مباشرة، إثر اندلاع الصراع في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، سارعت السلطات التونسية بدعوة جميع الأطراف السودانية إلى أعلى درجات ضبط النفس وتحكيم صوت العقل وانتهاج الحوار سبيلًا لنزع فتيل الأزمة، حفاظًا على استقرار السودان وصونًا لمقدرات شعبه الشقيق، كما أعربت تونس أيضًا عن قلقها لما آلت إليه العملية السياسية بهذا البلد الشقيق.
لكن الغريب في الأمر، أن هذا البيان صدر في وقت تعمل فيه السلطات التونسية جاهدة للتضييق على المعارضين وكل القوى السياسية والمدنية في البلاد، فضلًا عن المواطنين، ما زاد من حدة الأزمة في هذا البلد العربي الذي كان مهد الثورات العربية.
آخر ما صدر عن نظام قيس سعيد، غلق مقرات حركة النهضة وجبهة الخلاص، ما اعتبر إعلان وفاة للعمل السياسي في تونس، الأمر الذي مهد له سعيد منذ توليه رئاسة تونس وتدعم عقب انقلابه على مؤسسات الدولة الشرعية ودستور البلاد، مستغلًا حالة الطوارئ التي قال قبل وصوله لقرطاج إنها غير دستورية.
غلق مقرات النهضة وجبهة الخلاص
عقب توقيف رئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي ومداهمة منزله وقت الإفطار، مساء أول أمس الإثنين، أقدمت قوة أمنية على اقتحام مقر حركة النهضة المركزي بمنطقة مونبليزير بالعاصمة، وإجلاء من فيه قصد تفتيشه.
وفي خطوة إضافية، لها أن تؤزم الوضع أكثر، أغلقت قوات الأمن التونسية كل مقار حركة النهضة في تونس (المركزي والجهوية والمحلية)، ومنعت وزارة الداخلية كل اجتماعات الحزب، وفقًا لوثيقة نشرتها وسائل إعلام حكومية.
إلى جانب غلق مقر النهضة، قررت الداخلية التونسية غلق مقرات جبهة الخلاص الوطني في تونس الكبرى ومنع الاجتماعات فيها اعتبارًا من أمس الثلاثاء، وجبهة الخلاص الوطني هي تجمع سياسي تونسي برئاسة أحمد نجيب الشابي، تأسست في 31 مايو/أيار 2022 بعد 10 أشهر من انقلاب قيس سعيد.
توقيف راشد الغنوشي وغلق مقرات حركة النهضة وجبهة الخلاص ومنع الاجتماعات فيها، يمكن اعتباره إعدامًا ضمنيًا للعمل السياسي في تونس
تضم الجبهة عدة كيانات سياسية معارضة لما قام به سعيد منذ يوليو/تموز 2021، ومن بين المشاركين فيها حركة النهضة وحركة أمل وحراك تونس الإرادة وائتلاف الكرامة وقلب تونس وحراك مواطنون ضد الانقلاب والمبادرة الديمقراطية واللقاء الوطني للإنقاذ وحراك توانسة من أجل الديمقراطية واللقاء من أجل تونس واللقاء الشبابي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتنسيقية نواب المجلس.
اعتقال راشد الغنوشي وإغلاق مكاتب حركة “النهضة” ومقر “جبهة الخلاص الوطني” بعد سلسلة الاعتقالات السياسية السابقة قتلٌ متعمد للسياسة في #تونس.
لو كان القمع حلا لرأيناه ناجعا من قبل، هو فقط يكشف إفلاسا سياسيا مخيفا، أما تأييده وتبريره، بل وإظهار الشماتة، فيكشف إفلاسا أخلاقيا مرعبا.
— محمد كريشان (@MhamedKrichen) April 19, 2023
يُذكر أن اعتقال زعيم النهضة راشد الغنوشي تم بناءً على صدور مذكرة توقيف من النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب على خلفية إدلاء الغنوشي بـ”تصريحات تحريضية” وفق الأمن التونسي.
في هذه التصريحات قال الغنوشي: “هناك إعاقة فكرية وإيديولوجية في تونس تؤسس للحرب الأهلية”، وأضاف “لا تصور لتونس بدون طرف أو ذاك، تونس بدون نهضة، تونس بدون إسلام سياسي، تونس بدون يسار، أو أي مكون، هي مشروع لحرب أهلية، هذا إجرام في الحقيقة”.
إعدام العمل السياسي
توقيف راشد الغنوشي وغلق مقرات حركة النهضة وجبهة الخلاص ومنع الاجتماعات فيها، يمكن اعتباره إعدامًا ضمنيًا للعمل السياسي في تونس، فالمستهدف أكبر حزب سياسي في تونس، وأكبر مكون سياسي معارض للرئيس قيس سعيد.
وتعد الجبهة أبرز مكون سياسي معارض لقرارات سعيد الصادرة منذ 25 يوليو/تموز 2021، وقادت الجبهة العديد من التحركات الميدانية المناوئة لسياسة سعيد “التسلطية” وحشدت عشرات الآلاف في الشوارع، ونادت بالحوار لوقف الأزمة.
أما النهضة – التي تأسست عام 1972 خلال فترة الصحوة الإسلامية وأعلنت رسميًا عن نفسها في 6 يونيو/حزيران 1981 ولم يُعترف بها كحزب سياسي في تونس إلا في 1 مارس/آذار 2011 من حكومة محمد الغنوشي الثانية، فهي أكبر حزب سياسي في البلاد.
فازت النهضة بأول انتخابات ديمقراطية في البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2011، وكانت بذلك أول حزب له توجه إسلامي يحكم تونس، كما حلت في المرتبة الثانية بانتخابات سنة 2014، أما في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019 فقد حلت الأولى، ما جعلها الحزب الأكبر والأبرز في تونس بعد ثورة الحرية والكرامة.
يمكن اعتبار غلق مقرات أكبر حزب سياسي في تونس، إعلان وفاة رسمي للعمل السياسي في مهد الثورات العربية، كما قلنا في البداية، خاصة إذا علمنا أن باقي الأحزاب ركنت إلى سبات شتوي منذ انقلاب قيس سعيد قبل نحو سنتين.
منذ أحداث يوليو/تموز 2021، ركنت أغلب الأحزاب التونسية للبطالة ودخلت في إجازة غير محددة المدة، رغم أن عددها يتجاوز المئتين حزب، ما مهد الطريق أمام سعيد لتنزيل برنامجه الغامض على أرض الواقع، فهو لا يخفي رفضه للأحزاب وسعيه لإقصائها من الحياة السياسية ذلك أن دورها انتهى وفق تصوره.
الغريب أن قرار منع النهضة من الاجتماعات وغلق مقراتها، صادر عن وزارة الداخلية رغم أنها غير مخولة بذلك، فهذا الأمر يتبع سلطة القضاء، لكن في ظل نظام قيس سعيد كل شيء وارد ومتوقع في تونس، ما يجعل البلاد تدخل تحت منظومة ديكتاتورية تقمع العمل الحزبي والعمل السياسي وحرية التعبير، وفق قول السياسي والوزير السابق فوزي بن عبد الرحمان.
يمنح قانون الطوارئ صلاحيات واسعة للسلطات لتقييد حرية الأفراد والجماعات من خلال وضعهم تحت الإقامة الجبرية أو حظر التجول وتحجير الاجتماعات
يعد قرار الداخلية التونسية، رجوعًا إلى الوراء إلى ما قبل يناير/كانون الثاني 2011، وهو إنهاء ضمني للحياة السياسية التي تعتبر عماد الديمقراطية، ففي غياب الأحزاب لا يمكن أن نتكلم عن حياة سياسية، وفي غياب هذه الأخيرة لا يمكن الحديث عن ديمقراطية.
هذا الأمر كان متوقعًا منذ البداية، فترزيل الحياة السياسية كان منهج قيس سعيد للحكم، ذلك أنه يرى عهد الأحزاب مرحلة وانتهت في التاريخ، وأن الأحزاب التونسية عاجزة عن قيادة المرحلة التي تمر بها البلاد، وسبق أن قال: “عشت مستقلًا وسأبقى مستقلًا وسأواري الثرى مستقلًا لوحدي”.
حركة النهضة مجرد ورقة يستعمل فيها قيس سعيد بش يعطي شرعية لخرق القانون و ضرب “ما تبقى” من المؤسسات.
حماقة سياسية بإمتياز أنك توقف شخص على أقواله و ليس على أفعاله.
— Melek Zouaoui مالك الزواوي (@ZouaouiMelek) April 18, 2023
يذكر أن قيس سعيد أقام خطابه منذ بداية حملته التفسيرية التي سبقت الانتخابات الرئاسية على نقيض المنظومة الحزبية، فقد أوضح وبين في أكثر من مرة أنه لا يؤمن بها كأداة للفعل السياسي، وأنه يسعى للقضاء عليها، بحجة أن الشعب له أن يحكم مباشرة دون وساطة.
قانون الطوارئ لشرعنة التجاوزات والانتهاكات
قرار غلق مقرات النهضة وجبهة الخلاص تم طبقًا لما يسمح به قانون الطوارئ وفق الداخلية التونسية، وهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها اللجوء لهذا القانون لتبرير الانتهاكات المسلطة على التونسيين من ذلك منع التظاهر وتقييد الحريات.
لكن من المهم التذكير أن قيس سعيد كان من أشد المناهضين لهذا القانون، فسبق أن انتقده في أكثر من وسيلة إعلام محلية قبل انتخابه رئيسًا للجمهورية، وقال سعيد في إحدى الإذاعات المحلية: “حالة الطوارئ التي يُعلن عنها ويتم التمديد فيها لأشهر تُمثل خرقًا لدستور 2014، وغير مبررة”، مشيرًا إلى أن الأمر المنظم لحالة الطوارئ كان مخالفًا لدساتير الجمهورية التونسية، وداعيًا إلى ضرورة تغييره.
كما أقر سعيد في المداخلة نفسها أن “حالة الطوارئ لطالما اعتمدت للتضييق على الحريات وإعطاء وزير الداخلية اختصاصات استثنائية”، مع ذلك واصل في هذا النهج ولجأ إلى نفس هذا القانون للتضييق على الحريات ومنع العمل السياسي في البلاد.
عسلامة انت كحزب شنو موقفك من تجميد حزب حركة النهضة والجبهة
لا انا مانيش هوني تو
انا مشني حزب
اه اوكي سامحني
باي
باي
— Khaoula Boukrim ? (@khaoulaboukrim) April 18, 2023
يمنح قانون الطوارئ صلاحيات واسعة للسلطات لتقييد حرية الأفراد والجماعات من خلال وضعهم تحت الإقامة الجبرية، أو حظر التجول وتحجير الاجتماعات وكل أشكال الاحتجاج وتفتيش المحلات، فضلًا عن فرض رقابة على وسائل الإعلام، والعروض الثقافية دون أمر مسبق من القضاء، تحت ذريعة حفظ الأمن.
يذكر أن الأمر عدد 50 لسنة 1978 المنظم لحالة الطوارئ قد صيغ في أعقاب “الخميس الأسود” يوم 26 يناير/كانون الثاني 1978 إبان تحركات نقابية واجتماعية، قادها الاتحاد العام التونسي للشغل، وتم بمقتضاه تقييد الحريات وتحركات المواطنين، خاصة الاجتماعية والسياسية.
يُظهر هذا الأمر جزءًا من تناقضات قيس سعيد العديدة، التي يعلمها غالبية الشعب التونسي، ومع ذلك يواصل أستاذ القانون المساعد إرساء قواعد الحكم التي يؤمن بها دون أن يولي أي اهتمام لتطلعات الشعب ولا للضغوطات الداخلية والخارجية.