تتسارع أحداث كثيرة في الشرق العربي ويصل صداها إلى تونس والمغرب العربي عامة فتدفع إلى أسئلة مزعجة. ما طبيعة هذه الأحداث وما وجهتها؟ نتحدث هنا بدون معلومات دقيقة ولكن بربط وقائع متقاربة تتعلق بإعادة توزيع أدوار وتحديد مواقع لفاعلين رئيسين وآخرين تابعين. لدينا في هامش هذه القراءة موقف معرفي وأخلاقي ثابت من كل شيء وفد علينا من المشرق، فباستثناء اللغة العربية والقرآن الكريم في زمن صار الآن بعيدًا جدًا، لم يأتنا من الشرق إلا الخراب.
إعادة تسويق نظام الشبيحة
يعمل النظام السعودي على ترطيب الأجواء السياسية مع النظام الإيراني، وقد سمعنا التعبيرات عن حسن النية والشروع في مد الجسور. وكان يمكن لذلك أن يجري بشكل عادي بين دولتين تجاوزتا مواضيع خلافية بينهما، لكن النظام الإيراني لا يقف عند حدوده لذلك ظهر ملف النظام السوري على الطاولة.
صارت المصالحة باقة كاملة بإعادة إدماج النظام السوري في الحظيرة العربية دون أدنى محاسبة. بالتدريج يتضح من جديد الخط القديم في المنطقة، خط الحرب على الربيع العربي التي لم تتوقف رغم الإجهاز على تجربتي تونس ومصر الديمقراطيتين.
وللامعان في ذلك، وجدنا النظام التونسي يُستدرج إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا والمقطوعة منذ مجازر بشار، فما علاقة تونس بالوضع هناك؟
حرب مذهبية متخفية
تلتقي في تونس مصالح إيرانية وأخرى سعودية، فتصير سياسة تونس ترضيات للنظامين، ولا ندري هل قبض النظام ثمن ذلك أم أنه فعله إيمانًا واحتسابًا.
تتم ترضية النظام الإيراني (حامي بشار) بإعادة فتح السفارتين وتبادل السفراء بما يعنيه من مسح كل المواقف من الثورة السورية المغدورة وشهدائها، ومعاقبة أصدقاء سوريا في تونس.
وتتم ترضية السعودية بتغييب زعيم إسلامي طالما أزعجها بصوت يخرج عن طاعتها في تأويل الإسلام وخاصة في إثبات نظام سياسي إسلامي لا يُبنى على طاعة الملوك بل على الشورى والعدل. والنظام السعودي يعمل منذ نشأته على احتكار الحديث باسم الإسلام، ولذلك فإنه ناصب العداء لكل صوت إسلامي لا يسير في ركابه، والغنوشي هو آخر من يصرّ على العصيان المذهبي.
ما من تقدم اجتماعي واقتصادي في البلدان العربية دون ديمقراطية مهما طال أمد الرز السياسي الخليجي أو حتى الغاز الجزائري.
هو خلاف مذهبي يوسع خلافًا سياسيًا ينتهي بمذبحة في رابعة وأخرى قادمة في تونس. ولا نظن النظام السعودي مشغولًا بعملية التشييع الحثيثة في شمال أفريقيا، فصواريخ الحوثي أشد إيلامًا فيما يبدو.
مع ضرورة الإشارة إلى أهمية ما أبزره موقع فرنسي متخصص (Afrique intelligence)حول صفقة جزائرية سعودية إيرانية، لرفع الحماية الجزائرية عن الغنوشي مقابل إدماج الجزائر في صف عربي شرق أوسطي جديد ينتصر لموقفها من قضية الصحراء ضد المغرب ويقيها بالخصوص احتمال نشأة ديمقراطية في جوارها تزعج جنرالاتها المرفهين، خاصة وأن رئيس تونس تبنى موقفها كاملًا من قضية الصحراء، بينما الغنوشي يحاول أن يمسك العصا من الوسط.
أفق العداء للديمقراطية؟
خط الحرب على الربيع العربي ليس جديدًا لكنه يعيد تأليف صفوفه ضد الاختراق الديمقراطي، ونراه الآن يربح جولة مهمة، وينهي عمل جيل مؤسس للخطاب الديمقراطي والممارسة السياسية الديمقراطية خاصة في ثلاث دول مهمة مصر وتونس والسودان.
يمكننا هنا وضع جمل متفائلة عن البذور الديمقراطية التي غرست في هذه المرحلة وأنها لا بد أن تزهر ذات يوم ويعود الربيع العربي في موجة ثانية قوية وكاسحة. هذه الجمل صار لها دور مخدر في وعي الكثيرين، لذلك فإنه من اللائق بث حديث واقعي ينظر في ضعف موجة الربيع السياسية ويفكر في أخطائها ربما كتكملة للمهمة الفكرية التي انطلقت مند الاستقلال السياسي وبناء الدول (المسماة وطنية) وما هي إلا أجهزة قمع مدربة.
ليس لقيس ما يبيعه ليصرف من ثمنه رواتب، ولذلك نراه يقايض موقف بلاده مقابل رواتب موظفيه
محور الحرب على الربيع العربي يملك حتى الآن من القوة المالية ما يسمح له بالتقدم في هذه الصحراء السياسية ويمكنه شراء ذمم كثيرة خاصة في قطاع الإعلام والدعاية، لكنه إضافة إلى كلفة شراء الذمم يعرف أن عليه تمويل الحلفاء الطامعين في كرمه. فالأنظمة الفقيرة مثل تونس ومصر تقايض مواقفها بالرز، فهل يكفي الرز لإعالة فقراء العرب والإبقاء على أنظمتهم في فلك محور الحرب على الديمقراطية؟
سيف ديموقليدس الاجتماعي
إذا انقطع الرز تنكشف عورات الأنظمة ويعود شبح الأزمة الاجتماعية التي كانت محركًا للموجة الأولى من الربيع العربي. كم يكون ثمن موقف تونس المساند لهذا المحور مثلًا؟ سنة من الرواتب؟ أم سنتان؟ ثم ماذا بعد؟ يمكن لكثير من الناس التأقلم مع حالة الفقر والخصاصة لاجتناب دفع ثمن من أرواحهم، يمكنهم تهجير أبنائهم عبر البحر.
لقد حكم بن علي بما قبضه من بيع مؤسسات عمومية وأمكن له توفير قدر من الرفاه والسلم لطبقة وسطى نهمة إلى الاستهلاك وغطى بذلك على قهره لمعارضيه، لكن ليس لقيس ما يبيعه ليصرف من ثمنه رواتب، ولذلك نراه يقايض موقف بلاده مقابل رواتب موظفيه. أزمة قيس سعيد مثل أزمة السيسي في مصر؛ أنهما يعولان على مصدر خارجي للبقاء مقابل قمع شعبيهما بلا رحمة، ولم يطرحا سؤالًا بسيطًا كان متاحًا على مكتبيهما؛ لمصلحة مَن تقوض عملية الديمقراطية التي مكنت كليهما من السلطة؟
نختصر.. هذه جولة ربحها محور العداء للديمقراطية وربما ترتفع أثمانها أكثر في الأيام القادمة خاصة في تونس، لكن الأمر في تقديرنا سيتجاوز إلى توسع الأزمة الاجتماعية ويفرض خلاصة مفتاحية لكل ما نرى، وهي التالية: ما من تقدم اجتماعي واقتصادي في البلدان العربية دون ديمقراطية مهما طال أمد الرز السياسي الخليجي أو حتى الغاز الجزائري.
الأمر موكول بالقوة للأجيال القادمة، فهذا الجيل استنزف بالقهر وبكثير من أخطائه وبنهاية منظورة للرز السياسي المشرقي.