خفت الحديث في الأيام الأخيرة عن مجريات القتال في السودان وتطورات الوضع الميداني في هذا البلد العربي، بعد أن كان الشغل الشاغل لأغلب الوسائل الإعلامية العالمية والنقطة الأبرز للندوات الصحفية لقادة العالم، وحل محله الحديث عن عمليات الإجلاء الكبيرة التي تقودها الدول الكبرى.
عمليات إجلاء متتالية – جوًا وبرًا – توحي بأن الوضع سيزداد تعقيدًا، وأن الصراع سيتواصل، ما من شأنه مفاقمة الوضع الإنساني هناك، ما ينذر بإقبال السودان على كارثة إنسانية خطيرة وفق وصف الأمم المتحدة.
عمليات إجلاء سريعة
تركز أغلب الدول حاليًّا، على إجلاء دبلوماسييها ورعاياها من العاصمة الخرطوم وباقي المدن السودانية، في ظل تواصل القتال بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”.
أبرز الدول التي نظمت عمليات إجلاء لدبلوماسييها، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، ففي الساعات الأولى من فجر أمس الأحد نفذت واشنطن عملية إخلاء من طراز نوعي بإرسال طائرة عمودية مدعومة بنحو 6 طائرات أمّنتها قوات جوية خاصة بمساعدة إثيوبيا التي يسرت تزويد الطائرة بالوقود.
السوق المركزي بحري ? #لا_للحرب #السودان pic.twitter.com/zlIZftK9HD
— lord (@nubiankinglord) April 24, 2023
اقتصرت عملية الترحيل على طاقم السفارة البالغ نحو 70 موظفًا وذويهم وعدد قليل من الدبلوماسيين من دول أخرى لم تسمّها، فيما لم تشمل العملية المئات من الرعايا الذين سجلوا طلبات مغادرة، باعتبار أن الوضع الأمني لا يسمح بالإجلاء جوًا، كما أن الإجلاء برًا صعب في هذه الفترة.
عاجل- رويترز عن مصدر دبلوماسي: إجلاء نحو 700 موظف من الأمم المتحدة ومنظمات أخرى ودبلوماسيين من الخرطوم إلى بورتسودان أمس الأحد
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) April 24, 2023
بدورها، نفذت القوات المسلحة البريطانية أمس عملية “إجلاء معقدة وسريعة” لجميع الموظفين الدبلوماسيين وعائلاتهم من السودان، وفق رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، كما حثت الخارجية البريطانية رعاياها على الاحتماء في منازلهم وإبلاغها بمكان وجودهم.
كما أفادت السلطات في فرنسا بأن طائرة فرنسية تقل نحو 100 شخص غادرت الخرطوم أمس الأحد متوجهة إلى جيبوتي، وأن طائرة أخرى تحمل عددًا مماثلًا تستعد للإقلاع، مشيرة إلى استئناف العمليات اليوم الإثنين، ونقلت الطائرة وفد الاتحاد الأوروبي في الخرطوم وعددًا من أبناء الجنسيات الأخرى.
رغم عدم قدرة أي طرف على حسم المعركة لصالحه في أقرب وقت، فإن البرهان وحميدتي مصرّان على مواصلة الحرب
من جانبها، بدأت كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والنرويج عمليات إجلاء مواطنيهم، بالإضافة إلى مواطني بلدان أوروبية أخرى هناك، على أن تتواصل عمليات الإجلاء لأيام أخرى، نظرًا لصعوبة الوضع الميداني في هذا البلد العربي المثقل بالأزمات.
لم تقتصر عمليات الإجلاء على الدول الغربية فقط، إذ أقدمت العديد من الدول العربية على تنظيم عمليات إجلاء أيضًا على رأسها مصر التي أصيب أحد دبلوماسييها، والسعودية والكويت وتونس والأردن وليبيا، بينما تعمل دول أخرى على تنظيم عمليات إجلاء لرعاياها.
وأرسلت الهند سفينة تابعة للقوات البحرية إلى بورتسودان، وطائرتين عسكريتين إلى جدة في إطار استعداداتها لعمليات الإجلاء، نفس الشيء بالنسبة لكوريا الجنوبية التي أرسلت طائرة عسكرية واليابان التي أرسلت 3 طائرات إلى جيبوتي لنقل مواطنين يابانيين، كما أعلنت الخارجية الصينية – اليوم الإثنين – إجلاء الدفعة الأولى من المواطنين الصينيين بأمان إلى دول مجاورة للسودان.
نُذر حرب طويلة
تُنذر عمليات الإجلاء المتسارعة للدبلوماسيين الأجانب، بحرب طويلة، وما عمليات التهدئة الحاصلة اليوم وأمس إلا استراحة قصيرة لطرفي النزاع، للسماح للدول الأجنبية باستكمال عمليات الإجلاء، ومن بعدها ستتجدد المعارك.
ويعود سبب الإسراع في عمليات الإجلاء إلى يقين المجتمع الدولي بخطورة الوضع في السودان، وتوقعهم استمرار القتال أكثر، ذلك أن الهدف من هذه الحرب لم يتحقق بعد سواء للأطراف الداخلية أم الخارجية التي لها يد فيما يجري هناك.
لم يحقق أطراف الصراع أهدافهم، ما يعني أن القتال سيزداد ضراوة ما إن تنتهي عمليات الإجلاء، ذلك أن إغلاق البعثات الدبلوماسية في الخرطوم وخروجها من السودان سيقلل الضغط المباشر على الجيش وقوات الدعم السريع لوقف الحرب.
الرئيس بايدن: الجيش الأميركي نفذ عملية إجلاء موظفي السفارة في الخرطوم بالتعاون مع المملكة العربية السعودية. pic.twitter.com/Dm6WbkXZeC
— الأحداث الأمريكية?? (@US_World1) April 23, 2023
بعد انتهاء عمليات الإجلاء لن تكون هناك خطوط حمراء في القتال، وهو ما تريده العديد من القوى الأجنبية، ما قد يعني تواصل القتال فترة أخرى لا يُعلم لها نهاية إلى حد الآن، فالأهداف لم تتحقق بعد لأي طرف في الصراع.
تشي عمليات الإجلاء المتسارعة للدبلوماسيين والرعايا الأجانب، كأن العالم يُنقذ رعاياه من أجل ترك الصراع يستمر في السودان، وذلك لإعادة ترتيب الوضع في هذا البلد الفقير وفي المنطقة ككل، فالعديد من الأطراف الدولية تأمل في السيطرة على القرار السيادي للسودان خدمة لأجنداتها الإقليمية.
رغم عدم قدرة أي طرف على حسم المعركة لصالحه في أقرب وقت، نتيجة العديد من الأسباب المباشرة وغير المباشرة، فإن البرهان وحميدتي مصرّان على مواصلة الحرب بدفع من قوى إقليمية ودولية تريد فرض رؤيتها وتوجهها في السودان.
كارثة إنسانية
استمرار القتال، سيؤدي وفق الأمم المتحدة، إلى كارثة إنسانية على المدنيين السودانيين والموظفين الأمميين وغيرهم من أعضاء المجتمع الدولي العالقين وسط تبادل إطلاق النار، وفق قول المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك.
بالتزامن مع هذا التحذير الأممي، أعلنت نقابة أطباء السودان – اليوم الإثنين – ارتفاع حصيلة ضحايا الاشتباكات من المدنيين إلى 273 قتيلًا و1579 جريحًا منذ بداية الاشتباكات قبل 10 أيام، وأكدت النقابة توقف 55 مستشفى عن العمل من أصل 79 مستشفى بسبب المعارك الدائرة.
من جهتها، قالت منظمة الصحة العالمية إنه كان من الممكن إنقاذ ربع الضحايا الذين فقدوا أرواحهم لو تمكن العاملون في مجال الرعاية الصحية من الوصول إلى المدنيين المصابين جراء الاشتباكات في السودان، وأعلنت المنظمة أنها غير قادرة في الوقت الحاليّ على نشر المزيد من مجموعات الجراحة الأساسية في ظل تعطل المطارات والطرق غير الآمنة.
تتزايد المخاوف في السودان من إمكانية تدهور الوضع أكثر، خاصة أن ملايين الأهالي هناك يعتمدون على المنظمات الإنسانية والدولية لتأمين احتياجاتهم الضرورية
سجلت العاصمة الخرطوم موجة نزوح كبيرة، فآلاف المواطنين اضطروا لمغادرة المدينة إلى الولايات الأخرى، أو حتى السفر إلى خارج البلاد هربًا من الحرب الدائرة هناك، وحذر مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان “أوتشا” في أحدث تقرير من تزايد موجات النزوح من الخرطوم إلى ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض ونهر النيل والقضارف، بسبب القتال ونقص السلع الأساسية.
وقدر مسؤولون في مفوضية العون الإنساني عدد الذين غادروا الخرطوم إلى الولايات بأكثر من 700 ألف شخص حتى الآن، ومثّلت ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض في وسط البلاد، والشمالية ونهر النيل في شمالها، والقضارف وكسلا والبحر الأحمر شرقًا، الوجهة المفضلة للفارين من الحرب.
تصاعد أعمدة الدخان قرب السفارة الكويتية في الخرطوم، جراء المعارك العنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع المتمردة.#السودان pic.twitter.com/PoWnUeV3QJ
— Sudan News (@Sudan_tweet) April 24, 2023
كما تم تسجيل عمليات نزوح من مدن أخرى إلى مناطق أكثر آمانًا، من ذلك نزوح نحو 8 آلاف مواطن من ولاية شمال كردفان بغرب البلاد، كما تم الإبلاغ عن حالات نزوح في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور.
فضلًا عن النزوح داخل البلاد، شهد السودان عمليات هرب ولجوء إلى مصر وإثيوبيا، فيما وصل ما يتراوح بين 10 آلاف إلى 20 ألف لاجئ سوداني إلى تشاد المجاورة، معظمهم من النساء والأطفال الذين “يحتمون حاليًّا في العراء”، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ترجع أسباب نزوح وهجرة هذا العدد الكبير من الخرطوم وباقي المدن السودانية إلى تدهور الأوضاع الأمنية، فضلًا عن تدهور الخدمات ونفاد السلع التموينية وغلاؤها، ويؤشر تواصل الحرب إلى تفاقم حدة الأزمة وخروجها عن السيطرة.
كارثة إنسانية وشيكة بـ #السودان و تحذيرات من نفاد الماء والغذاء يارب كن معهم وألطف بهم من هذه الأزمة الكبيرة .?? pic.twitter.com/5Xpi6i2bB3
— ميريهان عاشور (@Resxy_rush) April 23, 2023
تعاني العديد من المدن السودانية في مقدمتها الخرطوم أوضاعًا إنسانيةً صعبةً، إذ خرج عدد كبير من المستشفيات عن الخدمة، وسجلت خدمات الكهرباء والمياه انقطاعات متكررة نتيجة القصف المتبادل بين طرفي النزاع، ما ضاعف معاناة الأهالي.
بدوره، حذر الصليب الأحمر الدولي من نفاد الماء والغذاء لدى المدنيين السودانيين المحاصرين في بيوتهم، فيما قالت منظمة “مجموعة الأزمات الدولية” غير الحكومية: “ملايين المدنيين محاصرون في القتال وتنفد لديهم بسرعة المواد الأساسية”.
تدمير عدد من بيوت المواطنين نتيجة قصف سلاح الطيران في منطقة #الكلاكلة_القبة شارع “15”
ووقوع عدد من الضحايا والإصابات #الخرطوم #السودان pic.twitter.com/d85hPIu65Z
— Dr- HanAmin ???? (@hanaelmeen1) April 24, 2023
تتزايد المخاوف في السودان من إمكانية تدهور الوضع أكثر، خاصة أن ملايين الأهالي هناك يعتمدون على المنظمات الإنسانية والدولية لتأمين احتياجاتهم الضرورية، وسبق أن قدرت هيئات إغاثية، عدد السودانيين المفتقدين للأمن الغذائي بنحو 11.7 مليون إنسان، منهم 8.2 ملايين يعتمدون على المنظمات الإنسانية لتأمين احتياجاتهم الغذائية.