ترجمة حفصة جودة
“تأخير العدالة بمثابة الحرمان منها”، هكذا يقول المثل، لكن بالنسبة لجرائم الحرب التي ارتكبتها أستراليا في أفغانستان، فالأمر ليس ببساطة الروتين الفاتر للبيروقراطية، إنه نتيجة حملة سياسية لتقديس الأبطال وتهرب القادة من المسؤولية وسلسلة من تستر المحققين.
في شهر مارس/آذار، اتُهم الجندي السابق في الخدمة الجوية الخاصة “SAS” أوليفر شولز – 41 عامًا – رسميًا بارتكاب جريمة حرب، هذا الاتهام يعد سابقة تاريخية في أستراليا، فلم يواجه أي جندي حاليّ أو متقاعد بالجيش الاتهام بارتكاب جريمة حرب، وفي محكمة مدنية.
ترجع التهمة إلى إطلاق النار على المزارع الشاب داد محمد عام 2012 في مقاطعة أوروزغان، وإذا أُدين شولز في تلك المحاكمة فسيواجه السجن مدى الحياة.
استغرق الأمر عقدًا كاملًا لتصل القضية إلى هذه النقطة، رغم أنه على عكس ما قد يعتقد البعض، لم يُقتل محمد سرًا في قبو مظلم حقير، بل قُتل في وضح النهار وأمام عدة شهود.
قدم هؤلاء الشهود الأفغان بالإضافة إلى أسرة محمد شكاوى لقوات الدفاع الأسترالية وللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان.
مسؤولية مشتركة؟
نظر جهاز التحقيقات التابعة لقوات الدفاع الأسترالية في القضية، لكنه وقّع على رواية الخدمة الجوية الخاصة للأحداث، التي تقول إن محمد كان أحد أفراد طالبان ويحمل جهازًا لاسلكيًا وقد قُتل دفاعًا عن النفس لأنه كان يقوم بمناورة تكتيكية.
في معظم الحالات، لم يكلف المحققون أنفسهم عناء التحدث إلى الشهود قبل رفض هذه المزاعم، هذا التحقيق لم يتجاوز حتى قدرات مركز شرطة صغير، ناهيك بفرع النخبة لقوة دفاع محترفة
لقد قيل الكثير عن احتيال القوات والمسؤولية الفردية، لكن ماذا عن المسؤولية المشتركة؟ إن القول بانحراف الرواية الرسمية عن الحقيقة يعد بخسًا للقضية، لكن الأكثر إزعاجًا تسليم المحققين بالرواية من بداية القضية دون البحث والتحقيق.
ظهرت رواية أخرى للحدث بعد عدة سنوات عندما سُربت لقطات فيديو من الحادث لهيئة الإذاعة الأسترالية “ABC”، كان محمد يرقد وسط حقل القمح هادئًا دون مقاومة عندما أُطلق عليه النار مباشرة من مسافة قريبة، لم يكن محمد يحمل جهازًا لاسلكيًا لطالبان، بل مسبحة حمراء.
المشكلة هنا، أنه عندما اشتكى الشهود وأفراد الأسرة في تلك القضية وعشرات القضايا الأخرى التي يُعاد التحقيق فيها الآن، عُوملوا كأنهم محتالون، وصُنف الموتى على أنهم “إرهابيون”.
لم يكن الأمر مجرد رأي، فما يمكن وصفه بأفكار مسبقة عنصرية ممنهجة كان موجودًا في تحقيق قوات الدفاع الأسترالية نفسها، المعروف باسم “تقرير بريرتون” الذي وجد أن المحققين تجاهلوا بشكل عام الشكاوى المحلية باعتبارها دعاوى تحريضية أو تسعى للتعويض، بما في ذلك الشكاوى التي قدمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان.
وبقراءة ما بين السطور، سنجد أنه في معظم الحالات، لم يكلف المحققون أنفسهم عناء التحدث إلى الشهود قبل رفض هذه المزاعم، هذا التحقيق لم يتجاوز حتى قدرات مركز شرطة صغير، ناهيك بفرع النخبة لقوة دفاع محترفة.
خرافات الإعلام
لم يكن تجاهل الحقيقة مرتبطًا بالجيش فقط، فقد شاركت وسائل الإعلام السائدة – على سبيل المثال لا الحصر شركة “Rupert Murdoch’s News” – في تبييض دورها في تصوير دور أستراليا الخرافي في الحرب الأفغانية، مثلما فعلت مع غزو العراق في ذكراه العشرين.
شكلت الرواية الرسمية – الشجعان الأخيار مقابل الأشرار – أساس الحملة الوطنية لتمجيد قوات الخدمة الجوية الخاصة باعتبارهم الفرقة الأساسية للمحاربين الأستراليين.
لم يفشل الصحفيون التابعون للجيش مطلقًا في استغلال علامة يوم “ANZAC” المشهورة (يوم وطني أسترالي لذكرى الذين ماتوا في الحروب)، لكن مثل محققي قوات الدفاع، فشلوا في إثارة ولو القليل من الشك بشأن ما كان يحدث عبر أجهزة اللاسلكي.
كانت الحملة الإعلامية لتمجيد الجيش – عن قصد أو غير ذلك – ناجحة للغاية، حتى إن الصحفيين أنفسهم كانوا مصدومين بعد الأدلة التي أعقبت تقرير بريرتون واتهام شولز بالقتل.
في الحقيقة، كانت معظم التقارير الإعلامية الأسترالية عن جرائم الحرب تتخذ نغمة دفاعية، وتستنتج سريعًا أن تلك الجرائم مجرد جرائم فردية منعزلة، وتتجاهل السؤال عن دور القيادة، بينما تعيد التركيز سريعًا على تغطية أثر تلك التقارير على الجنود وليس الأفغان.
معاقبة الدولة
قد يفسر ذلك جزئيًا، سبب اعتقاد عدد من العاملين في الخدمة الخاصة الجوية “SAS ” بأنه لا يمكن المساس بهم، ففي النهاية من سيجرؤ على إسقاط بطل وطني؟ بالتأكيد ليست الحكومات المتعاقبة التي تدعم “SAS” باعتبارها تمثل الروح الوطنية المتخيلة عن الصداقة، مثلما قال كثيرًا رئيس الوزراء المحافظ السابق جون هاورد.
في هذا التخيل، تمثل “SAS” الرجل الشجاع حسن الخلق – ناهيك بعضلاته وفكه المنحوت – الذي يقف في الخنادق دفاعًا عن المجتمع المتحضر ضد الهمجيين، في الحقيقة ساعد ذلك الحكومات الأسترالية المتعددة على التورط في مغامرة أمريكية كارثية، رغم أن الوضع كان يشبه بشكل مستمر مستنقع الحرب الفيتنامية.
كانوا دائمًا مستعدين لالتقاط الصورة وإرسال المزيد من القوات المنهكة إلى الحرب دون هدف واضح، بغض النظر عن ضرر ذلك على الأفغان وحتى القوات نفسها.
قبل أكثر من عقد من إدانة شولز، قدم ماكبيرد مزاعم تثبت الفشل الممنهج وجرائم حرب محتملة لرؤسائه وبعدها للشرطة الفيدرالية، لكنهم تجاهلوه
حتى وقت قريب، تجاهلت الحكومة وقادة الجيش زيادة أعداد المحاربين المخضرمين الذين قتلوا أنفسهم منذ مشاركتهم في الحرب الأفغانية، قُتل 41 جنديًا من القوات الأسترالية في أثناء الصراع وُجرح 260 آخرين، لكن أكثر من 500 محارب قتلوا أنفسهم منذ غزو أفغانستان عام 2001، والآن أصبحت القضية معروضة على اللجنة الملكية.
تمثل التجربة الأسترالية في أوروزغان تصويرًا مصغرًا لكل ما وقع بالخطأ في الحرب الأفغانية.
التراجع
ازدادت مزاعم جرائم الحرب منذ أن أوصى تقرير “بريرتون” الشرطة الفيدرالية بالتحقيق في قتل 19 جنديًا لـ39 مدنيًا وسجينًا، والمعاملة الوحشية لاثنين آخرين، قال مكتب المحقق الخاص “OSI” للبرلمان بأنه يحقق الآن في نحو 40 إلى 50 جريمة ارتكبتها “SAS”.
يحدث ذلك فقط لأن عددًا من كاشفي الفساد والصحفيين لم يخضعوا للدعايا، وقد تعرضوا للتهديدات ومداهمات الشرطة والملاحقة القضائية نتيجة لذلك.
وللمفارقة، رغم إدانة شلوز، فإن أستراليًا واحدًا يواجه الخضوع للمحاكمة بشأن جرائم الحرب في أفغانستان، وهو ديفيد ماكبيرد الذي عمل موظفًا قانونيًا في جولتين من الحرب الأفغانية.
قبل أكثر من عقد من إدانة شولز، قدم ماكبيرد مزاعم تثبت الفشل الممنهج وجرائم حرب محتملة لرؤسائه وبعدها للشرطة الفيدرالية، لكنهم تجاهلوه، فسرّب بعدها الوثائق لإذاعة “ABC” التي كشفت عن جملة أسرار وأكاذيب الجيش.
يواجه ماكبيرد السجن 50 عامًا لنشره الحقيقة، وافتقار الغضب الشعبي يدل على أن عددًا قليلًا من قطاعات المجتمع تعلمت من الفشل الجمعي في أفغانستان.
انتقلت وسائل الإعلام للحرب الأوكرانية، متبنية المفهوم الطفولي للحروب الخيّرة والرجال الأخيار ودور أستراليا في القتال لأجلهم، أما الحكومة فهي صامتة بشأن سبب استمرار محاكمة مكابيرد، بينما يتباطأ الجيش في إصلاح أنظمته الفاشلة، ويبدو أن معظم العامة يتجاهلون ذلك بكل سعادة.
المصدر: ميدل إيست آي