تحني خولة حسن ظهرها خلال العمل على حفر أحواض حول الأشجار التي ستثمر قريبًا تفاحا ومانجو وبرقوق. تبلغ خولة من العمر 38 سنة وهي أم لثمانية أطفال، فرّت من حلب المنكوبة بالحرب في سوريا، وأعادت بناء حياتها رفقة أسرتها في لبنان.
في هذا البستان القريب من بلدة عنجر في وادي البقاع، ترقص الأشجار التي لا تزال في سباتها في النسيم العليل مطلّة على القمم الثلجية لجبل لبنان. تعمل خولة هنا تقريبا كل يوم لتوفير احتياجات أسرتها. تنهدت خولة وهي تتذكر العمل الذي كانت تقوم به في سوريا قائلة “لا أحب العمل في الحقل. أتمنى أن أتمكن من العودة إلى الخياطة، حيث سأكون في المنزل بجانب أطفالي وأعمل في نفس الوقت”.
وفقا لدراسة نشرتها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) سنة 2021، فإن 85.7 بالمئة من العمال الزراعيين في لبنان يعملون ضمن قطاع غير رسمي ومعظمهم من النساء. وأكدت زينب ديراني، المسؤولة الميدانية في منظمة “فيميل”، وهي منظمة نسوية غير حكومية لها مكتب في وادي البقاع في لبنان، أن “النساء السوريات يمثّلن الغالبية العظمى من العاملين في الحقول. ويجنين نصف ما يكسبه الرجال مقابل العمل نفسه”.
تمثل النساء قوة عمل رخيصة وقابلة للاستغلال. فنظرا لأن اللاجئين السوريين ممنوعون من ممارسة معظم المهن في لبنان، فإن العمل في الحقول بجوار مخيمات اللاجئين يعتبر غالبا الوظيفة الوحيدة التي يمكن النساء العثور عليها.
ظروف عمل صعبة
في موسم الذروة، لا يتجاوز راتب خولة اليومي 100 ألف ليرة (حوالي دولار واحد، حسب سعر السوق السوداء الحالي). وبهذا المبلغ البسيط، يتعين عليها إطعام أسرتها ودفع حوالي 65 دولارا للإيجار وفاتورة كهرباء خيمتهم شهريًا في مخيم لاجئين متوسط الحجم بالقرب من بر الياس.
نحن نعمل كل يوم ما بين 5 إلى 10 ساعات يوميًا. ليس لدينا أي أيام إجازة ولا عطل
قالت خولة “زوجي سائق شاحنة، ولكن رواتبنا المتواضعة ليست كافية لإعالة ستة أشخاص”. ومن تشرين الثاني/ نوفمبر إلى أيار/ مايو، تبقى خولة عاطلة عن العمل لأن معظم المزارع لا تحتاج إلى عمال عندما يحِلّ فصل الشتاء. وتتمثل مهمتها الوحيدة في الوقت الحالي في الاعتناء بالبساتين التي يديرها علي إبراهيم، وهو سوري يعيش في البستان مع عائلته. وشرح الرجل من حلب قائلا “في الشتاء، لا يدفع لنا المالك أجرا، لكنه يسمح لنا بجمع الحطب مجانًا”.
تسير حياة خولة وفق جدول زمني محكم. صرّحت لموقع “ميدل إيست آي” قائلة: “أستيقظ بين الساعة السادسة والسابعة صباحا، أصطحب أطفالي إلى المدرسة، ومن ثم أنظف الخيمة قبل الذهاب إلى العمل”. ثم تتوجه مع باقي العاملات السوريات في الحقل، مصطحبة ابنتها إخلاص البالغة من العمر 16 سنة وطفلتها البالغة سنتين، إلى الحقول التي سيعملن فيها في ذلك اليوم.
وتشتكي الأم السورية وهي تحفر أحواضا حول الأشجار “نحن نعمل كل يوم ما بين 5 إلى 10 ساعات يوميًا. ليس لدينا أي أيام إجازة ولا عطل”. تحمل خولة طفلتها الصغيرة طوال اليوم بينما تعمل، وهو ما أدى، حسب قولها، إلى إصابتها بآلام مزمنة. وأوضحت خولة قائلة “أعاني من آلام مستمرة في ساقي وقدمي. أتناول المسكنات، ولكن لا أستطيع دائماً تحمل تكلفتها”.
بمفردهن
يعاني لبنان منذ سنة 2019 من إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم. ويعزى ذلك إلى انهيار القطاع المصرفي وفساد النخب السياسية في البلاد، مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية. وفي ظل تعذّر الحصول على زيت الطهي والغاز، يعيش 82 بالمئة من اللبنانيين و97 بالمئة من السوريين في لبنان في فقر متعدد الأبعاد.
تعتمد خولة وعائلتها على المساعدة المحدودة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تتولى مسؤولية اللاجئين السوريين في لبنان. وقالت “نتلقى مساعدة مالية شهرية قدرها 5 ملايين ليرة (50 دولارًا) يمكننا استخدامها فقط في المحلات التجارية، والتي تغشنا وتحتفظ بنسبة من أموالنا”.
تشعر خولة بالتهميش من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وأوردت قائلة “لا يساعدون ابني الذي يعاني من إعاقة. بالإضافة إلى ذلك، لقد انتظرنا لمدة سنتين تقريبًا حتى يضيفوا ابني الأصغر إلى ملف عائلتنا”.
لا يقدم لبنان أي دعم للاجئين السوريين في البلاد. ففي سنة 2022، وفقًا لسياسة “العودة الطوعية” لدفعهم للعودة إلى سوريا، قام الجيش بتنفيذ مداهمات في مخيمات البقاع لمصادرة التلفزيونات وأطباق الأقمار الصناعية – وهي إحدى الطرق العديدة لزيادة الضغط.
وقالت خولة “داهموا خيامنا بينما كنا نائمين. وكان زوجي محمد مسجلا لدى السلطات، لذا لم يفعلوا لنا شيئًا. أما الرجال الآخرون الذين لا يملكون أوراقًا رسمية، فقد تم اقتيادهم إلى مركز الشرطة وضربهم قبل إطلاق سراحهم”.
مخاطر العنف
إذا واجه اللاجئون السوريون العنصرية والتمييز في لبنان، فغالبًا ما يكون “الشاويش” مسؤولا عن ذلك – الرجل المسؤول عن تنفيذ أوامر مالك الأرض في الحقول. وقالت خولة إن “الشاويش الذي أعمل معه عنصري ولا يتصرف بشكل لائق. نحن 40 عاملًا ونُطالَب بالعمل كالآلات. إنه يعاملنا كالعبيد”. غالبًا ما يستخدم الشاويش العنف كوسيلة للضغط لتعزيز إنتاجية العمال. وأضافت خولة “يصرخون علينا لنزيد السرعة ويشتموننا. وإذا كنا بطيئين في جمع الخضروات، فإنهم يضربوننا”.
تؤيد ديراني من منظمة “فيميل” ذلك قائلة “لقد شهدت الكثير من العنف من الشاويش في الحقول، والذي يمكن أن يصل حد التحرش الجنسي بالنساء”. وتلتزم العديد من النساء الصمت خوفًا من تعرضهن للعقاب أو الفصل. وقالت ديراني إن “الشرطة ليست خيارًا، لأنه لن يكون هناك أي متابعة”.
عندما لا يكون من الممكن ترك العمل مع شاويش عنيف، فلا خيار أمام النساء سوى التوحد ودعم بعضهن البعض. حيال ذلك، أوردت خولة “نحن نوحد قوانا معًا. إذا مرضت، تتولى امرأة أخرى أعمالي اليومية”.
إضرابات غير رسمية
بما أنه لا توجد عقود رسمية في معظم أعمال الزراعة في لبنان، فإن الثقة فقط هي التي تحكم العلاقة بين العمال وأرباب العمل. فعلى سبيل المثال، تعتبر الإضرابات غير الرسمية غالبًا الطريقة الوحيدة التي يمكن للنساء من خلالها المطالبة بزيادة الأجور. وقال إبراهيم، العامل السوري في عنجر “توقفت العاملات عن العمل عدة مرات في الماضي للضغط على الشاويش لزيادة رواتبهن”.
عندما يحتشد عمال الحقول في البقاع من خلال هذه الإضرابات غير الرسمية، يتعيّن على جميع الشواويش في الوادي الاتفاق على راتب يومي. وقالت خولة “نأمل أن يرتفع أجرنا في الموسم المقبل إلى 6 دولارات يوميًا”. وفي الواقع، لا يمتلك عمال الحقول السوريين خيارات أخرى كثيرة لممارسة حقوقهم. وبما أن لبنان لا يعترف بهم رسميًا كلاجئين، فإنهم يُحرمون من أي اعتراف سياسي وخدمات اجتماعية.
الحلم بمستقبل أفضل
تجد خولة الدعم من عائلتها، ولا سيما ابنتها إخلاص، التي تشاركها في مهامها. عندما يعودون من الحقول، تنتظرهن وظيفة غير رسمية أخرى. تنهدت خولة قائلة “نطبخ لمدة ثلاث ساعات وننظف خيمتنا لساعتين إضافيتين”. كما يتعيّن عليها الاهتمام بابنها حسين البالغ من العمر 7 سنوات، الذي يتطلب وضعه الصحي الخاص المزيد من الاهتمام. وأضافت خولة بصوت متعب “في بعض الأحيان يكون الوضع مرهقا أكثر من اللازم، لست في مزاج جيد، لكن يجب أن أبقى متحمسة من أجله”.
إنها الساعة العاشرة مساءً، والطقس في الوادي يزداد برودة. وتشعر الأم وابنتها بالإرهاق بعد يومين شاقين من العمل بينما ينام الأطفال الآخرون تحت البطانيات الثقيلة، وهم يغطون في نوم عميق حول الموقد في مركز الخيمة.
ذكرت خولة “أنا أعمل من أجلهم. حلمي هو أن أمنح أطفالي حياة لائقة مع سكن مناسب وتعليم أفضل”. وفي حياة أخرى، تحلم أن تصبح ابنتها إسراء البالغة من العمر 12 سنة محامية، ويسافر ابنها زكريا البالغ من العمر 16 سنة إلى ألمانيا ليصبح مصورًا فوتوغرافيًا بعيدًا عن الحقول التي يحلمون بمغادرتها، لكنهم سيعودون إليها حتمًا صباح اليوم التالي.
المصدر: ميدل إيست آي
الكتاب: فيليب بيرنو، مارين كاليب، فرانسوا روبرت دوراند