بانتخابها أول رئيس أسود في تاريخها، ظن الكثيرون أن مسألة العنصرية ضد السود قد انتهت في الولايات المتحدة، ولكن الناشطة والأستاذة السمراء المعروفة “أنجِلا ديفيس” تشير بوضوح إلى أن المسألة ليست مسألة أشخاص وإنما منهجية كاملة داخل مؤسسات الدولة الأمريكية يجب أن تتغير، لاسيما مؤسسات الشرطة والأمن والسجون، والتي عاد تسليط الضوء عليها مؤخرًا إثر واقعة فرغسون في ولاية ميسوري.
وكانت فرغسون قد شهدت احتجاجات واسعة في أغسطس الماضي بعد مقتل “مايكل براون”، الأسود البالغ من العمر 18 عامًا، برصاص دارِن ويلسون، ضابط شرطة اشتبه في ضلوعه بسطو مسلّح، والذي حكمت المحكمة ببراءته من أي تهمة متعلقة بالحادثة في نوفمبر الماضي؛ ما أجج التظاهرات في فرغسون، والتي واجهتها الشرطة بدرجة من العنف طبقًا للعديد من المصادر.
تحدثنا أنجلا ديفيس عن رؤيتها لما جرى، وهي الناشطة الثورية منذ الستينيات في الحراك ضد العنصرية، والتي اتهمها الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” بالإرهاب، في حين حاول الرئيس “رونالد ريجان” طردها من الجامعة، فتقول ببساطة إن العنف الحالي لا يُمكن أن يُفهَم كحادثة منفردة، كما أن عدم إدانة ويلسون ليس هو الأزمة الرئيسية هنا، فالأزمة كما تراها ممتدة ربما إلى عصور العبودية، وما تلاها من ترسيخ لنظام عنصري، ونشوء جماعات بيضاء متطرفة مثل كو كلوكس كلان في أواخر القرن التاسع عشر.
بالطبع لا تتجاهل ديفيس تلك الحوادث المنفردة، ولكنها تشير لكونها مجرد دليل على استمرار العنصرية حتى تحت حكم الرئيس أوباما، وتذكرنا بحادثة وقعت عام 2012، حين أُصيب مارتِن، طالب أسود في المدرسة، بطلق ناري من قبل أحد مراقبي الجريمة في الحي، والذي تمت تبرءته في النهاية.
آنجيلا مطلوبة لدى الإف بي آي في 1970
لا شك أن أوضاع الأمريكيين الأفارقة اليوم أفضل كثيرًا مما كان عليه الحال سابقًا، ولكن ديفيس ليست متفائلة بالمنظومة ككُل، فكما يقول أحد زملائها، “منظومة العدالة في الولايات المتحدة لا تخدم ذوي البشرة السوداء والبُنية، وأنها لا تزال أسيرة قوانين جيم كرو” – وهي قوانين الفصل العنصري في أواخر القرن التاسع عشر والتي بقيت حتى عام 1965 في الجنوب الأمريكي، حيث نشأت ديفيس -.
تحالف السجون الاقتصادي
ولى زمن تلك القوانين، ولكن العنصرية الكامنة فيها تظل إلى اليوم، كما تقول ديفيس، والتي تشير لما تسميه “تحالف السجون الاقتصادي” بين القوى المختلفة في السوق والدولة العنصرية بنيويًا، “السجن المبالغ فيه لذوي البشرات الملوّنة بشكل عام هنا يؤدي إلى غياب ممارسة هؤلاء لحقوقهم المدنية والديمقراطية، لأن السجناء لا يستطيعون الإدلاء بأصواتهم، وبعض السجناء الذين انتهت مدة سجنهم أيضًا لا يمكنهم التصويت في بعض الولايات، كما أنه يتم منع هؤلاء من وظائف كثيرة نظرًا لتاريخهم الجنائي”.
توسّع ديفيس من رؤيتنا للحالة الأمريكية وتقول إنها في الحقيقة حالة عامة في شتى أنحاء العالم، حيث يمثل السود نسبة أكبر في سجون بريطانيا من سجون الولايات المتحدة على سبيل المثال، وهو ما يعني أن المسألة اقتصادية سياسية بالأساس، فتحالف السجون الاقتصادي ليس مجرد أداة لجني الأرباح، على حد قولها، ولكن منظومة كاملة لتحديد من هو المجرم في دول كثيرة، “من المهم هنا أن ننظر إلى تحولات رأس المال في السوق، والذي يستتبع وجود قطاعات مهمّشة كثيرة عاجزة عن الوصول إلى المعيشة الكريمة، وهي بالتالي أكثر اتجاهًا للممارسات التي تعتبرها المنظومة إجرامية”، هكذا إذن تنشأ السجون في كل مكان بالعالم، وأحيانًا بمساعدة من القطاع الخاص، والذي يحقق الأرباح من وراء أولئك “المجرمين” الذين أفقرهم أصلاً في بادئ الأمر”.
إذا كان هذا صحيحًا، فماذا فعل أوباما إذن؟ ألا يشعر الأمريكيون الأفارقة بالإحباط لفشله في تغيير الواقع العنصري؟ ترد ديفيس على هذا السؤال مبتسمة، وتتذكر حوارًا مع أحد زملائها في الجامعة: “يحب الناس دومًا أن يشيروا إلى شخص بعينه مثل أوباما، وتحميله المسؤولية لكل ما يدور، وأباما بالفعل كان يمكن أن يفعل أكثر من ذلك لخدمة قضية الأفارقة – مثل إغلاق جوانتانامو – ولكن هذا الأسلوب في التعامل مع المستقبل السياسي لقضية ما كان خاطئًا منذ البداية، فتغيير الأمر الواقع يقع على عاتق حركة الجماعة، لا مبادرة الفرد، مهما كانت سلطته ومنصبه”.
“يجب علينا أن نلوم أنفسنا دومًا، وأن نسأل لماذا لم نخلق الحراك المطلوب لوضع المزيد من الضغط على أوباما نفسه وإدارته لمعالجة تلك القضايا، لو كنا قد فعلنا ذلك ونزلنا إلى الشوارع محتجين، لربما حصلنا على خطة أفضل للرعاية الصحية مثلاً بمواجهة ضغوط حزب الشاي اليميني”.
لطالما ناضلت ديفيس ضد مؤسسة السجن ذاتها، واعتبرتها عنصرية ووحشية، وغير ذات فائدة، اللهم إلا لمن يتربحون من ورائها، وهو ما يعني أنها لن تحل أبدًا مشكلة الجريمة كما تقول بعض النظريات على الورق، بل وتعيد إنتاج ذات المشكلة، وهو تفسير مناسب كما تقول لأسباب التبرئة الدائمة للضباط البيض الذين يقتلون الأفارقة بالرصاص الحي.
وصمة الإرهاب
مؤخرًا، ارتفعت أصوات نسوية بين الناشطات تقول بأن بيونسيه، المطربة السمراء المعروفة، إرهابية ومعادية للنساء لأن ما تفعله بأغاينها ينسج صورة لها باعتبارها من العبيد، وهو ربما ما دفعها لوضع كلمات نسوية على إحدى ألبوماتها الغنائية، للناشطة النيجيرية تشيماماندا نجوزي.
ولكن ديفيس تعتقد أن استخدام مصطلح الإرهاب أمر غير مقبول، مهما كانت الخلافات مع ما تفعله بيونسيه، “إطلاق اللفظ جزافًا هكذا أمر غير مسؤول، نحن نعلم جيدًا أنه استُخدِم طويلاً لتجريم نضالنا للتحرر، لقد نشأت في زمن بلغت فيه العنصرية حد إحراق كنيسة سمحت بحوار بين البيض والسود، وتفجير منازل السود، ومع ذلك لم نسمع عمن يشير لكل ذلك بالإرهاب، بل على العكس، عادة ما استُخدِمَت الكلمة للإشارة لأي خطر خارجي، ولكن ليس لدينا مثلاً دراسة عن تاريخ الإرهاب ضد السكان الأصليين، أو تاريخ الإرهاب ضد الأفارقة؛ لذلك لا يمكننا أبدًا نعت بيونسيه بالإرهاب”، هكذا تقول ضاحكة.
ديفيس تحديدًا تدرك ما تعنيه كلمة الإرهاب، والتي وصمها بها الرئيس نيكسون منذ 44 عامًا، حين كانت على قائمة أهم عشرة مطلوبين لجهاز المباحث الفيدرالية (FBI)، ليتم القبض عليها واتهامها بالضلوع في الخطف والقتل، وهي تُهَم كان يمكن أن تُعدَم لأجلها، أثناء محاكمتها عام 1972، تمت تبرئتها، ولكن بعض زملائها في حركة الفهود السود كانوا أقل حظًا.
“لا يزال راتشل ماجي في السجن حتى الآن، وهو زميل سابق، والعديد من أعضاء الفهود السود المحبوسين ظلمًا يقبعون خلف القضبان إلى اليوم”، بيد أن هؤلاء قد يكونوا أوفر حظًا من جورج جاكسون، رفيقها الذي لم يسمح لها القدر بالزواج منه إذ قتلته الشرطة عام 1971 في محاولة للهرب من السجن، ومنذ ذلك الحين لم تتزوج ديفيس.
مع ذلك، هناك دومًا أمل، كما تشي حالة ألبرت وودفوكس، المحبوس في قضية سطو مسلح، والذي سُجِن لمدة 42 عامًا قبل أن يُفرَج عنه الشهر الماضي بعد إبطال الحكم ضده، تُبدي ديفيس سعادة بزميلها، ولكنها تتساءل لماذا استغرق الأمر طويلاً، وتتساءل أيضًا لماذا وضعت المباحث الفيدرالية مؤخرًا أساتا شاكور على قائمة المطلوبين، وهي ناشطة سابقة ومؤيدة للفهود السود، ورصدت مليوني دولار لمن يمسك بها، تقول ديفيس إن هذا يعني سباقًا بين شركات المرتزقة الأمنية للوصول إليها في كوبا (حيث تعيش أساتا منذ عقود)، ولكنه يُعَد أيضًا هجومًا على الملايين من معجبيها في الولايات المتحدة، واستمرار في سياسة وصم الحراك الراديكالي بالإرهاب.
رُغم استمرار المعاناة، تقول ديفيس إن شباب اليوم أشد من أجيال كثيرة سبقت، وأنه لا يمكن لي عنقه بسهولة، لاسيما ونسبة المشاركين في الأنشطة والحركات السياسية اليوم أعلى مما كان عليه الحال في ستينيات القرن الماضي، حركة احتلال وول ستريت تحديدًا تلفت نظرها في هذا الشأن.
“ربما لا يعرف الكثيرون ما الذي يريدونه من احتلال وول ستريت، ولكنهم بالقطع يعرفون ما لا يريدونه: النظام الرأسمالي، أعتقد أن تأثير هذه الحركة سيستمر معنا وإن انفضت بسهولة، ونحن نرى الآن بعضًا من ذلك في احتجاجات فرغسون، إذ يبدو هناك وعي غير مسبوق بأهمية تعديل المنظومة العنصرية ككل، لا ملاحقة ضابط واحد فقط، هناك الآن إدراك بالصلة الوطيدة بين العنصرية والعنف من ناحية، والمنظومة الاقتصادية من ناحية أخرى .. هذه هي معركتنا الآن”.
من الغارديان