في كل رمضان، يتكرر ذات المشهد خلال أيامه العشرين الأولى، قوات احتلال تعتدي على المعتكفين في المسجد الأقصى المبارك، وتمنع اعتكافهم ووجودهم بعد صلاة التراويح، ولعل رمضان 2023، كان من أشد صور الاعتداء همجية على المعتكفين والمعتكفات، والذي أشعل فيما بعد شرارة لإطلاق صواريخ من قطاع غزة وجنوب لبنان على “إسرائيل”.
زاوية أخرى يحتويها هذا المشهد المتكرر، فإن استخدم جيش الاحتلال القوة – وهي الحالة الطبيعية لأي محتل- في قمعه المعتكفين والمعتكفات، رافقه جهةُ أخرى كانت تمارسٌ بعلنية قمع المعتكفين ومنع اعتكافهم، وتساهم بشكلٍ مباشر في التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بين المسلمين أصحاب المسجد والمستوطنين، هذه الجهة التي تعرف باسم “الوصاية الهاشمية على المقدسات والقدس”، وتمثلها على الأرض وزارة الأوقاف في القدس التابعة للمملكة الأردنية الهاشمية.
الوصاية على القدس: منذ تأسيس المملكة
يعود تاريخ الوصاية الأردنية على القدس ومقدساتها إلى عام 1924، خلال فترة حكم الشريف الحسين بن علي، إذ تبرع حينها بمبلغ 24 ألف ليرة ذهبية؛ لإعمار المقدسات الإسلامية، وأُطلق على تلك الخطوة حينها، الإعمار الهاشمي الأول، ليتم بعدها مبايعته وصيًا على القدس.
عام 1950، أعلنت الأردن وفلسطين ما يعرف بـ “الوحدة بين الضفتين (الشرقية للأردن والغربية)، وبعد فك الارتباط عام 1988 تم استثناء القدس لتبقى تحت الرعاية الأردنية، واحتفظ الأردن بحقه في الإشراف على الشؤون الدينية في القدس بموجب اتفاقية “وادي عربة” للسلام، التي وقعها مع “إسرائيل” في 1994، إذ تنص الفقرة الثانية في المادة 9 من ذات الاتفاقية على أنه “تحترم “إسرائيل” الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي ستعطي “إسرائيل” أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن”.
الوصاية الهاشمية على المقدسات، لا تتعدى أعمال الصيانة، وحتى أعمال الصيانة داخل الحرم المقدسي والقدس تقيدها شرطة الاحتلال الإسرائيلي، وتمنعها في معظمها، ويقيدها الواقع الحالي في القدس
ويتبع للأردن العديد مـن المؤسسات والهيئات التـي تُعنى بشؤون القـدس والمقدسـات فيها، ومنها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، إذ تقوم برعاية شؤون المقدسات الإسلامية في القدس منذ عام 1950 ولغايـة الآن، وتقوم الوزارة بإدارة المسجد الأقصى المبارك وصيانته، وأنشأت فـي القدس دائرة اسمها دائرة الأوقاف ويتبع لها قسم الآثار الإسلامية الذي يقوم بتوثيـق وصيانة المعالم الإسلامية المعرضة للخطر.
كما يتبع للأردن دائرة قاضي القضاة، والتي تشرف على المحاكم الشرعية في القدس ويجري تنسيق كامل بين الجهتين في جميع الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية، ومن المؤسسات الأخرى، تقوم “لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة” بالإشراف على أعمال الإعمار في المعالم الدينية والتاريخية المختلفة في الحرم القدسي الشريف.
أما اللجنة الملكية لشؤون القدس، تقوم على رعاية شؤون القدس وإبراز قضيتها لدى المحافل الدولية والرأي العام العالمي، وكانت آخر مؤسسة جرى إنشاؤها من قبل الأردن، هي الصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة عام 2007.
ويهدف الصندوق إلى توفير التمويل اللازم لرعاية المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة والمقدسات الإسلامية في القدس الشريف، لضمان استمرارية إعمارها وصيانتها وتوفير جميع المتطلبات اللازمة لها، كما ووقع الملك الأردني عبد الله الثاني في مارس/ آذار 2013، مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، اتفاقية تعطي المملكة حق “الوصاية والدفاع عن القدس والمقدسات” في فلسطين.
وبحسب بيانات وزارة الخارجية الأردنية، يبلغ عدد موظفي دائرة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى المبارك أكثر من 800 موظف، يُعيَّنون من قِبل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الأردنية. وتشرف الدائرة على شؤون المسجد الأقصى المبارك، كما تشرف على مساجد مدينة القدس التي يزيد عددها عن 102 مسجدًا، وتتولى إعمارها ورعايتها وصيانتها والوعظ والإرشاد بها.
الوصاية: صيانة المكان، وتضييق على أهله
الوصاية الهاشمية على المقدسات، لا تتعدى أعمال الصيانة، بل حتى أعمال الصيانة داخل الحرم المقدسي والقدس تقيدها شرطة الاحتلال الإسرائيلي، وتمنعها في معظمها، ويقيدها الواقع الحالي في القدس، إذ أن الفصل في المنازعات المتعلّقة بالأماكن المقدّسة يخضع لـ «قانون الانتداب» لعام 1924، الذي قضت فيه “المحكمة العليا الإسرائيلية” استمرارية سريانه، ووفقًا لقانون عام 1924، للحكومة أن تقرّر في المسائل المتعلّقة بالحقوق الدينيّة في الأماكن المقدّسة، ولا يمكن الفصل فيها في المحاكم.
لا تلعب الأردن أو الأوقاف الإسلامية التابعة لها أي دور في الضغط على الاحتلال من خلال العلاقات الثنائية المشتركة للحفاظ على المسجد الأقصى أو منع الاعتداءات المتصاعدة عليه
وفي الوقت الذي يفترض على الأردن أن تعزز صمود المقدسيين في أرضهم، فإنها ممارساتها على الأرض تشكلٍ تحدٍ اقتصادي على موظفي الأوقاف في القدس، فبينما تقرر حكومة الاحتلال الحد الأدنى للأجور في القدس والداخل المحتل بنحو 5571 شيكلًا إسرائيلي، يتراوح رواتب موظفي وزارة الأوقاف بين 4000 و5000 شيكل إسرائيلي، ويصل في بعض الحالات إلى 6000 شيكل إسرائيلي كمتوسط لأجور الوزارة، مما يشكل عبئًا اقتصاديًا على المقدسيين العاملين من أجل “حماية القدس” في الوزارة، في ظل غلاء أسعار، وضرائب باهظة تتعمدها سلطات الاحتلال على أهل المدينة المقدسة للتضييق عليهم.
وإلى جانب ذلك، لا تلعب الأردن أو الأوقاف الإسلامية التابعة لها أي دور في الضغط على الاحتلال من خلال العلاقات الثنائية المشتركة للحفاظ على المسجد الأقصى أو منع الاعتداءات المتصاعدة عليه، أو حتى التدخل لوقف سياسات الإبعاد والاعتقال التي تتم بشكل مسبق للمرابطين فيه.
التعاون الأردني الإسرائيلي: تقسيم الأقصى
في 26 شباط/فبراير 2023 دعت الأردن كل من السلطة الفلسطينية والاحتلال إلى جانب الولايات المتحدة ومصر للاجتماع في العقبة الأردنية، وبعد هذه القمة الخماسية تم الإعلان بشكل صريح عن سلسلة من النتائج كان أبرزها تأكيد الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي التزامهما بجميع الاتفاقات السابقة بينهما، والعمل على تحقيق السلام العادل والدائم، إلى جانب خفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف.
وتطرقت القمة في مخرجاتها إلى تأكيد الأطراف الخمسة على أهمية الحفاظ على الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة في القدس قولًا وعملًا دون تغيير، وشددوا في هذا الصدد على الوصاية الهاشمية/ الدور الأردني الخاص، دون الإشارة إلى أية نتائج أخرى.
واستباقًا للقمة اجتمع ملك الأردن عبد الثاني برئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في يناير/كانون ثاني 2023 في زيارة كانت مفاجأة في حينها، وسبق هذه اللقاءات اجتماعات جرت بين ملك الأردن وبين الحكومة السابقة التي ترأسها كل من نفتالي بينيت ويئير لابيد.
وتمتلك الأردن خط اتصال مباشر وقوي مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ يحضر دور عمان بشكل قوي وفاعل في القضايا المتعلقة بالقدس والمسجد الأقصى أو فيما يتعلق بالواقع الأمني في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما يجعل الاحتلال يحافظ على علاقة قوية بها.
ونظرًا للعلاقة الجيدة التي تربط الطرفين منذ توقيع اتفاقية وادي عربة في 26 أكتوبر/تشرين أول 1994، فإن الكثير من الملفات الأمنية تحظى بتنسيق مشترك، لاسيما فيما يتعلق بالواقع القائم في المسجد الأقصى وإن حدثت بعض المناوشات الإعلامية في بعض الأحيان.
الوضع الراهن في أبجديات الصراع: مستوطنون يقتحمون بسلام، ويبحثون عن هيكلٍ مزعوم، وحفريات مستمرة أسفل الأقصى
وبرغم الوصاية الهاشمية والمُعاد التأكيد عليها في “اتفاقية الدفاع عن القدس والمقدسات” عام 2013، أكدت في المادة الثانية على “تأكيد حرية جميع المسلمين في الانتقال إلى الأماكن المقدسة الإسلامية ومنها وأداء العبادة فيها بما يتفق وحرية العبادة”، فإن وزارة الأوقاف في القدس والتابعة للحكومة الأردنية، تمنع بشكلٍ مستمر من الاعتكاف في ساحات المسجد الأقصى، خاصة في أيام رمضان دون العشر الأواخر منه، وأيام الجمعة والسبت من رمضان قبل أن يرغمهم الاحتلال عليه.
نُشر الليلة القرار التالي من مدير عام أوقاف #القدس التابعة للأردن موجهاً إلى مدير المسجد الأقصى وهو يبلغه فحوى قرار مجلس الأوقاف بحصر الاعتكافات في #المسجد_الأقصى في العشر الأواخر من #رمضان وليلتَي الجمعة والسبت حصراً؛ والقرار كارثي في المبدأ والتطبيق#افتحوا_الاعتكاف_في_الأقصى pic.twitter.com/Cjk2sIYKpS
— زياد ابحيص (@ZiadIbhais) March 30, 2023
منع الاعتكاف، وإغلاق المسجد أمام المعتكفين، يعقّب عليه مدير دائرة أوقاف القدس عزام الخطيب بأنه “موضوع سياسي لا أستطيع أن أتحدث فيه، هنالك بعض الأمور فوق طاقتنا، لا أكثر ولا أقل”، وسواء كان منع الاعتكاف قرارًا ذاتيًا ام سياسيًا، مباشرًا أو ضمنيًا، فإنه لا ينفي ما يمثله القرار من التأكيد على التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، من حيث منع وجود المرابطين أمام اقتحامات المستوطنين، وإفراد الساحة للاحتلال شرطة ومستوطنين طيلة الأيام المتبقية من الأسبوع لممارسة اقتحاماتهم، والبحث عن هيكلهم المزعوم بوقتهم ومكانهم، دون أن يقاسمهم فلسطيني في ذلك.
وجاءت هذه القرارات في بدايتها ضمن تفاهمات أردنية إسرائيلية بموافقة رسمية فلسطينية من السلطة برئاسة محمود عباس، ووفق المعلومات التي سربت فإن القرارات التي اتخذت في الأقصى في بداية الأمر جاءت في ضوء التفاهمات غير المعلنة بشكل رسمي من قمتي العقبة وشرم الشيخ اللواتي توصفان فلسطينيًا بأنهما قمتين ذات طابع أمني بحت وليس لها أي رصيد سياسي.
وبالرغم من تصريحات الحكومة الأردنية ووزارة الأوقاف بعد الاعتداء على المعتكفين والمعتكفات منتصف رمضان 2023، واستنكارهم الاعتداء وتأكيدهم على عدم السكوت، ودعوة المقدسيين للاعتكاف، فإن هذه التصريحات لا تخرج من كونها حبرًا على ورق، في ظل محاولة مصرية أردنية إسرائيلية أمريكية و”سلطة فلسطينية” للحفاظ على الوضع الراهن في القدس ومنع أي شكل من التصعيد، والوضع الراهن في أبجديات الصراع: مستوطنون يقتحمون بسلام، ويبحثون عن هيكلٍ مزعوم، وحفريات مستمرة أسفل الأقصى.