وتلعب هنا تكنولوجيا الاتصالات دورًا مهمًا في التخفيف من مرارة الغربة، حيث يحرص المغترب على الإبقاء على الاتصال بأهله وأقاربه منذ فجر يوم العيد وحتى نهايته، في محاولة للتعايش معهم قدر الإمكان، يتناول معهم الإفطار ويقضي معظم اليوم معهم عبر تطبيقات التواصل المرئية، كما يتواصل مع جيرانه وأصدقائه.
والبعض يحرص على تدشين تجمعات للمغتربين، في الغالب أبناء كل بلد يجمعون أنفسهم عند شخص ما، أو في مكان عام، يقضون اليوم مع بعضهم البعض في المتنزهات، ويتناولون حلوى العيد ويحاولون إحياء طقوس هذا اليوم في الغربة، وفي بعض الأحيان يجتمع أبناء عدد من الجنسيات المختلفة كنوع من التكاتف والتلاحم فيما بينهم.
“ما إن نصلي الفجر حتى نتجمع معًا عن كبير المصريين هنا في الرياض نتناول عنده إفطار العيد”، هكذا يحكي “أشرف” تفاصيل يوم العيد الأول في الغربة، ويضيف “نحرص كل عيد على الاجتماع عند الحاج محسن الملقب هنا بكبير المصريين في الحي الذي أقطنه في شمال العاصمة السعودية، نصلي معًا العيد في أحد المساجد القريبة من منزله، ثم نلتقي في حديقة قريبة منه أو بداخل فناء بيته، نتناول حلوى العيد التي في الغالب لا تختلف عنها في مصر، كعك وبسكويت وبعض المعجنات الأخرى، ثم تبدأ رحلة السمر بيننا، كل يحكي عن أحوال أسرته ومنطقته التي يسكن فيها في مصر”.
وتابع في حديثه لـ”نون بوست” “بعضنا معه أسرته، وهنا فرصة جيدة للتعارف بين الزوجات والأبناء، حيث البعض يحرص على أن تكون لديه عائلة ثانية هنا في الغربة تعوض نسبيًا فقد عائلته الأصلية في بلاده، ومع مرور الوقت اعتدنا هذا الوضع حتى صار أمرًا عاديًا، فما عادت مشاعر الغربة والحنين السلبية في هذا اليوم تؤثر علينا كما كانت أول عامين مثلًا حين قدمنا إلى السعودية”.
وهكذا يحرص المغتربون على النهل من معين فرحة العيد قدر الإمكان، وفي حدود المتاح، مذللين كل العقبات التي تفسد بهجة هذا اليوم، لكنها الفرحة المنقوصة والبهجة غير المتكملة، القابعة في مرمى الحنين للوطن الأم وذكريات الأهل والأحباب.