قالت “إسرائيل” إنها قدمت اقتراحًا لكل من قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، بهدف وقف إطلاق النار والجلوس على مائدة المفاوضات لحلحلة الأزمة الراهنة ووقف الحرب المندلعة بين الجنرالين منذ منتصف أبريل/نيسان الحاليّ التي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 427 قتيلًا وأكثر من 3700 جريح.
وعرضت تل أبيب على الجنرالين السودانيين المتحاربين، خلال اتصالات أجراها مسؤولون إسرائيليون مع كل منهما على حدة، استضافتهما في محادثات ثلاثية، حسبما نقل مراسل “أكسيوس” في تل أبيب، باراك رافيد، عن ثلاثة من مسؤولي وزارة الخارجية الإسرائيلية، كما أشار إلى أن البرهان وحميدتي لم يستبعدا الاقتراح الإسرائيلي، وأعطيا الانطباع بأن كليهما يفكران فيه بشكل إيجابي.
وتراقب “إسرائيل” الاشتباكات التي تشهدها الساحة السودانية منذ عشرة أيام، فيما وجه وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، منذ اليوم الأول لتلك المواجهات، رسائل دبلوماسية لكل من طرفي المعركة لحثهما على التهدئة ووقف إطلاق النار، قبل تفاقم الوضع بما يعرض مصالح تل أبيب للخطر ويطيح بمشروع التطبيع مع البلد الإفريقي.
عرض “إسرائيل” لوساطتها لإنهاء تلك الأزمة العربية بمباركة أمريكية ودعم إماراتي حسبما جاء على لسان مسؤولي الخارجية الإسرائيلية، يضع القاهرة والرياض في موقف حرج عربيًا، ويقوض ثقلهما الإقليمي لصالح دولة الاحتلال الساعية إلى تعزيز نفوذها في العمق الإفريقي بما يحمله من تهديدات مبطنة للأمن القومي السعودي المصري.
Scoop: Israel offers to host warring Sudanese generals for talks. My story on @axios https://t.co/fEAg80OUqa
— Barak Ravid (@BarakRavid) April 24, 2023
التطبيع والمصالح والتخندق.. مقاربات “إسرائيل” المتأرجحة
لم يكن التحرك الدبلوماسي صوب الخرطوم خيارًا ترفيهيًا لتل أبيب التي تواجه أزمات حادة في مقارباتها مع السودان خلال الأشهر الأخيرة، إذ وجدت نفسها مدفوعة بحزمة من الملفات اللوجستية التي تضعها الحكومة الإسرائيلية في قائمة أولوياتها وتهدد بشكل مباشر وغير مباشر المصالح العبرية في القارة الإفريقية.
الباحث السياسي إيهود يعاري، زميل ليفر الدولي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يشير إلى أن “إسرائيل” وجدت نفسها في مأزق بعد ساعات قليلة من اندلاع الحرب بين الجنرالات في السودان، مرجعًا ذلك إلى أن الحكومات الإسرائيلية الثلاثة الأخيرة ركزت في توجهاتها وخطابها المقدم على البرهان وحميدتي وعلى المكون العسكري بصفة عامة، فيما تجاهلت بشكل كبير المكون المدني، ما أحدث فجوة كبيرة بينها وبين المدنيين في البلد الإفريقي.
وأوضح أن هذا الخلل في التوازن في العلاقات مع مكونات المشهد السوداني أدى إلى “المعارضة الواسعة للتطبيع بين النخب السياسية السودانية، حيث يؤمِن الكثير منها أن “إسرائيل” كانت توفر معلومات استخبارية وأدوات إلكترونية للجيش من أجل قمع الاحتجاجات الأخيرة”، وهو ما يجعل من إتمام عملية التطبيع الرسمي مع السودان مسألة صعبة خاصة بعد تفويت فرصة إنهاء تلك المسألة خلال العامين والنصف الماضيين.
حتى لو تم تشكيل حكومة مدنية سودانية فإنه من الصعب أن تقدم على خطوة التطبيع في الوقت الراهن تجنبًا لتعكير المزاج العام الشعبي الرافض لهذا التوجه، كما أن انتصار أي من الجنرالين لن يعجل بالاتفاق كذلك، فإذا فاز البرهان فقد يتردد في ذلك إذا ما أقعنه حلفاؤه بوقف ذلك ولو مؤقتًا، وفي حال انتصار حميدتي فإنه سيراعي شعور حلفائه تجاه “إسرائيل” وعلى رأسهم “حزب الأمة القومي”، ما يعني في النهاية عرقلة مسار التطبيع، حسبما ذهب يعاري.
خشية مسار التطبيع ليس المقاربة الإسرائيلية الوحيدة التي تحدد العلاقات مع السودان، فالنفوذ الإسرائيلي في القارة الإفريقية قد يصبح بين ليلة وضحاها في مهب الريح إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فالسودان محطة لوجستية وإستراتيجية مهمة لتعزيز الحضور الإسرائيلي داخل القارة السمراء، ولطالما عولت تل أبيب على الحليف السوداني في تعميق هذا النفوذ وتعزيزه، وبالفعل قطعت أشواطًا كبيرةً في هذا المسار، لكنها اليوم باتت مهددة في ظل الصراع الحاليّ الذي قد يقلب الطاولة على الجميع.
وهناك بعد أمني آخر لا بد من وضعه في الحسبان عند الحديث عن مأزق “إسرائيل” جراء الصراع المشتعل الآن في السودان، إذ ساعدت العلاقات القوية مع الخرطوم في وقف وعرقلة الكثير من المساعدات وأوجه الدعم الاقتصادية والعسكرية التي كانت توجه إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، حسبما أشار الإعلامي الإسرائيلي يواف شطيرن المتخصص بالشؤون العربية والفلسطينية في تصريحاته لـ“الجزيرة” حين كشف أنه “على مدى سنوات، استخدمت حماس السودان محطة عبور لتهريب ونقل أسلحة عالية الجودة إلى قطاع غزة من ليبيا وإيران”.
لافتًا أن العديد من تلك القوافل المهربة إلى القطاع قصفها سلاح الجو الإسرائيلي عدة مرات، وعليه فإن تعزيز التقارب مع السودان سيحول دون استمرار تدفق هذا الدعم.
شاهد ◀︎ مسؤول بالدعم السريع للجزيرة مباشر: لا نمانع قبول وساطة إسرائيلية
لتخطي الحجب | https://t.co/tieRGdeVCD
التفاصيل ?https://t.co/kVUkmM1BZO
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) April 21, 2023
ترحيب سوداني.. ومغازلة ميليشاوية
لا شك أن الجنرالين تحكمهما علاقات جيدة بالحكومة الإسرائيلية، ووفق البيانات والتصريحات الواردة من مسؤولين هنا وهناك فإن الاتصالات والمباحثات بينهما لم تتوقف منذ اندلاع المعركة، حتى إن جرى نفي ذلك، إذ يسعى كل طرف إلى طمأنة الجانب الإسرائيلي بشأن التطبيع واستمرارية مساره رغم التطورات الميدانية، بجانب التعهد – ولو ضمنيًا – بالحفاظ على مصالح “إسرائيل” في المنطقة.
وعليه فقد لاقى العرض الإسرائيلي للقيام بدور الوساطة بين طرفي الحرب ترحيبًا منهما وإن لم يصدر بهذا الصدد أي إعلان رسمي، فقد رحب مستشار قائد قوات الدعم السريع في السودان، يوسف عزت، بما أسماه “جهود إسرائيل الهادفة إلى وقف القتال”، مضيفًا خلال اتصال مع قناة كان العبرية الرسمية أن بلاده مرتبطة مع “إسرائيل” باتفاقيات “إبراهام”.
وحاول مستشار حميدتي مغازلة الحكومة الإسرائيلية لكسب دعم نتنياهو ورفاقه حين شبّه القصف الذي تتعرض له قواته من الجيش السوداني، بما تتعرض له “إسرائيل” من المقاومة الفلسطينية، قائلًا: “نقول لهم إن ما نتعرض له، تعرضت له “إسرائيل” آلاف المرات من الجماعات الإرهابية، مثل حماس وغيرها من الجماعات التي يعرفها المواطنون الإسرائيليون جيدًا”، وتابع: “نقول للشعب الإسرائيلي إن ما نتعرض له وتتعرض له الخرطوم وقوات الدعم السريع من هجوم استغله الجيش واستغلته العصابة الإسلامية”.
وكان اتفاق التطبيع بين السودان و”إسرائيل” على بعد خطوات قليلة من التوقيع الرسمي لولا اشتعال الموقف الحاليّ، إذ تبادل البلدان الزيارات المكوكية خلال الأشهر الثلاث الماضية، بمباركة جنرالات السودان والولايات المتحدة، وتم الاتفاق على الرتوش الأخيرة وكان الجميع في انتظار الوقت المناسب للإعلان عن ذلك بشكل رسمي ونهائي.
— roi kais • روعي كايس • רועי קייס (@kaisos1987) April 23, 2023
دعم إماراتي مثير للجدل
نسقت “إسرائيل” مع الإمارات والولايات المتحدة فيما يتعلق بالاقتراح المقدم للوساطة بين جنرالات السودان، إذ اطلع البلدان على المقترح بكل تفاصيله حسبما قال مسؤولون في وزارة الخارجية الإسرائيلية، الأمر الذي يعكس بطبيعة الحال عمق العلاقات الدافئة بين أبو ظبي وتل أبيب، وهي العلاقات التي كانت ولم تزل مثار جدل وقلق من قوى المنطقة الإقليمية.
تسعى أبو ظبي بشتى السبل لتعزيز نفوذ دولة الاحتلال في الشرق الأوسط وإفريقيا – على أمل جني الأرباح من وراء ذلك – إذ كانت الجسر الأكبر لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية التي ما كان يحلم بها الإسرائيليون، فكانت عراب التطبيع الذي قاد البحرين والمغرب والسودان إلى حظيرة التقارب مع تل أبيب، بجانب فتحها لخزائنها وأسواقها لرجال الأعمال الإسرائيليين وأنعشت بشكل كبير الحضور الاقتصادي الاستثماري الإسرائيلي في المنطقة العربية.
ويسير أبناء زايد من خلال سياسة الارتماء في أحضان “إسرائيل” في خطين متوازيين: الأول تقديم قرابين الولاء والطاعة للولايات المتحدة والغرب وتقديم الإمارات لنفسها على أنها الدولة الأكثر سيولة حضارية وسياسية في الشرق الأوسط، الثاني: تعزيز نفوذها الإقليمي المتراجع من خلال التحالف مع الكيان الإسرائيلي الذي يعزز حضوره في المنطقة شيئًا فشيئَا.
ورغم أن مسار التطبيع بين “إسرائيل” والبلدان العربية يسير بخطى ثابتة، فإن الوضع مع الإمارات استثنائي شكلًا ومضمونًا، فالهرولة التي تسير بها الدولة الخليجية للتقارب مع الاحتلال حملت بين طياتها تهديدًا للأمن القومي لبعض الحلفاء العرب كما هو الحال مع القاهرة والرياض على وجه التحديد، وتلك النقطة كانت ضمن قائمة مطولة من النقاط التي عكرت الأجواء بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة، ورغم ذلك تصر الإمارات على المضي قدمًا في سياستها تلك غير مبالية لاعتبارات ومواقف وتوجهات وتحفظات الحلفاء.
إعادة تموضع لخريطة النفوذ
رغم التهديدات التي تعترض المصالح الإسرائيلية في السودان وتضع مسار التطبيع برمته في مهب الريح إذا استمر الوضع ملتهبًا هكذا، فإن الفرصة قد تكون مواتية لتحقيق تل أبيب انتصارًا دبلوماسيًا ربما يفتح الباب على مصراعيه لتعزيز النفوذ في العمق الإفريقي.
تحاول “إسرائيل” من خلال علاقاتها الجيدة مع طرفي الحرب، والدعم المقدم لها من الإمارات وأوراق الضغط التي تملكها، ومباركة الولايات المتحدة، إنجاح تلك الوساطة بشتى السبل، إيمانًا بأنها إذا نجحت في ذلك فستقدم أوراق اعتمادها بشكل رسمي على أنها دولة ذات ثقل وقادرة على لعب أدوار أكبر في المنطقة، وهو ما يتناغم مع التوجه الإماراتي.
وفي الجهة المقابلة، فإن أي خطوة تخطوها “إسرائيل” باتجاه تعزيز حضورها الدبلوماسي في المنطقة هو خصم من رصيد القوى الإقليمية التقليدية، مصر والسعودية تحديدًا، وتحاول تل أبيب جاهدة منافسة هاتين القوتين إقليميًا، إن لم يكن سحب البساط بأكمله من تحت أقدامهما، وهو الخطر الذي يثير حفيظة الدولتين بين الحين والآخر من الدعم غير المشروط الذي تقدمه أبو ظبي لدولة الاحتلال.
وكما كان للحرب الروسية الأوكرانية دورًا في إعادة تموضع للقوى على خريطة السياسة الدولية، فإن معركة الجنرالات السودانية سيكون لها هي الأخرى تأثيرها الواضح في تشكيل خريطة التحالفات في الشرق الأوسط وإفريقيا على وجه التحديد، قوى تفرض نفسها وأخرى تتراجع وثالثة تلتزم الثبات، وهو ما يبرهن على أن حرب البرهان حميدتي ليست شأنًا داخليًا سودانيًا كما يحلو للبعض أن يصفها.