الغنوشي.. ماذا يعني اعتقال أبرز زعماء المعارضة في تونس؟
ترجمة وتحرير: نون بوست
تونس، مهد الربيع العربي، كانت آخر دولة انتكس فيه. بعد عقد من الحرية والديمقراطية، قرّر الرئيس الجديد قيس سعيّد في سنة 2021 تعليق نشاط البرلمان وبعد فترة وجيزة بدأ فرض دستور استبدادي واعتقال منتقديه. وخلال هذا الأسبوع، اعتقلت الشرطة راشد الغنوشي، زعيم أكبر حزب سياسي في تونس والمفكر الأكثر تأثيرًا في العالم العربي المعروف بالتوليف المحتمل للديمقراطية الليبرالية والحكم الإسلامي.
وُلد الغنوشي في سنة 1941 لأبوين فلاحين فقيرين في الجنوب التونسي النائي، ودرس في القاهرة ودمشق وباريس، وقد زاول العديد من الأعمال الوضيعة في أوروبا قبل أن يعود إلى تونس في سنة 1971. في ذلك الوقت، كانت الحركات السياسية الإسلامية على غرار الإخوان المسلمين تتزايد في جميع أنحاء المنطقة كبديل للأنظمة الاستبدادية في السلطة. وفي سنة 1981، شارك الغنوشي في تأسيس حركة إسلامية تونسية. وسُجن الغنوشي وتعرض للتعذيب لمدة ثلاث سنوات، وفي سنة 1987 تم اعتقاله مرة أخرى وحُكم عليه بالإعدام قبل النفي إلى لندن (لم تستقبله أي دول عربية أخرى).
عاين الغنوشي الديمقراطية الليبرالية في بريطانيا من منظور إسلامي وهو ما ميّزه عن غيره من المثقفين العرب. منذ فترة طويلة، استنتج علماء الإسلام أنه يجب على المسلم أن يشعر بالأمان في حريته وممتلكاته ودينه وكرامته في “دار الإسلام”، وهو ما تطرّق إليه الغنوشي في أطروحته البارزة: “الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، التي بدأ كتابتها في السجن ونُشرت باللغة العربية في سنة 1993. فلماذا وجد الأمن في الغرب فقط؟ خلص إلى أن الدولة الإسلامية الحقيقية يجب أن تقوم على “حرية الضمير” للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء. ونقلاً عن عالم موقّر من القرن الثاني عشر، حثّ الغنوشي الإسلاميين على التعلم من الديمقراطية الغربية – للاستفادة “من أفضل التجارب البشرية بغض النظر عن أصولهم الدينية، لأن الحكمة هي توأم الشريعة”.
في سنة 2011، عندما دفعت موجة عفوية من الاحتجاجات الرئيس السابق زين العابدين بن علي إلى المنفى لتنطلق ثورات الربيع العربي، عاد الغنوشي إلى تونس وشارك في جعل الانتقال السياسي في البلاد الأكثر ليبراليةً في المنطقة، وبذل قصارى جهده لإنقاذ الديمقراطيات المحتملة في أماكن أخرى. وفي أواخر ربيع 2013 – قبل عقد من الزمان – سافر إلى مصر لتقديم المشورة لأول رئيس منتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، من جماعة الإخوان المسلمين. من الصعب الآن تذكر الآمال التي سادت في تلك الأشهر. لقد أجرت كل من تونس ومصر وليبيا انتخابات ذات مصداقية وبدأت في صياغة دساتير جديدة.
استشهد الخبراء الغربيون باليمن كنموذج للانتقال السلمي للسلطة. وحتى في سوريا كان معظم الثوار حينها يسيرون تحت راية الديمقراطية وليس تحت راية الإسلام المتطرف ولم تكن الانتفاضة قد تحوّلت بعد إلى حرب أهلية طائفية. وصلت رياح التغيير إلى ميدان التحرير، حيث أطاح اعتصام استمر 18 يومًا مستوحى من تونس بالرئيس حسني مبارك وفتح الطريق أمام مرسي قبل سنتين ونصف من لقائه بالغنوشي. كان معارضو مرسي يدعون لتنظيم احتجاجات للمطالبة باستقالته وكان قائد القوات المسلحة يرسل إشارات متضاربة حول ولائه.
أمضى الغنوشي أكثر من عقدين من الزمن يفكر ويكتب عن نفس الوعود التي أطلق الإخوان المسلمون في مصر حملتهم على أساسها: الجمع بين الحكم الإسلامي والانتخابات الديمقراطية والحريات الفردية. وقد أخبرني في مقر حزبه في تونس بعد عدة أشهر أنه حاول خلال رحلته إلى القاهرة إقناع مرسي بالتخلي عن بعض السلطة طواعيةً من أجل تحقيق هذه الأهداف. (أكد مستشارو مرسي لاحقًا الخطوط العريضة لرواية الغنوشي، التي أخبرني بشأنها بشرط أن أبقيها سرية في ذلك الوقت).
بعد ثورات مثل تلك التي حدثت في مصر وتونس، كان يجب على حزب الأغلبية أن يتفهم خوف الأقليات السياسية أو الدينية، مثل الليبراليين ذوي التوجهات العلمانية في مصر والمسيحيين الأقباط الذين كانوا يتمتعون ببعض الحماية في ظل النظام الاستبدادي القديم. وقد فقدوا تلك الحماية دون سبب وجيه حتى الآن للثقة في الوعود المتعلقة بسيادة القانون والضوابط والتوازنات والحقوق الفردية. وبسبب النجاح الانتخابي لجماعة الإخوان على وجه التحديد – فاز مرسي بالفعل بالمصادقة على الدستور الجديد – وجب تشكيل حكومة وحدة قبل إجراء انتخابات أخرى من أجل مصلحة الديمقراطية وطمأنة منافسي الحزب الأضعف. فلماذا ظل نقطة جذب لمخاوف خصومه أو استيائهم؟ أخبرني الغنوشي بأن “ديمقراطية الإجماع هي التي تنجح – وليس ديمقراطية الأغلبية”.
مرسي رفض تلك النصيحة مقتنعًا بأن التنازل عن السلطة تحت التهديد بالاحتجاجات سيكون استسلامًا للابتزاز السياسي وسابقة خطيرة، إلا أنه لو اتبع نصيحة الغنوشي لربما كان بإمكانه نزع فتيل الاحتجاجات التي ملأت الشوارع يوم 30 حزيران/ يونيو للمطالبة بالإطاحة به، أو على الأقل كسب ولاء المزيد من الليبراليين المصريين. لن نعرف أبدًا: ففي الثالث من تموز/ يوليو 2013 أطاح اللواء عبد الفتاح السيسي – الرئيس المصري الحالي، وربما سيبقى كذلك مدى الحياة – بمرسي من السلطة، منهيًا تجربة مصر مع الديمقراطية والحرية التي استمرت ثلاثين شهرًا.
على الرغم من مقتل أكثر من ألف مصري من ذوي التوجهات الإسلاموية في الشوارع لمعارضتهم الانقلاب، وسجن عشرات الآلاف الآخرين، ومطالبة المعارضين في الخفاء أو في المنفى بالانتقام من الفصائل الليبرالية ظاهريًا التي دعمت في البداية استيلاء السيسي على السلطة، لا يزال الغنوشي يحثّ على المصالحة قائلا إن “السفينة المصرية بحاجة إلى ضمّ جميع المصريين وعدم التخلي عن بعضهم. ولا ينبغي أن يكون هناك عقاب جماعي. ليس هناك أي علاج للديمقراطية الفاشلة سوى المزيد من الديمقراطية”.
في أعقاب الانقلاب المصري، تعثرت ثورات الربيع العربي واحدة تلو الأخرى بسبب اليأس والتطرف، على عكس ما حدث في سنة 2011 عندما أثار اعتصام ميدان التحرير الحركات الديمقراطية في عواصم المنطقة. كانت تونس الاستثناء، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الغنوشي اتبع نصيحته الخاصة هناك في السنة الموالية حين فاز الحزب الإسلامي الذي شارك في تأسيسه وقيادته “حركة النهضة” بأغلبية ساحقة في البرلمان. وبحلول أواخر سنة 2013 أدى اغتيال اثنين من السياسيين العلمانيين ذوي التوجهات اليسارية إلى وقف العملية السياسية وصياغة الدستور، وقد اشتبه المعارضون في قيام متطرفين إسلاميين بتنفيذ عمليات الاغتيال وألقوا باللوم على النهضة لفشلها في منع حدوث ذلك.
تحدّى الغنوشي، الذي لم يكن يشغل أي منصب منتخب في ذلك الوقت، الكثيرين في حزبه للتوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة مع الزعيم الرئيسي للمعارضة العلمانية. وسلّمت النهضة السلطة طواعيةً إلى حكومة انتقالية للإشراف على الانتخابات الجديدة الأمر الذي قلل من حدة المأزق. احتفلت تونس بالذكرى السنوية الرابعة للثورة – وبدأ أنها انتفاضة الربيع العربي الوحيدة الناجحة – وحصلت منظمات المجتمع المدني التي ساعدت في رعاية المحادثات بين الغنوشي والمعارضة على جائزة نوبل للسلام. وخلال زيارته لواشنطن، قال الغنوشي “نحن لسنا ملائكة؛ نود الحصول على السلطة، ولكننا نعتقد بشدة أن الدستور الديمقراطي أكثر أهمية”.
كانت النهضة تحت قيادة الغنوشي مثالاً فريدًا لما أسماه البعض الإسلاموية الليبرالية. في الواقع، ساعد الغنوشي في إقناع قادة النهضة بالتخلّي عن لقب “الإسلاميين” والبدء في وصف أنفسهم بأنهم ديمقراطيون مسلمون. (نشر مقالاً في مجلة “فورين أفيرز” يشرح التغيير). ساهم حزبه، الذي قاد عملية صياغة الدستور، في إصدار ميثاق تضمّن حماية صريحةً لحقوق المرأة والأقليات الدينية. وقد أشار في سنة 2014 إلى أن دستور تونس من الدساتير العربيّة القليلة التي لا تتضمن إشارة إلى الشريعة الإسلامية. وأكدّ لي أن تونس تضمن الحريات للمساجد والكنائس والمعابد اليهودية وحتى “الحانات”. ولم يصل الأمر إلى حد تأييد زواج المثليين، لكنه وصف الحياة الجنسية بأنها مسألة شخصية بحتة – وهو موقف أكثر ليبرالية من ذلك الذي تتخذه أي حكومة عربية تقريبًا.
لم يتعافَ الاقتصاد التونسي القائم إلى حدّ كبير على السياحة تمامًا من مشاهد الاضطرابات في أعقاب انتفاضة الربيع العربي، وتسببت الجائحة في غلق جميع المنتجعات. أدّت سنوات من التقاعس النسبي من قبل الحكومة المؤقتة التونسية وخلفائها إلى رد فعل عنيف ضد الطبقة السياسية بأكملها، وخاصة ضد حركة النهضة. وخلال انتخابات سنة 2019، اتخذ الغنوشي أيضًا قرارًا مشكوكًا فيه بالسعي للحصول على مقعد في البرلمان ثم تم اختياره رئيسًا له ليصبح بذلك سياسيًا، الأمر الذي استنكره عماد شاهين، عالم الإسلام السياسي المصري الذي يعيش في المنفى والبروفيسور الزائر في هارفارد، قائلا “كان البرلمان بمثابة سيرك – وليس مكانًا لزعيم من عياره الفكري. لقد استهلكته السياسة التافهة”.
الضربة التي تتعرض لها الديمقراطية التونسية واضحة، ولكن سجن زعيم فريد مثل الغنوشي يمثل أيضًا نكسة للعالم على نطاق أوسع. أما بالنسبة للإسلاميين الذين يتبنون العنف، فإن سجنه هو إثبات – أو دليل جديد على عدم جدوى وجود صندوق الاقتراع. وإسكات صوته خسارة للغرب أيضًا
في انتخابات 2019، رفض الناخبون كل مرشّح رئاسي كان قد شغل منصبًا في الدولة. ووصل اثنان من الشعبويين – قطب إعلامي بارز وأستاذ قانون غامض، حصلا معًا على ثلث الأصوات فقط – إلى الجولة الثانية. فاز الأستاذ سعيّد الذي كانت أفكاره في نواح كثيرة عكس أفكار الغنوشي بأغلبية ساحقة. وقد نبذ سعيّد أي فلسفة أو فصيل سياسي معروف، وانتقد الغرب بشكل روتيني، ووجّه انتقادات لاذعة خاصة إلى صندوق النقد الدولي، الذي تحتاج تونس حاليا بشدة إلى دعمه.
يعِد مشروع دستور سعيّد بأن الدولة “ستعمل على تحقيق أهداف الإسلام الخالص” ويمنح الحكومة السيطرة على التفسير والتعاليم الإسلامية. وقد نعت المثليين بـ “المنحرفين” ودعم تجريم المثلية الجنسية. وهذه السنة، في تكييفه الخاص لـ “نظرية الاستبدال” أطلق موجة من العنف ضد السود ليكون بذلك المهاجرون الأفارقة ذوي البشرة السمراء كبش فداء للأزمة الاقتصادية في تونس.
في البداية، استشهد سعيّد بالأزمة التي تسببت فيها الجائحة كذريعة لحل البرلمان والحكم بمرسوم، ولم يمض وقت طويل حتى بدأ في اعتقال قائمة طويلة من النقاد والمعارضين. وبلغت هذه الاعتقالات ذروتها هذا الأسبوع باعتقال الغنوشي الذي تتعلق جريمته المزعومة بتصريح أدلى به في نهاية الأسبوع الماضي: “تونس بدون النهضة، بدون إسلام سياسي، بدون اليسار أو أي من مكوناته، مشروع حرب أهلية”. وقبل وقت قصير من المغرب في ليلة القدر يوم الإثنين – أقدس ليلة في رمضان – داهم أكثر من مائة ضابط شرطة يرتدون ملابس مدنية منزله، وذلك حسب ما أفاد به حزبه في بيان. وبعد يومين في الحجز، تم استجواب الغنوشي البالغ من العمر الآن 81 سنة لمدة ثماني ساعات، وحكم عليه قاض يوم الخميس بالحبس الاحتياطي المطوّل. وقد اتُهم في البداية بالتحريض لكنه يواجه الآن اتهامات بالتآمر ضد أمن الدولة – وهي جريمة تصل عقوبتها إلى الإعدام.
إن الضربة التي تتعرض لها الديمقراطية التونسية واضحة، ولكن سجن زعيم فريد مثل الغنوشي يمثل أيضًا نكسة للعالم على نطاق أوسع. أما بالنسبة للإسلاميين الذين يتبنون العنف، فإن سجنه هو إثبات – أو دليل جديد على عدم جدوى وجود صندوق الاقتراع. وإسكات صوته خسارة للغرب أيضًا.
أخبرني روبرت كاجان، مؤرخ السياسة الخارجية الأمريكية، أن “اتحاد الإسلام والليبرالية والحكم الديمقراطي هو الحل لمشاكلنا في العالم العربي، وهو الحل لمشكلتهم معنا”. وهو الأمر الذي حاول الغنوشي تنفيذه في تونس قبل 10 سنوات ولم ينجح في ذلك، ولكنه برغم ذلك يدعو – في مقطع فيديو مسجل مسبقًا نُشر يوم الخميس – التونسيين إلى الصبر قائلًا: “ثقوا بمبادئ ثورتكم. الديمقراطية في تونس ليست أمرًا عابرًا”.
المصدر: نيويوركر