كشفت تصريحات الجنرال الأمريكي ماثيو ماكفارلين، التي أشار فيها إلى انخفاض معدل الهجمات التي تطال القوات الأمريكية المنتشرة في العديد من القواعد العسكرية داخل العراق، إلى جانب السفارة الأمريكية في بغداد، عن تحول كبير أصاب الإستراتيجية الإيرانية في العراق.
فقد سجلت الهجمات التي تستهدف مواقع أمريكية في العراق، انخفاضًا واضحًا منذ مطلع العام الحاليّ وحتى الأسبوع الأول من شهر أبريل/نيسان، بواقع انخفاض يصل إلى 68%، مقارنة بالهجمات التي كانت تشنها الجماعات الحليفة لإيران في مرحلة ما بعد اغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني.
هذا التغير في الإستراتيجية الإيرانية، جاء مدفوعًا بعدد من التغيرات التي شهدتها الساحة العراقية، خصوصًا بعد أن نجحت قوى الإطار التنسيقي المقربة من طهران بتشكيل الحكومة الجديدة، فضلًا عن رغبة إيرانية بإعطاء هذه الحكومة مساحة سياسية يمكن من خلالها العمل بعيدًا عن الضغوط.
فنجاح حكومة محمد شياع السوداني، يعني بشكل آخر نجاح القوى السياسية المقربة من إيران، ما يعد نجاحًا إيرانيًا بالنهاية، إذ تحاول طهران استثمار فرصة الصعود السياسي لحلفائها، عبر تدعيم دورها في العراق، الذي شهد خلال الفترة الماضية تخبطًا واضحًا، وتحديدًا بعد اغتيال سليماني وفشل القائد الجديد لقوة القدس إسماعيل قآني في أداء مهامه بالعراق.
التطورات السياسية التي شهدتها إيران مؤخرًا، أظهرت قناعة إيرانية بأن الاستمرار بسياسة التصعيد مع واشنطن، قد يدفعها لتصعيد مقابل فيما يتعلق بدعم الحركة الاحتجاجية
وما يؤكد هذا التوجه الإيراني، التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم كتائب سيد الشهداء كاظم الفرطوسي، وهي إحدى أبرز الفصائل التي تبنت هجمات سابقة على القوات الأمريكية في العراق، الذي أشار إلى أن “فصائل المقاومة منحت رئيس الوزراء فرصة من الوقت، من أجل ترتيب أوضاع حكومته، خصوصًا المتعلقة بالجانب الاقتصادي والخدمي، وهي تنتظر من السوداني التحرك لتفعيل قرار البرلمان الملزم للحكومة بإخراج كامل القوات الأجنبية من العراق، وعلى رأسها القوات الأمريكية”.
وإلى جانب ذلك، أظهرت التطورات السياسية التي شهدتها إيران مؤخرًا، وتحديدًا مع استمرار الحركة الاحتجاجية التي انطلقت إثر مقتل المواطنة الإيرانية مهسا أميني، فضلًا عن الدعم الغربي، وتحديدًا الأمريكي لها، قناعة إيرانية بأن الاستمرار بسياسة التصعيد مع الولايات المتحدة، قد يدفعها لتصعيد مقابل فيما يتعلق بدعم الحركة الاحتجاجية.
ويبدو أن إيران نجحت مؤخرًا في تحقيق اختراق مهم على مستوى الموقف الأمريكي من الاحتجاجات، فقد نجحت بالحصول على موقف رسمي من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أعلن فيه أن بلاده لا تسعى لتغيير النظام في طهران، ولعل هذا ما دفع الشاه رضا بهلوي، بوصفه أحد أطراف المعارضة الإيرانية، للذهاب إلى “إسرائيل” مؤخرًا، وطلب دعمها، دون التعويل كثيرًا على الموقف الأمريكي.
طموح إيراني وترقب أمريكي
مما لا شك فيه أن التحول الأخير في السلوك الإيراني بالعراق، لم يترجم على مستوى المواقف الإيرانية فحسب، بل إن التعاطي الإيجابي الذي أظهرته سلوكيات ومواقف قوى مقربة من طهران حيال واشنطن، تظهر أن هناك تحولًا مهمًا في مواقفها أيضًا، إذ غيرت القوى المقربة من إيران، وتحديدًا قيادات بارزة في الفصائل المسلحة، من لهجتها التصعيدية حيال الوجود الأمريكي في العراق، كما أشرنا أعلاه.
أكثر من ذلك، دخلت بعض هذه القيادات في تفاهمات غير مباشرة مع الإدارة الأمريكية من أجل رفعها من لائحة العقوبات، هذا فضلًا عن تعاطيها الإيجابي مع بعض الدول العربية، كانت في السابق تشكك بأدوارها، وتحديدًا الأردن والسعودية والإمارات.
ما زالت إيران تمارس بنجاح لعبة إدارة النفوذ؛ تهدئ بالعراق وتصعد في سوريا وتبني خيارًا تفاوضيًا في اليمن
إلى جانب ما تقدم، أظهر التوافق السعودي الإيراني مؤخرًا، سعي إيراني لتبديد المخاوف الأمريكية، وذلك عبر تبني توجه يدعو لحلحلة المشاكل الإقليمية في المنطقة، وعلى الرغم من أن هذا التوافق جاء خارج المظلة الأمريكية، يبقى خيارًا تعول عليه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في إمكانية أن يشكل مدخلًا جديدًا لإعادة إحياء المحادثات النووية التي توقفت منذ نهاية العام الماضي.
مع ضرورة التأكيد هنا، على أن إيران ما زالت ماضية بسياستها في سوريا، ولم تشهد ذات التغيير الذي حصل بالعراق، ولعل هذا ما يؤكده استمرار الهجمات الإسرائيلية، وحتى الأمريكية في بعض الأحيان، على مواقع الحرس الثوري والجماعات الحليفة في الداخل السوري، أو على الحدود مع العراق.
إن التحوط الإستراتيجي الذي تبديه إيران حيال الولايات المتحدة نجح حتى الآن في الحفاظ على قواعد الاشتباك بين الطرفين، فما زالت إيران تمارس بنجاح لعبة إدارة النفوذ؛ تهدئ بالعراق وتصعد في سوريا وتبني خيارًا تفاوضيًا في اليمن، ورغم أن هذه اللعبة قد لا تحقق مزايا إستراتيجية كبيرة لإيران، تظل خيارًا مهمًا، خصوصًا أن الصين بدأت تلعب دور الضامن الدولي في المنطقة، وقبول العديد من القوى الإقليمية لهذا الدور.
توقّف الفصائل المسلحة عن استهداف الأهداف الأمريكية في العراق، رسالة منها لبناء مسار جديد في العلاقات مع الولايات المتحدة
وفي العراق تبدو الولايات المتحدة راضية حتى الآن بالدور الإيراني، ولعل هذا ما تؤكده الزيارات المتواصلة التي تقوم بها السفيرة الأمريكية في بغداد ألينا رومانوفيسكي للعديد من الشخصيات المقربة من إيران، فضلًا عن دعمها لحكومة السوداني، وتفاعلها مع العديد من العشائر ومنظمات المجتمع المدني في بغداد وبعض المحافظات الجنوبية، والأهم من كل ذلك موافقتها على قيام حكومة السوداني بسداد الديون الإيرانية بالعملة العراقية.
في إطار ما تقدم، يمكن القول إن إيقاف عمليات قصف القواعد والمعسكرات التي تضم عددًا من الجنود الأمريكيين، أو حتى انخفاضها، يرتبط بأن الفصائل المسلحة هي التي تتحكم بالسلطة والقرار العراقي، لهذا لا تجد من مصلحتها أن تقوم بعمليات ضد الأهداف الأمريكية، طالما أن هناك انفتاحًا أمريكيًا عليها، فالاستهداف قد تكون له ارتدادات عكسية على وجودها في السلطة.
كما أن توقف الفصائل المسلحة عن استهداف الأهداف الأمريكية في العراق، رسالة منها لبناء مسار جديد في العلاقات مع الولايات المتحدة، ولهذا تحاول إيصال رسائل لواشنطن بأن عملية الاستهداف تتوقف ما دام أنها (الفصائل) تسيطر على الحكم في العراق.