كانت عبير علي 37 عامًا، تعمل بحيوية في إعداد حلويات العيد، على أمل أخذها إلى أسرتها الكبيرة في مدينة رفاعة وسط السودان، وذلك عندما أُطلقت أول رصاصة في حرب السعي إلى الانفراد بالسُّلطة في صباح السبت 15 أبريل/ نيسان الحاليَّ.
تركت عبير منزلها الكائن في حي الأزهري جنوبي العاصمة الخرطوم، وأسرعت إلى جلب طفليها من المدرسة القريبة من مسكنها؛ لتقضي معهما بقية اليوم تحت الأسَّرة بدلًا عن إكمال إعداد الحلويات والذهاب إلى الأسواق لشراء ملابس للأطفال.
استطاع طارق أحمد، الذي كان بمقر عمله في وسط الخرطوم حينما اندلعت الاشتباكات، إخراج أسرته من العاصمة الخرطوم بعد أن عاشت ثلاث أيام من رعب أصوات انفجار قذائف المدفعية؛ لكن الرعب الأكبر الذي واجهته عبير هو سؤال طفلها 6 سنوات: لماذا الحرب؟
تقول عبير لـ “نون بوست”، إنها لا تملك إجابة لهذا السؤال، وأعتقد أن كل المدنيين لا يملكون إجابة أيضًا. وتشير إلى أن السودانيين عادة ما يسألون في أواخر شهر رمضان المعظم أسئلة مثل: أين أقضي أيام عطلة العيد وماذا اشترى من ملابس، لكن هذا العام تحولت إلى: أين أعثر على مياه الشرب والأكل وإلى أين انزح؟
تحولت الحياة من اعتيادية إلى نداءات إغاثة
كان اهتمام السودانيين في أواخر رمضان ينصب في شراء ملابس جديدة ولُعب للأطفال وأغطية الأسُّرة وتغيير بعض ديكون المنزل استعدادًا لعيد الفطر؛ لكن هذه الأيام تركز تفكيرهم في تبادل النصائح لتلافي آثار الأزمات الإنسانية والمعيشية والصحية والأمنية التي خلفتها الاشتباكات.
في ظل أوضاع عدم توفر مياه الشرب والغذاء لملايين الأشخاص وصعوبة إسعاف الجرحى ودفن القتلى، تبدو فكرة الاستمتاع بالعيد “جريمة ضد الإنسانية” على حد تعبير من تحدثنا معهم.
تقول عبير إن أسرتها فرت من العاصمة الخرطوم بالملابس التي يرتديها أفرادها والهواتف المحمولة، تاركة وراها كل شيء بما في ذهب الحلي، رغم احتمال نهب جميع مقتنيات المنزل.
وتضيف: “في ظل أوضاع عدم توفر مياه الشرب والغذاء لملايين الأشخاص وصعوبة إسعاف الجرحى ودفن القتلى، تبدو فكرة الاستمتاع بالعيد جريمة ضد الإنسانية”.
قد يكون حديث عبير جلدًا للذات يمكن فهمه في سياق الأثر النفسي لحرب أُشعلت لصراع شخصين فقط: قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية محمد حمدان “حميدتي”.
حوّل هذا الصراع الحياة في العاصمة الخرطوم من اعتيادية، إلى نداءات إغاثة في مواقع التواصل الاجتماعي، لطلب الغذاء والعلاج والإجلاء من مناطق الاشتباكات وذلك على الرغم من الفرق التطوعية في الأحياء السكنية مع انعدام أي مظاهر لوجود حكومي خدمي.
ودفع شح المياه الجارية والإمداد الغذائي والانقطاع المتقطع للكهرباء، بعد أربعة أيام من الحصار داخل المنازل جراء الاشتباكات، آلاف الأشخاص إلى المغامرة بالخروج إلى الشارع أمس الأربعاء، لكنهم لم يجدوا المدينة التي يعرفونها، تغيرت العاصمة تمامًا.
الجثث منتشرة في الطرق والسيارات المحترقة والمقذوفات غير المتفجرة والتشوهات في المبانٍ المطلة على الطرق جراء الإطلاق العشوائي لقذائف المدفعية، لقد تحولت إلى مدينة حرب لا أحد يعرف متى تنتهي بما في ذلك الجنرالات الذين يديروها والجنود الذين يخوضونها.
الانهماك في تحليل الوضع بدل عن التحضير للعيد
وافق الجيش والدعم السريع على هدنة مؤقتة لمدة 24 ساعة لوقف إطلاق النار، دخلت حيز التنفيذ في الساعة السادسة مساءً بالتوقيت المحلي أمس الأربعاء، لكنهما لم يلتزموا بها. وهذا الاتفاق هو الرابع من نوعه الذي خرقوه.
صحيح أن الاشتباكات، ليل وفجر الخميس، كانت بوتيرة أقل مقارنة بالتي جرت طوال الأسبوع، إلا أنها استمرت على كل حال.
يحتاج السودانيين إلى هذه الهدنة للفرار من العاصمة تاركين مقتنيات حصلوا عليها بشق الأنفس في ظل استشراء الفقر، لكن طرفي القتال يحتاجها أكثر منهم لتشوين قواتهم بالعتاد الحربي، استعدادًا لحرب المدن المتوقع أن تُشن خلال أيام؛ إذ يبدو من خلال تصريحاتهم إنهم لا يرغبون في إنهاءها.
ويوجد مخاوف من أن تصبح الخرطوم ساحة لتصفية خلافات الدول الإقليمية والدولية وتدويل الحرب، حيث تداول السودانيين بكثافة معلومات نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال تشير إلى أن قائد ميليشيا الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر أرسل طائرة واحدة على الأقل لنقل الإمدادات العسكرية للدعم السريع، فيما أرسلت مصر طائرات حربية وطيارين لدعم الجيش.
يقول خالد الطيب، وهو مواطن من مدينة الدندر بولاية سنار، إن تدويل الحرب يعني استمرارها أطول فترة ممكنة، وهذا يدفعنا إلى تحليل مآلات الوضع بدلًا عن الانهماك في التحضير للعيد.
وتوقع أن يذهب السودانيون لأداء صلاة العيد في الساحات العامة والعودة إلى منازلهم، لمشاهدة تطورات العمليات العسكرية ومساعي إنهائها في القنوات الإخبارية، عوضًا عن تبادل الزيارات الاجتماعية للتهنئة بالعيد.
هذا الأمر يُشكل ضغطًا إضافيًا على ملايين الأشخاص بعد توقفهم عن العمل، بما في ذلك موظفي الدولة التي اعتادت منحهم حوافز مالية في كل عيد، ويُشكل أيضًا عائقًا أمام فرارهم من العاصمة.
ويعتقد الطيب، الذي تحدث لـ “نون بوست”، أن معظم السودانيين يعيشون حاليًا في توتر سواء كانوا في المدن التي تقع فيها الاشتباكات أو المناطق الآمنة. ويوضح: “إذا كنت في المناطق الآمنة فتحتاج إلى أن تطمئن على أحبائك الذين يسكنون في العاصمة”.
ويشير عباس أبو القاسم، موظف في مؤسسة حكومية، إلى أنه يمني نفسه بأمل كاذب في استئناف العمل، اليوم الخميس، بعد اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت من أجل بحث حافز العيد وراتب شهر أبريل/ نيسان الحالي.
ويقول لـ “نون بوست”، إنه إذا صرف راتبه سوف يوجهه إلى تأمين أكبر قدر من المواد الغذائية لأسرته، حيث أن شراء ملابس أو أغطية أسُّرة أو حلوى بات ترفًا.
يعيش في العاصمة الخرطوم 8.6 مليون شخص وفقًا لتقديرات حكومية في 2021 فيما تذهب تقديرات أخرى إلى أن عددهم 12 مليون شخص، معظم العاملين منهم يعملون في مهن وإشغال يتلقون مقابلها المالي إما يوميًا أو شهريًا، ومع توقف الأعمال التجارية والمصرفية والحكومية يتوقع أن يكون كثير منهم بلا مال الآن.
وهذا الأمر يُشكل ضغطًا إضافيًا على ملايين الأشخاص بعد توقفهم عن العمل، بما في ذلك موظفي الدولة التي اعتادت منحهم حوافز مالية في كل عيد، ويُشكل أيضًا عائقًا أمام فرارهم من العاصمة.