بين فترة وأخرى تسمح الرقابة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي بالإفصاح عن بعض المعلومات المتعلقة بعمليات نفذتها المقاومة الفلسطينية، بعد أن يكون قد مر عليها عدد من السنوات، في محاولة للحفاظ على صورة الجيش أمام جمهور المستوطنين وضمان عدم التأثير على الروح القتالية للجنود.
وشهد جيش الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة تراجعًا في مستوى الخدمة العسكرية نتيجة للخلافات الداخلية والتهرب من أداء الخدمة العسكرية، إلى جانب الخشية من القتل أو الوقوع كأسرى في يد المقاومة الفلسطينية، كما حصل في عدة مناسبات أبرزها الجندي جلعاد شاليط وحرب عام 2014.
وأفصح الاحتلال مؤخرًا عن تفاصيل عملية عسكرية نفذتها كتائب القسام خلف خطوط الاحتلال إبان معركة العصف المأكول عام 2014، حيث تمكن 12 مقاتلًا من كتائب القسام يرتدون زيًا عسكريًا مشابهًا لزي الجيش الإسرائيلي، من التسلل في اليوم العاشر من حرب 2014 في تمام 5:30 صباحًا إلى منطقة بين نيرعم ومستوطنة سديروت على مقربة 700 متر من المستوطنة واستهدفوا جيبًا عسكريًا بقذيفة آر بي جي في تمام الساعة 6:36.
وكشف الاحتلال عن مقتل 4 ضباط إسرائيليين في العملية، فيما حاول مقاتلو القسام خطف أحد الجنود، لكن سرعان ما تم تفعيل إجراء “حنيبعل” الخاص بحدوث عملية خطف، حيث نجح المقاتلون في اختراق الحدود بالقرب من كيبوتس نير عام، وقاموا بالاشتباك مع قوة من الجيش، حيث فاجأت الخلية القوة التي كانت في الجيب وأطلقت تجاههم صاروخًا مضادًا للدروع، أسفر عن مقتل سائق الجيب نداف قولدماخر، وفي أثناء العملية انتبهت قيادة الجيش إلى أن ما يحصل سيؤدي حتمًا لعملية جلعاد شاليط 2.
إجراء “حنيبعل”.. قتل الجنود دون أسر
توجيه هانيبال أو بروتوكول هانيبال، هو الاسم الكودي لتوجيه عسكري يطبقه الجيش الإسرائيلي ويتعلق بكيفية رد الوحدات الميدانية عندما يؤسر جندي من قوات معادية، يسمح هذا التوجيه باستخدام الأسلحة الثقيلة في حالة أسر أي جندي إسرائيلي لمنع الآسرين من مغادرة موقع الحدث.
ويمكن استخدام الأسلحة الثقيلة حتى لو شكل ذلك خطرًا على حياة الجندي المخطوف، وكانت أول صياغة لهذا التوجيه في عام 1986 من الجنرال أوري أور وجابي أشكنازي وقائد المنطقة الشمالية عمرام ليفين ورئيس مجلس الأمن القومي الجنرال احتياط يعقوف عامي درور.
وفي مارس/آذار 2018، أصدر مجلس مدققي الحسابات الحكومية، وهو هيئة حكومية إسرائيلية، تقريرًا ينتقد هذا التوجيه العسكري من عدة نواح، فقد أشار التقرير إلى أن هذا التوجيه العسكري لا يذكر بوضوح الحاجة إلى احترام مبدأين أساسيين في القانون الدولي وهما: استخدام القوة المتكافئة ضد التهديدات والتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية.
ويعتبر جيش الاحتلال الإسرائيلي هو الجيش الوحيد عالميًا الذي يستخدم هذا الإجراء رغم الانتقادات الداخلية والتعليقات المتكررة من الجنود والضباط عليه، كونه لا يوفر الحماية للقوات العاملة ميدانيًا ويفضل إعدامهم على السماح لهم بالوقوع في الأسر.
ومنذ عام 2008 ومع تكرار المواجهات العسكرية مع قوى المقاومة الفلسطينية في غزة، فقد استخدم هذا الإجراء عدة مرات، ما تسبب في استشهاد المقاومين والجنود المأسورين في أكثر من مناسبة، وهو ما أفصحت عنه الأذرع العسكرية للمقاومة في أكثر من مناسبة.
وتسعى المقاومة الفلسطينية من خلال تكرار محاولات الأسر لإبرام صفقات تبادل تؤدي إلى تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية في ظل غياب الأفق السياسي والوسائل الأخرى التي تجبر الاحتلال على تنفيذ صفقات أو الإفراج عن الأسرى.
ويعتمد الاحتلال الإسرائيلي خلال هذا الإجراء ميدانيًا على سياسة “الأرض المحروقة” عبر القصف الجوي والبري المركز للمنطقة، وهو إجراء فشل في مرات عديدة في إنقاذ الجنود الأسرى كما حصل في عمليتي أسر الجندي شاؤول أرون والضابط الإسرائيلي هدار غولدين في رفح.
قراءة إسرائيلية.. التداعيات والآثار
يقول الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي محمد هلسة إن هذا الإجراء الإسرائيلي المطبق من الجيش منذ أكثر من 3 عقود تقريبًا، له آثار على الوعي الإسرائيلي، لا سيما مع تكرار محاولات الأسر من المقاومة الفلسطينية في غزة وتحديدًا كتائب القسام لأسر جنود.
ويرى هلسة في حديثه لـ”نون بوست” أن الإجراء يعكس زاوية دونية وعجرفة إسرائيلية قائمة على الاستعلاء والنظرية الإسرائيلية المرتكزة على التفوق العرقي والديني الإسرائيلي، من خلال رفض السماح للخصم بالتفوق عليه من خلال السعي بكل الطرق لإفشال هذه العمليات.
ووفق الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي فإن هذا الإجراء يمنح الضابط الإسرائيلي صلاحية قتل الجندي حتى يمنع الخصم من فرصة التفوق، وهو إرث يعكس الحالة المرضية في العقلية الإسرائيلية وهدفه عدم منح الطرف الآخر صورة البطولة والشجاعة.
مشيرًا إلى أن تكرار هذه الحوادث بشكلٍ حقيقي يعكس فشل الإسرائيليين وفشل المؤسسة العسكرية فيما يخص جنودها الذين قتلوا خلال المعارك وهو ما سمح بالكشف عن جزء منه فيما بقي الجزء الآخر للكثير من العمليات طي الكتمان حتى هذه اللحظة.
أما فيما يتعلق بالتصور الإنساني، فالإسرائيلي يرى نفسه فوق البشر وفوق ساميتهم، وبالتالي لا يمكن أن يمنح الطرف الآخر المتمثل في الجانب الفلسطيني إمكانية التفوق عليه حتى لو أدى هذا الأمر والإجراء إلى قتل الجنود في ساحة المعركة، بحسب حديث هلسة.
أما عن التداعيات، فيؤكد الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي أن التداعيات سلبية على الجنود مع علمهم المسبق بأنهم ذاهبين للمعركة وهم قد يقتلوا إما بنيران العدو وإما الصديق كونهم عرضة للوقوع في الأسر، خاصة الجنود الذين يخوضون مواجهة برية.
ويلفت هلسة إلى أن هذا الإجراء سيكون له الأثر الكبير خاصة في ظل المعضلة القائمة في المجتمع الإسرائيلي، إلى جانب بقاء الجنود الإسرائيليين في الأسر لسنوات طويلة دون أي تفاوض بشأنهم لإبرام صفقة وهو ما يؤدي إلى أن نظرية الاستعلاء الإسرائيلي تزرع الهزيمة في نفوس الجنود.
التداعيات العسكرية.. آثار سلبية واضحة
من جانبه، يرى المختص والباحث في الشأن العسكري رامي أبو زبيدة أن إجراء “هينبعال” أو “هيبنال” أثبت فشله أمام المحاولات المستمرة من المقاومة الفلسطينية لتنفيذ عمليات أسر، وهو ما حدث في عملية أسر الضابط هدار غولدين تحديدًا في رفح عام 2014، حيث لم يفلح تفعيل هذا الخيار في منع وقوعه أسيرًا لدى المقاومة.
ويقول أبو زبيدة لـ”نون بوست” إن محاولات المقاومة الفلسطينية مستمرة لتنفيذ عمليات أسر وتكررت عدة مرات منذ عام 2008 مرورًا بعام 2014 ومواجهة 2021، وبالتالي فإن هذا الخيار لم يوقف المقاومة عن تنفيذ أي عمليات جديدة لأسر جنود إسرائيليين.
ووفق المختص في الشأن العسكري فإن هذا الخيار تعاملت معه المقاومة ميدانيًا من خلال عمليات الأسر التي سعت لتنفيذها في السنوات الأخيرة وأفصح الاحتلال عن بعض منها وأقر فيها بتفعيل هذا الإجراء دون الإشارة لتفاصيل العمليات ميدانيًا ودوافعه.
ويؤكد على أن التداعيات المترتبة على هذه الآثار مضرة للروح القتالية الإسرائيلية التي تراجعت خلال الفترة الأخيرة كثيرًا بفعل تراجع الأداء الميداني للجيش على الصعيد البري إلى جانب تداعيات الأزمات الداخلية التي تعصف بمجتمع المستوطنين الإسرائيليين.
في المحصلة فإن لجوء الاحتلال لاستخدام هذا السلوك يثبت خوفه المطلق من عمليات الأسر التي ما انفكت المقاومة تحاول القيام بها وكان آخرها الكشف عن محاولة أسر جرت إبان معركة سيف القدس عام 2021 التي هدفت إلى زيادة الغلة من الجنود والضغط لتنفيذ صفقة تبادل جديدة.