يراهن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحكومته على أن يكون “مركز إسطنبول المالي” الذي تمَّ افتتاحه مؤخرًا (بتصميماته المعمارية وتجهيزاته المتطورة التي تجعله أحد أهم المراكز المالية الرائدة عالميًّا) بداية جديدة، تسهم في جهود إعادة تعويم الاقتصاد التركي الذي يواجه عدة تحديات، محليًّا ودوليًّا، خلال السنوات الأخيرة، تخللها تفشي كوفيد-19 عالميًّا، واندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، قبل أن تعمّق كارثة زلزال 6 فبراير/ شباط الماضي الأزمة الاقتصادية في البلاد، وهو الملف الذي تتباين التقديرات العالمية حول تداعياته وتأثيره على الناتج المحلي الإجمالي التركي.
ويتصدر الاقتصاد قائمة الملفات الجدلية في المشهد العام التركي قبل الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) في 14 مايو/ أيار المقبل، نتيجة الخلافات الجذرية بين حكومة حزب العدالة والتنمية (المكون الأكبر في تحالف الشعب) من ناحية، والمعارضة التركية (أحزابًا وتكتلات) من ناحية أخرى.
تفرض تطورات الملف نفسها على المرشحين، بحكم تعدد الرؤى الفكرية والأجندات السياسية، ومن ثم تعهدات المرشحين خلال الحملات الدعائية-الانتخابية حاليًّا، ضمن المحاولات المستميتة لإقناع الناخبين بالتصويت لصالح البرامج الاقتصادية المطروحة.
وحتى مع الخلافات السياسية، يدرك خصوم أردوغان وأركان حكومته على السواء أنه حقق لتركيا نهضة اقتصادية غير مسبوقة منذ توليه السلطة، بعدما كانت البلاد تعاني أزمة اقتصادية حادة (تضخم، فقر، بطالة وهروب رؤوس الأموال) وأجواء سياسية مضطربة قبل عام 2002.
إذ سارع أردوغان بخطة إصلاحات سياسية واقتصادية نجحت في جذب استثمارات ضخمة، وتحقيق نمو اقتصادي معقول، مع مضاعفة دخل الفرد وتراجع نِسَب الفقر والبطالة، ثم الانفتاح على الأسواق الخارجية وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، كما تمكّنت حكومات أردوغان من خدمة فوائد الديون ودفع أقساطها من تدفق الاستثمارات وعوائدها.
وحتى عام 2018 كان أردوغان يتباهى بتسجيل الاقتصاد التركي معدلات نمو سريعة بين الاقتصادات الناشئة، قبل أن يدخل الاقتصاد في موجة ركود (تراجع كبير في النشاط الاقتصادي الوطني يستمر لأشهر)، وهو أمر لا يرتبط فقط بمعاناة القطاع العقاري (القاطرة الاقتصادية خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية) لكن يتبدى في عدة قطاعات اقتصادية، وانخفاض في قيمة صرف العملة المحلية (الليرة) أمام الدولار الأمريكي، نتيجة أزمات محلية وخارجية.
ودفع كل ذلك أردوغان إلى تبني وجهة نظر اقتصادية لمواجهة العراقيل التي تواجه الاقتصاد المحلي، ما يطرح تساؤلًا حول وضع الاقتصاد التركي خلال السنوات الأخيرة، وهل تتعرض البلاد فعلًا لـ”حرب اقتصادية” على حد وصف أردوغان؟
شواهد “حرب اقتصادية”؟
قبل الخوض في تفاصيل المعركة السياسية-الاقتصادية للقوى والتيارات السياسية التركية، يتحتّم إلقاء نظرة على تقديرات المؤسسات الدولية لأزمة الاقتصاد التركي، ورغم أن هذه التقديرات لا تنفصل عمّا يصفه أردوغان بـ”الحرب الاقتصادية”، إلا أنها تلقي الضوء على الرؤية الدولية في هذا الشأن.
حيث عدّلت وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني (مطلع أبريل/ نيسان 2023) نظرتها المستقبلية لتركيا من “مستقرة إلى سلبية”، وأرجعت المؤسسة تقييمها لـ”المخاطر الناجمة عن انخفاض أسعار الفائدة، وأن ارتفاع عجز الحساب الجاري التركي ومحدودية الاحتياطيات القابلة للاستخدام وارتفاع التضخم يجعل النظرة المستقبلية لسعر الصرف ضبابية”.
ويزعم مصرفيون في بنك “جيه بي مورغان” الأمريكي أنه ربما “تهوي الليرة التركية بشكل حاد، وربما يقترب الدولار من تسجيل 30 ليرة عقب الانتخابات العامة المقبلة، كون تركيا ستُدخل تغييرات طفيفة على سياساتها النقدية غير التقليدية، كما أن المسار نحو إبطاء التضخم في الاقتصاد سيكون طويلًا”.
وحذّرت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني من أن “التحسن في الاحتياطيات النقدية الأجنبية التركية ليس مستدامًا، وأن السياسات التي نفّذتها الدولة لتحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادي والتوظيف قبل الانتخابات ليست مناسبة للتعافي الدائم”.
أيضًا، يتوقع خبراء الاقتصاد في مؤسسة الخدمات المالية والاستثمارية “مورغان ستانلي” الأمريكية 3 سيناريوهات اقتصادية مرتبطة بالانتخابات المقبلة:
أولًا، فوز أردوغان ومواصلة نهجه الاقتصادي، ما يعني استمرار انخفاض أسعار الفائدة وقيمة الليرة.
ثانيًا، فوز المعارضة بأغلبية برلمانية، والتصحيح النسبي للسياسة الاقتصادية وقيمة الليرة.
ثالثًا، فوز المعارضة بالرئاسة والبرلمان، ومن ثم حدوث تعديل شامل في السياسات الاقتصادية، وتعزيز استقلالية البنك المركزي، وغيرها من العناوين العريضة التي تتعهّد بها المعارضة.
غير أن وكالة “بلومبيرغ” ترى أنّ “الليرة التركية ستضعف بغض النظر عمّن سيفوز بالانتخابات التركية المقبلة”.
رؤية المعارضة للملف الاقتصادي
ولا تنفصل الصورة السوداوية التي تروّجها معظم المؤسسات الاقتصادية (المرتبطة بمنظومة المصالح الأمريكية-الأوروبية) حول الاقتصاد التركي، عن الانتقادات التي توجّهها المعارضة التركية إلى الملف نفسه في سياق معركتها الانتخابية، وهي انتقادات زادت وتيرتها منذ عام 2018 (تحديدًا بعد التعديلات الدستورية وتطبيق نظام الرئاسة التنفيذية، أي جمع أردوغان بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة).
إذ تتمحور خلافات الحكومة التركية والمعارضة حول كيفية التعاطي مع زيادة معدلات التضخم، انخفاض سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، عجز الحساب الجاري التركي، مصير ملف الديون الخارجية، واتّساع العجز التراكمي للعام الجاري بسبب تداعيات الزلزال المدمر.
ويتمسّك زعيم المعارضة التركية، كمال كيليجدار أوغلو، بأن “الطريق لتحقيق نمو سليم ومتسق للاقتصاد المحلي يعتمد على الخطط التنموية، والطرق المثلى لإنفاق الموارد المتاحة، وأن يخلق الاستثمار قيمة مضافة تنعكس على رفاهية المجتمع، حتى يكون فعالًا”.
فيما ترى أطراف أخرى في المعارضة أنه طوال العقدَين الماضيَين “لم تشهد تركيا فائضًا في الحساب الجاري سوى في عام 2019″، وأن “نمو الاقتصاد التركي موّلته بشكل أساسي الاستدانة الكبيرة من الخارج بالعملة الأجنبية، وأن انخفاض قيمة الليرة سيصعّب على القطاع الخاص سداد ديونه بالعملة الأجنبية، وأن إيراداته بالعملة المحلية تتناقص قيمتها بشكل مستمر، ما يُوصل المشهد إلى تأثير تراكميّ يعمّق الأزمة ويضخّمها، وأن النمو الاقتصادي المموّل بالديون معرّض لمخاطر الانتكاس والتراجع”.
تطالب أصوات أخرى في المعارضة التركية بمدّ الجسور مع المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي، على أساس أن التعامل معه “شهادة ثقة في الاقتصاد التركي”
وترى المعارضة التركية أن حكومة أردوغان “لم تفِ بوعودها المتعلقة بخفض معدلات التضخم، وأن السياسات الاقتصادية التي تطبّقها الحكومة رفعت التضخم إلى 85% في أكتوبر/ كانون الأول الماضي، قبل تراجعه إلى 50% خلال مارس/ آذار، وأن الأتراك يدفعون ثمن هذه السياسات من واقع ما تظهره الإحصائيات المتعلقة بحدّ الفقر الراصدة للنفقات الأسرية في التعليم والملبس والمسكن والنقل، وحدّ الجوع المتعلق بالنفقات الشهرية المطلوبة للحصول على التغذية السليمة والمتوازنة للأسرة، وأن نسبة البطالة وصلت إلى 20%، مع تفاقُم حجم الديون الخارجية والداخلية، وأن الأسواق المالية لم تعد تثق ببرامج الحكومة وتدابيرها المالية”.
وذلك يأتي من واقع التصريحات المتتابعة لرموز المعارضة، لا سيما مرشح رئاسة الجمهورية كمال كيليجدار أوغلو (رئيس حزب الشعب الجمهوري)، ورئيس حزب الديمقراطية والتقدم علي باباجان (وزير الاقتصاد الأسبق في حكومة أردوغان).
ويتوقع علي باباجان (المنشق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم) أن “الأزمات الاقتصادية ستضرب تركيا إذا لم تتم إدارتها بشكل صحيح بعد كارثة الزلزال، كونه تسبّب في خسارة كبيرة في الثروة، وأن هناك حاجة ملحّة للتمويل الداخلي والخارجي من أجل التعافي من الزلزال، وإذا لم تتمكن تركيا من توفير موارد النقد الأجنبي اللازمة، فقد تصيبنا موجة أزمة اقتصادية جديدة”.
وتطالب أصوات أخرى في المعارضة التركية بمدّ الجسور مع المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي، على أساس أن التعامل معه “شهادة ثقة في الاقتصاد التركي”، ويبالغ البعض في الدعوة إلى “ضرورة إشراف الصندوق على الإصلاحات التي يتطلبها الاقتصاد التركي، لأنها مسألة حيوية ستعيد ثقة المستثمرين في قطاعاته”، وهو التوجه الذي يرفضه أردوغان: “تركيا لا تحتاج إلى صندوق النقد الدولي”.
سياسات البنك المركزي التركي
ورغم اختلاف رؤى أحزاب المعارضة التركية في تشخيص أزمة الاقتصاد المحلي، إلا أن القواسم المشتركة بينها تحمّل أردوغان المسؤولية، “بعدما رفض السماح للبنك المركزي برفع سعر الفائدة لمحاربة التضخم، ووقف انخفاض قيمة الليرة، وتجاهل القواعد الاقتصادية التقليدية، ما أفقد البنك المركزي استقلاليته، خاصة مع تعاقب 4 محافظين على إدارة البنك منذ عام 2019 حتى الآن”.
ويقول كيليجدار أوغلو إن “البنك المركزي التركي، رغم أنه المسؤول عن استقرار الأسعار في البلاد، يقوم بدوره المطلوب في احتواء التضخم النقدي”، وتسوّق أجنحة في المعارضة التركية أن “معظم البلدان الأوروبية والولايات المتحدة يمنحان البنوك المركزية الاستقلالية التامة، ولا تتدخل الحكومات في قراراتها حتى تستطيع السيطرة على التضخم عبر تحريك سعر الفائدة على القروض أو الإيداعات”، لكن استشهاد المعارضة التركية يتعارض مع الواقع، حيث تتفاقم أزمة التضخم في الولايات المتحدة حاليًّا بصورة تعيد التذكير بمقدّمات أزمة “الكساد الكبير” نهاية عشرينيات القرن الماضي.
وتتجاهل المعارضة التركية أيضًا (في سياق حديثها عن استقلال البنك المركزي، أي عدم تمويله للمصروفات الحكومية من موجوداته، وفصل سياساته عن مؤثراتها لضمان الفعالية) أنه منذ تأسيس البنك المركزي التركي، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، كانت سياساته معنية بتحفيز النمو (توجيه النقد إلى القطاعات المنتجة والمحققة للنمو)، وأنه لم يشذَّ عن هذه السياسة طوال العقود اللاحقة.
وقبل عام 2001، ظلَّ الاقتصاد التركي معتمدًا على التدفقات الرأسمالية قصيرة الأجل من الخارج، لارتفاع عوائد الاستثمار قصير الأجل في الدول الناشئة نتيجة ارتفاع سعر الفائدة، دون استثمار حقيقي طويل الأجل في الاقتصاد.
وخلال تلك الفترة وجدت بعض البنوك التركية صعوبة في إيجاد السيولة النقدية وتمويل عملياتها اليومية، فبدأ بعضها بيع السندات الحكومية، بالإضافة إلى بدء المستثمرين الأجانب بسحب أموالهم من الاقتصاد، مصحوبة بمعدلات تضخم مرتفعة لاعتماد السياسة الحكومية على التمويل من البنك المركزي من احتياطاته.
وأصبحت البلاد مدينة لصندوق النقد الدولي بأكثر من 30 مليار دولار منذ عام 1999، وخلال محاولات حل الأزمة خسرت الليرة التركية نصف قيمتها، قبل أن تعتمد تركيا، بعد عام 2001، نظام التعويم الكامل (وأنظمة سعر صرف مرنة) كان من شأنه خفض معدلات التضخم إلى أقل من 10% بعد عام 2004، واستمرت مستقرة نسبيًّا حتى دخل الاقتصاد التركي أزمته الجديدة عام 2018.
أيضًا، لا تلتفت المعارضة التركية إلى تأثر الاقتصاد التركي بتداعيات ارتفاع سعر الفائدة عالميًّا، بعدما بدأ المجلس الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) في رفعها تدريجيًّا منذ عام 2015، إلى أن واصل الارتفاع التدريجي إلى أعلى من 2% عام 2018، وخشية المستثمرين الأجانب من احتمال عجز الشركات التركية عن سداد الديون الأجنبية نتيجة الخلافات الأمريكية-التركية الحادة، سياسيًّا واقتصاديًّا، وقيام الرئيس دونالد ترامب وقتها بفرض عقوبات على وزراء، وزيادة التعرفة الجمركية على بعض البضائع التركية، وتهديده بـ”تدمير الاقتصاد التركي” رغم أن الولايات المتحدة كانت تعلم أن التهديدات مبالغ فيها (تمثل السلع الأمريكية 5% من واردات تركيا، مقابل 34% للاتحاد الأوروبي و10% للصين، وأكثر من 8% لروسيا).
وتتناسى المعارضة التركية (خلال خطابها الإعلامي-السياسي قبل الانتخابات المرتقبة) انعكاس الخلافات التركية-الأوروبية، خلال التوقيت نفسه، على الاقتصاد المحلي (46% من الصادرات التركية تذهب إلى دول أوروبا، وتبلغ قيمة التبادل التجاري حوالي 145 مليار يورو سنويًّا)، وأن أوروبا لم تبادر بمدّ يد العون لتركيا خلال الأزمة الاقتصادية، رغم الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية التي تمثلها لدول الاتحاد، وقد كشف اضطراب سلاسل التوريد خلال تفشي فيروس كورونا عن هذه الأهمية، كون استيراد البضائع من آسيا مكلفًا جدًّا لأوروبا.
الليرة وديون القطاع الخاص
يشكّل انخفاض قيمة الليرة التركية جانبًا من المعركة السياسية الانتخابية، حيث تؤكد المعارضة أن انخفاض العملة سيرفع أسعار المنتجات والخامات المستوردة اللازمة للإنتاج، وأن معدلات التضخم وانهيار الليرة سيؤديان إلى عدم الاستقرار السياسي، وهو عامل مهم في جذب الاستثمارات الأجنبية، وليس مجرد توافر العمالة الرخيصة وقلة تكلفة التشغيل.
كما أن ارتفاع سعر الفائدة يقوي العملة المحلية ويجذب المستثمرين الأجانب، وهو (كما في الحالة التركية) أحد الأُسُس المحفّزة للنمو الاقتصادي في البلاد، وعندما يرتفع سعر الفائدة يصبح إيداع المدخرات في البنوك مربحًا بالنسبة إلى المواطنين، بدلًا من صرفها أو الاستدانة بهدف الاستهلاك، ومن ثم ينخفض النشاط الاقتصادي ومعه الطلب على السلع، فينخفض التضخم.
وبحسب المعارضة، فإن “عبء الدين الأجنبي على الشركات التي حصلت على قروض بالعملة الصعبة، خلال فترة الفورة العقارية ومشاريع البناء الكبيرة، مع زيادة الدين المقوَّم بالعملات الأجنبية على الشركات التركية التي تعمل في الداخل، وتنتج عوائد مالية بالليرة؛ إذ أصبحت تحتاج إلى سداد دينها بالعملات الأجنبية، وطالما أن سعر العملة ينخفض بشكل مستمر فإن قيمة الدين ترتفع على الشركات التركية، رغم أن قروضها أقل من الماضي”.
وتزامن الاقتراض المفتوح من الخارج عبر الشركات التركية مع الإصلاحات المالية التي ساهم حزب العدالة والتنمية الحاكم في إدخالها على القطاع المالي، بموجب القرار الحكومي الصادر عام 2009 بتسهيل حصول القطاع الخاص على قروض أجنبية، سواء عبر البنوك أو عبر اقتراض الشركات بشكل مباشر، من خلال طرح السندات المقوَّمة بالعملات الأجنبية.
وساهم تحسُّن الوضع الاقتصادي في تركيا وارتفاع معدلات النمو فيها، آنذاك، في اتساع نطاق الاقتراض، بهدف توسيع أنشطة القطاع الخاص التركي، حتى وصل الدين الخاص في تركيا إلى حوالي 75% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، بعد أن كان يمثل 34% عام 2008.
تعهُّدات منقوصة
رغم تعدد التيارات السياسية والاقتصادية المعارضة وتنوُّع برامج أحزابها، فإنها تطرح رؤى اقتصادية غير مكتملة (مجرد عناوين عريضة) معظمها ينحاز للعودة إلى الاقتصاد الحر، وتحدد “3 شروط لمواجهة التضخم: الاستقلالية الإدارية، والمالية للبنك المركزي التركي حتى يطبّق سياسته النقدية، مع ضرورة التزام البنك بأعلى درجات الشفافية في نشر سياسته النقدية ورؤيته الاقتصادية، حتى يخلق الاستقرار النقدي في الاقتصاد”.
وعلى صعيد التعهُّدات الاقتصادية، يعدُ تحالف الأمة المعارض (أحزابه: الشعب الجمهوري، اشتراكي علماني؛ الجيد، ليبرالي وسطي قومي؛ السعادة، إسلامي وسطي؛ المستقبل، يمين وسطي محافظ؛ الديمقراطية والتقدم، يمين وسطي محافظ؛ الديمقراطي، قومي يميني محافظ) بـ”مكافحة التضخم، ومضاعفة الدخل القومي للفرد في غضون 5 سنوات، وتوفير فرص عمل جديدة لإنهاء الفقر”، وفقًا للبرنامج المشترك للتحالف.
وتشمل التعهدات أيضًا تحقيق معدل نمو اقتصادي عند 5% على الأقل على مدى 5 سنوات، ومضاعفة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على الأقل إلى 18 ألف دولار، وخلق ما لا يقلّ عن 5 ملايين وظيفة جديدة بهدف الحد من معدل البطالة، وجعل أسعار الفائدة تتماشى مع واقع السوق، وتنشيط القطاع الزراعي التركي في مواجهة تضخم أسعار المواد الغذائية المقلق، ومعالجة الفوارق في الدخل في البلاد كذلك، وتحفيز قطاعَي الصناعة والسياحة لتعزيز إيرادات العملة الصعبة وتضييق عجز الحساب الجاري.
ويقول حزب الشعب الجمهوري (الأكبر والأقدم بين أحزاب المعارضة) إنه “سيجلب استثمارات ضخمة لتركيا -100 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة، واستثمارات إضافية بقيمة 75 مليار دولار من صناديق التقاعد وصناديق الثروة في الخارج- ودخول البلاد ملعب المنافسة العالمية”.
رؤية أردوغان
في 28 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) رؤيته للمئة عام القادمة التي ستبدأ بعد حوالي 5 أشهر، تقريبًا، تحت شعار “قرن تركيا”.
وضمن الخطوط العامة لهذه المرحلة، حدّد أردوغان خططًا اقتصادية قصيرة الأجل (زيادة حجم التجارة الخارجية لتريليون دولار، ووصول العائدات السياحية إلى 100 مليار دولار، مع زيادة القدرة التنافسية عالميًّا، زراعيًّا وصناعيًّا وتجاريًّا، مع رفع كفاءة مرافق البنية التحتية لتعزيز هذه الأهداف، واستكمال ما حقّقه الحزب الحاكم منذ تصدره للمشهد السياسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، رغم “الدورة الاقتصادية” التقليدية التي تمرّ بها الدول (4 مراحل غير منتظمة، تتراوح مدتها الإجمالية بين عامَين و10 سنوات، تنتقل من الازدهار إلى الذروة ثم الركود ولاحقًا القاع)).
ويمثّل سعر صرف الليرة (الذي يرتبط بكل قطاعات الاقتصاد التركي) أحد أهم التحديات لحكومة أردوغان، التي تعي أن تذبذب العملات التي تتبع نظام التداول الحر (صعودًا وهبوطًا) أمر طبيعي، وتؤكد أن السياسة النقدية في تركيا مجرد جانب واحد من الاقتصاد، وأنها ليست المعيار الوحيد لتقييم تجربة الاقتصاد المحلي ككُلّ، خاصة أن الاستقرار النقدي لا يعني نجاح الاقتصاد أو تحقيق التنمية والنمو، وأنه قد يتحقق النمو دون تحقُّق التنمية لعدة ظروف، وقد ينمو الاقتصاد دون الشعور الاجتماعي بنتائج هذا النمو، نتيجة سوء توزيع الدخل والثروة.
وقد خطت حكومة أردوغان خطوات واسعة منذ بداية الأزمة الاقتصادية (2018-2019)، حيث كان هناك خلاف داخل المجموعة الاقتصادية حول اتجاهَين: مكافحة التضخم أو تحفيز معدل النمو؛ لكن أردوغان نجح نسبيًّا في وقف تراجع الليرة، رغم زيادة معدلات التضخم.
وبسبب السياسات الاقتصادية الحكومية (خفض تكاليف الإنتاج نتيجة تراجع قيمة الليرة التركية)، قالت دراسة سابقة لمجموعة “مكنزي” للاستشارات، إن “تركيا ثالث دولة، بعد بنغلاديش وفيتنام، لديها أفضل إمكانات لتوريد المنسوجات بحلول العام 2025، وأنها تتقدم على إندونيسيا والصين في هذا الشأن”.
ويصرّ أردوغان على التصدي لـ”لوبي أسعار الفائدة”، ولأنه يعرف أنه لا يهتم المستثمرون الأجانب والأسواق المالية بوضع الاقتصاد المحلي في تركيا، بل يشغلهما فقط الأرباح التي سيحصلان عليها من الاقتصاد المحلي، فهو لا يكترث للمطالبات الداعية إلى خفض سعر الفائدة، ويتّبع سياسة اقتصادية غير تقليدية (إبقاء أسعار الفائدة منخفضة لتعزيز النمو الاقتصادي وتنشيط الصادرات) بهدف ترويض التضخم، خاصة أن رفع أسعار الفائدة في معظم دول العالم لم يخفض معدلات التضخم الآخذ في الارتفاع.
وتتمسّك حكومة أردوغان بمواصلة خفض معدل الفائدة لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة، وتقتدي الحكومة بتجارب الصين والنمور الآسيوية اللذين اتبعا النهج نفسه، فحققا نسب نمو مرتفعة عبر التركيز على الصادرات وجذب رؤوس الأموال الأجنبية.
وتؤكد مصادر رسمية تركية أنه كلما كانت أسعار الفائدة أقل كان الوصول إلى القروض أسهل على الأفراد (تدفع المواطنين لاستثمار أموالهم بدلًا من إيداعها في البنوك، وتزيد إنفاقهم وتنشيط سوق العقارات كملاذ آمن) والشركات (تجذب المستثمرين الأجانب لتنفيذ مشاريع نتيجة قلة التكلفة، ومن ثم زيادة فرص العمل والوظائف)، ما يعني زيادة النشاط الاقتصادي والنمو.
المركزي يحدد خارطة الطريق
حدد البنك المركزي التركي سياسته في بيان رسمي مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي): “ستعزز تركيا حصة الودائع بالليرة في نظامها المصرفي بسياسات تهدف إلى تنويع المدخرات، بعيدًا عن العملات الأجنبية كالدولار الأمريكي. الأولوية القصوى لتوسيع استخدام الليرات عبر زيادة حصتها في الودائع المصرفية إلى 60% خلال النصف الأول من العام الجاري. ويظلّ هدف التضخم الرسمي 5%، وستحافظ تركيا على نظام سعر الصرف العائم، كما سيواصل البنك السعي للحصول على اتفاقيات جديدة لتبادل العملات الأجنبية مع البنوك النظيرة عالميًّا”.
وضمن خارطة الطريق التي يتبنّاها، قال البنك المركزي التركي: “ستصبح عمليات السوق المفتوحة أداة التمويل الأساسية للبنك، ستشكل حوالي 7% من الميزانية العامة للبنك خلال العام الجاري، ما يدفع المقرضين التجاريين على الأرجح إلى شراء المزيد من سندات الليرة ذات آجال استحقاق أطول، وستنخفض حصة مقايضات العملات في تمويل الليرة، وسيظل معدل إعادة الشراء لمدة أسبوع هو الأداة الرئيسية للسياسة”.
وقال رئيس البنك المركزي، شهاب كافجي أوغلو: “ليس لدينا خطط بشأن خفض سعر الصرف للعملات الأجنبية، احتياطياتنا تتناسب مع سياساتنا، نموذجنا الاقتصادي يعطي نتائج إيجابية”، وأنها تواصل مساعيها الإصلاحية التي تستهدف تعزيز رؤوس أموال البنوك الحكومية، حتى تصبح أكثر مقاومة من خلال زيادة كفاية رأس المال، ونسبة تغطية السيولة، وسط تأكيدات من أردوغان بأن “معدل التضخم المرتفع كان نتيجة لأسعار الفائدة العالية”، وأن ارتفاع أسعار الفائدة “أداة استغلال ومصدر كل الشرور”.
كارثة الزلزال تعمّق الأزمة
تُظهر البيانات الرسمية (الصادرة عن معهد الإحصاء التركي (TUIK)) قبل كارثة الزلزال أن الاقتصاد المحلي شهد نموًّا بنسبة 5.6% عام 2022 متجاوزًا التوقعات، ووصل متوسط دخل الفرد الواحد حوالي 10 آلاف و655 دولارًا، فيما بلغ الناتج المحلي الإجمالي حوالي 866 مليار دولار (كان متوقعًا أن يصل الدخل القومي الإجمالي إلى 942 مليار دولار، وأن تبلغ الصادرات 270 مليارًا خلال عام 2023).
ووفق البيانات نفسها، ارتفعت النفقات الاستهلاكية للأسر بنحو 19.7% من إجمالي الناتج المحلي (مؤشر يعكس القيمة السوقية لسائر السلع والخدمات التي تم إنتاجها سنويًّا)، وانخفض معدل التضخم إلى 55.18% على أساس سنوي، بعد أن كان 85% في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 (أعلى مستوى له في 24 عامًا)، كما ارتفعت أسعار المستهلكين بنسبة 3.15% على أساس شهري، وانخفض معدل البطالة إلى 9.7% خلال شهر يناير/ كانون الثاني الماضي ليصبح 3 ملايين و424 ألف شخص.
وحقّق قطاع الصناعة نموًّا بنحو 3.3%، وقطاع الزراعة 0.6%، وبلغت عائدات قطاع السياحة التركية حوالي 46.28 مليار دولار، بعدما استقبلت البلاد 51.4 مليون زائر خلال عام 2022 وفقًا لوزارة السياحة والثقافة التركية، بينما كان المستهدف (بحسب وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نبطي) أن “تستقبل تركيا حوالي 60 مليون سائح أجنبي، مع زيادة عائدات السياحة إلى 56 مليار دولار خلال العام الحالي، 2023”.
لذا، لم يكن غريبًا أن يهاجم وزير المالية من يطالبون بـ”استقالة الحكومة”، قائلًا: “في ظل عملنا نحارب الفَجَرة الذين يطالبون باستقالة الحكومة، رغم أنهم يلجأون إلى الاستفزازات المتعمدة من خلال تشويه الحكومة باتهامات غير واقعية. الحكومة مصمّمة على خدمة المواطنين وبناء دولة قوية لا تتزعزع مستمدة من التاريخ والأمة. هناك تشويه متعمد. وزراء الحكومة اتخذوا قرارات سريعة، ووفّروا حلولًا فورية للمشكلات. قمنا بتقييد المطالبات الضريبية للتخفيف من آثار كارثة الزلزال على المواطنين وعالم الأعمال”.
إغاثة ودعم المنكوبين
رغم أن كارثة الزلزال كانت أكبر من أن تتحمّلها دولة أو حكومة (بحسب أردوغان)، تواصل الجهات الحكومية برنامجها المخصص لمواجهة تداعيات ما حدث، بداية من دعم الأجور، وحظر تسريح الموظفين في الولايات الجنوبية المتضررة، بينما تستفيد الشركات التي تعرضت مقراتها لأضرار شديدة أو متوسطة من الدعم الذي سيذهب جزء منه لتغطية أجور العاملين الذين تقلصت ساعات عملهم.
ويعيدُ هذا التذكير بخطوة مماثلة أقدمت عليها الحكومة التركية عام 2020، عندما دعمت الأجور وحظرت الاستغناء عن الموظفين لتخفيف الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا، وتعهّد أردوغان بتوفير مساكن جديدة لآلاف المتضررين في غضون عام، من خلال تخصيص جزء كبير من المبالغ المالية المتاحة لقطاع البناء، بهدف تسريع عملية إعادة إعمار الولايات الجنوبية.
التصريحات الحكومية الصادرة عن وزراء المجموعة الاقتصادية التركية، تؤكد أنه لولا مرونة الاقتصاد المحلي لما كانت لديه القدرة على مواجهة الصدمات، ولما سارع البنك المركزي بإنفاق حوالي 7 مليارات دولار من الاحتياطي النقدي خلال الأسبوعَين التاليَين فقط لكارثة الزلزال للحفاظ على قيمة الليرة، مدعومًا باحتياطي من النقد الأجنبي يتجاوز الـ 125 مليار، مع ضخّ مساعدات مالية متنوعة (تخصيص 100 مليار ليرة لصندوق تمويل أعمال البحث والإنقاذ والإغاثة، وبدأت الحكومة اعتبارًا من 15 فبراير/ شباط الماضي بإيداع مبلغ 10 آلاف ليرة في حساب العائلات المتضررة، مع إعانات مباشرة ومساعدات إيجارية خاصة للمصابين وأسر المتوفين، وتفعيل دعم الأجور النقدية)، وهو أمر من شأنه تحفيز الاستهلاك والإنتاج الصناعي (مؤشران أساسيان للنمو الاقتصادي).
وتعدّ مخصصات الطوارئ (التي أعلنها الرئيس التركي) من بين أهم الإجراءات الحكومية لحماية السوق، والحد من الخسائر الكلية للاقتصاد المحلي، كما أنشأت وزارة التجارة التركية هيئة لتقييم الأسعار “غير العادلة” لمنع الزيادات الباهظة في الأسعار ومنع ممارسات الاحتكار، وتأثيرها السلبي على المواطنين.
وتشمل قائمة المواد المصنَّفة كـ”احتياجات طارئة” (الغذاء الجاهز، أغذية الأطفال، سخانات التدفئة، البطانيات، أكياس النوم، بطاريات الشحن، الأحذية الشتوية، معاطف المطر، أدوات النظافة الشخصية للرجال والنساء والمسنين، وكل ما له علاقة ضرورية بأجواء الزلزال)، وحظر تصدير حاويات المنازل والمباني الجاهزة لمدة 3 أشهر، وخفض ضريبة القيمة المضافة على الحاويات والمنازل المركبة للمؤسسات والمنظمات ذات الصلة بضحايا الكوارث في مناطق الزلزال من 18% إلى 1% حتى نهاية العام الجاري.
خطوات لتعويم اقتصاد الجنوب
رغم أن المراكز الصناعية والتجارية الأكبر التي تسهم بأكثر من 53.7% من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا تتمثل في إسطنبول، أنقرة، إزمير، بورصة وكوجالي؛ والمراكز السياحة الرئيسية في إسطنبول، أنطاليا وأدرنة؛ إلا أن الولايات الجنوبية الـ 11 التي تعرضت للزلزال المدمر، تحتلّ مكانة مهمة في الاقتصاد المحلي (مناطق زراعية وصناعية في مجالات الصلب والنسيج والجلود، وفيها أكثر من 150 شركة ضمن أكبر 500 شركة صناعية تركية، وحوالي 1500 منشأة صغيرة ومتوسطة).
حيث تبلغ حصة المناطق المتضررة من الزلزال حوالي 9.3% من الناتج المحلي الإجمالي (تعادل 76 مليار دولار)، وتسهم بأكثر من 20% من الصادرات الزراعية، وحوالي 8% من إجمالي الصادرات (حوالي 20 مليار دولار سنويًّا) وفقًا لإحصاءات عام 2022.
وتؤكد حكومة أردوغان أنها لم تقف في مربع المتفرجين بعد كارثة الزلزال، بل سارعت برصد الخسائر، ووفق وزير الصناعة والتكنولوجيا، مصطفى ورانك، بلغت خسائر القطاع الصناعي بالمناطق المنكوبة حوالي 9 مليارات دولار (170 مليار ليرة) بسبب توقف إمدادات الغاز والكهرباء، ونزوح عدد كبير من الأيدي العاملة، وإعادة تقييم وفحص الأضرار.
بينما تفاقمت خسائر قطاع النقل (البري والجوي والبحري)، حيث تضررت 4 مطارات من أصل 7 وميناء الإسكندرون البحري، وبعد إنهاء الفرق المختصة إحصاء خسائر البنية التحتية والفوقية والمعدّات المستخدمة في قطاع الصناعة بمناطق الزلزال، شرعت الحكومة على الفور في العمل على إيجاد حلول لجميع المشكلات التي يعانيها القطاع، ومواصلة دعم الاستثمار في الجنوب.
وبدأت الإجراءات الحكومية التركية التي تستهدف إعادة تأهيل قطاع الصناعة بالولايات الجنوبية المتضررة، وضمان استقرارها المالي بعد كارثة الزلزال، بتخصيص 100 مليار ليرة تركية، لتمكين الشركات من الحصول على قروض طويلة الأجل، وتخصيص حزمة قروض بقيمة 11.3 مليار ليرة لتغطية نفقات تشغيل الشركات في منطقة الزلزال، مع تأخير الالتزامات الضريبية لمدة 6 أشهر، واعتماد نظام التقسيط في عملية الدفع.
كما تمَّ تأجيل فوائد ديون مستحقة خاصة على المزارعين لمدة عام واحد من دون فوائد، وتخصيص ميزانيات فرعية خاصة لقطاع الصحة بهدف توفير الأدوية والمعدّات الطبية، حتى وإن كانت التكلفة ستشكل ضغطًا على الموازنة العامة (التي تعاني عجزًا قياسيًّا) وعلى الليرة التركية وعلى الحساب الجاري، بسبب الزيادة غير المتوقعة في الإنفاق (يقطن ولايات الجنوب المتضررة ما بين 13 إلى 15 مليون نسمة).
التقديرات الاقتصادية تُظهر الكارثة
تختلف التقديرات الدولية والمحلية في تقييم خسائر الاقتصاد التركي بعد كارثة الزلزال، حيث تؤكد مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، أن “الزلزال الذي دمّر مناطق واسعة بجنوب تركيا تسبّب في مأساة هائلة للأفراد، كما تسبّب في تأثير كبير جدًّا على الاقتصاد التركي”.
وأوضح المدير التنفيذي في الصندوق، محمود محيي الدين (أمام منتدى المالية العامة للدول العربية في دبي)، أن “تأثير زلزال تركيا على نمو الناتج المحلي الإجمالي لن يكون على الأرجح بالقدر نفسه الذي خلفه زلزال عام 1999 (..) استثمارات القطاعَين العام والخاص في إعادة الإعمار قد تعطي دفعة لنمو الناتج الإجمالي المحلي بعد التأثير الأولي للكارثة على مدى الأشهر القليلة المقبلة”.
وقال منسّق مساعدات الأمم المتحدة، مارتن غريفيث: “أعتقد أنها أسوأ كارثة طبيعية رأيتها في حياتي.. المواطنون يعانون حزنًا لا يوصف.. يجب أن نقف معهم في أحلك أوقاتهم ونضمن حصولهم على الدعم الذي يحتاجون إليه”.
فيما يؤكد خبراء، من بينهم عضو جمعية هندسة الزلازل الأسترالية كيفين ماكوي، أن “إعادة البناء في المناطق المنكوبة قد تستغرق حوالي 10 سنوات”، وقالت وكالة “بلومبيرغ” إن “تعافي تركيا من تداعيات الزلزال وتوابعه يتطلب رصد عشرات المليارات من الدولارات، كون المساعدات التي تقدمها دول العالم لتركيا حاليًّا مجرد إسعافات أولية، وأن جهود إعادة الإعمار الضخمة لن تقلّ عن 5.5% من حجم الناتج المحلي الإجمالي التركي، أي حوالي 50 مليار دولار”.
ويقول بنك “جي بي مورغان” الأمريكي إن التكاليف المباشرة لتدمير الهياكل المادية قد تصل إلى 25 مليار دولار، أو 2.5%من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وقدّر اتحاد الشركات والأعمال في تركيا حجم الأضرار بـ 84 مليار دولار (تعادل 10% من الناتج الإجمالي للبلاد)، بعدما تسبب الزلزال في تدمير مبانٍ سكنية بنحو 70.8 مليار دولار، إلى جانب 10.4 مليارات دولار أخرى في صورة خسارة في الدخل القومي، بجانب خسائر في القوة العاملة قد تكلف اقتصاد تركيا 2.9 مليار دولار، بعدما ضرب الزلزال 11 ولاية جنوب البلاد (62 قضاء و10 آلاف و190 قرية).
ويرى البنك الدولي أن كارثة الزلزال تسبّبت في أضرار مادية مباشرة بلغت قيمتها نحو 34.2 مليار دولار، وأن إجمالي تكاليف إعادة الإعمار والتعافي قد تكون 3 أضعاف المبلغ المذكور، بحسب مدير مكتب البنك الدولي في تركيا، هامبرتو لوبيز.
كما توضّح نائبة رئيس مجموعة البنك الدولي لأوروبا وآسيا الوسطى، آنا بييردي، أن التقييم المبدئي السريع للأضرار في تركيا البالغ 34.2 مليار دولار يعادل نحو 4% من الناتج الاقتصادي لعام 2021، خاصة أن معدلات الفقر ترتفع بقوة وسط بعض الولايات الجنوبية المتضررة، كما أنها تستضيف أكثر من 1.7 مليون لاجئ سوري (نصف إجمالي عدد اللاجئين السوريين في تركيا).
أردوغان: طموح العودة إلى البداية الناجحة
يعمل أردوغان (وفريقه الاقتصادي) على دراسة المعوقات والعراقيل التي تواجه الاقتصاد التركي، ومحاولة استحضار عوامل النجاح التي طبّقها عند بداية صعوده السياسي، بداية من حرصه على طمأنة كل القوى المجتمعية تجاه نهجه الاقتصادي: “نحن نسير على خطى أجدادنا الفاتحين من أمثال السلطان ألب أرسلان، والسلطان محمد الفاتح، وعلى خطى قادتنا العظماء أمثال مصطفى كمال أتاتورك، وعدنان مندريس، وتورجوت أوزال، ونجم الدين أربكان”.
يأتي هذا قبل أن يحول شعاراته إلى خطط عمل مرحلية، بداية من تحفيز الصناعة المتوسطة والحرفية ثم الصناعات الثقيلة، وتفعيل كل الإمكانات الاقتصادية (إنتاجًا وتسويقًا وأرباحًا)، وتطوير أنواع ومعاملات الوساطة المالية المناسبة للاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وزيادة معدل الادخار والاستفادة منه في الاقتصاد وتنوع قطاعاته، وتوفير الدعم المناسب وفتح أسواق جديدة إقليميًّا ودوليًّا.
واعتمدت الخطط الاقتصادية المرحلية التي تبنّاها أردوغان (وحزب العدالة والتنمية) في بداية حكمه على تشجيع المؤسسات الاستثمارية على دخول السوق التركي، وتطوير هياكل وأساليب عمل سوق المال (بورصة إسطنبول للأوراق المالية)، وتوفير المناخ السياسي والاقتصادي المناسب للإنتاج والاستثمارات (المحلية والأجنبية) والتوظيف، وفتح المجال أمام المنافسة الدولية، مع تعزيز دور القطاع الخاص لزيادة فرص العمل.
أيضًا العمل على تقليص الديون العامة، ورفع معدل النمو الاقتصادي التركي، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، مع رفع احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة عدة أضعاف، والقدرة على التنبؤ بالمؤشرات الاقتصادية العامة، لا سيما التضخم وأسعار الصرف ونسبة الفائدة، ومن ثم انعكست هذه المكاسب على نمط الحياة الاجتماعية في البلاد.
يرسّخ أردوغان لمكانة تركيا في السوق العالمية بـ”المنتجات الحلال”، وهو سوق تساهم فيه أكثر من 75 دولة، ويقدَّر حجمه عالميًّا بحوالي 6 تريليونات دولار.
ونجحت سياسات أردوغان منذ عام 2004 في دعم إنشاء المناطق الاقتصادية ومراكز الجذب في مجال الزراعة والصناعة، اعتمادًا على وفرة الموارد الخام والقوة العاملة وإمكانات النقل وقوة السوق، مع الاهتمام بتقديم محفزات لتقليل تكلفة الإنتاج وزياد الجودة والإنتاجية، ودعم الخدمات الهندسية والمقاولات خارج تركيا لتوفير العملة الصعبة، مع تشجيع الصناعات الدفاعية وأنظمة الفضاء وصناعة السيارات والإلكترونيات، ودعم أنشطة البحث والتطوير، مع تشجيع الشركات المحلية على الإنتاج طبقًا لمعايير الجودة العالمية.
وتتبنّى حكومات أردوغان طوال العقدَين الماضيَين خطط إصلاح تتوافق مع القدرات المحلية التركية، وتتسق مع حزمة من التدابير الرشيدة الهادفة لتشجيع قيام اقتصاديات السوق الحرة، دون أن تصبح ضحية للوصفات الاقتصادية المفروضة عالميًّا، التي ترسّخ للتبعية الاقتصادية والارتهان السياسي (بسبب تداعيات سياسات الخصخصة والتقشف، التي تؤثر على مستوى وجودة الحياة لدى المواطنين، من خلال تهميش التنمية الاقتصادية الحقيقية).
وفي المقابل، تُبنى رؤية واضحة كان من شأنها مدّ يد العون لملايين الأتراك، والانتقال بهم من مربع الفقر والتهميش إلى صفوف الطبقة الوسطى، ثم نجحت تركيا في أن تصبح ضمن مجموعة دول العشرين.
ويرسّخ أردوغان لمكانة تركيا في السوق العالمية بـ”المنتجات الحلال” (قائمة السلع الغذائية، ومستحضرات التجميل، والتجهيزات الصحية، والصناعات النسيجية، والبنوك والتمويل، والسياحة، المتوافقة مع تعاليم الشريعة الإسلامية)، وهو سوق تساهم فيه أكثر من 75 دولة، ويقدَّر حجمه عالميًّا بحوالي 6 تريليونات دولار.
وترغب تركيا في الاستحواذ على ما قيمته 400 مليار دولار من حجم سوق المنتجات الحلال، وقد دعمت الحكومة التركية تحركاتها بعد تأسيس هيئة اعتماد الحلال (HAK) المعنية بتحديد المعايير الخاصة بالمنتجات المحلية والمستوردة، ومراقبة المؤسسات المانحة لشهادات الحلال حول العالم (أكثر من 420 مؤسسة).
الحكومة تتحرك.. والمعارضة أيضًا
لا خلاف على أن نتائج الانتخابات التركية، منذ خمسينيات القرن الماضي، ترتبط بالأداء الاقتصادي للحكومات، حيث تتأثر القواعد التصويتية (كما في انتخابات المحليات عام 2019) بالإخفاقات الاقتصادية، ومن ثم تدفع التطورات الاقتصادية المتلاحقة أردوغان إلى مزيد من التحركات لعلاج أزمة التضخم، دون الحد من زيادة الإنفاق الحكومي لحماية الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ويؤكد حزب العدالة والتنمية في برنامجه الانتخابي: “سنعمل على تحسين الاستثمار بشكل أكبر من خلال دمج هيكل قائم على اقتصاد السوق الحرة مع دول العالم، بهدف تحقيق نمو سنوي قدره 5.5% في 2024-2028، وناتج محلي إجمالي قدره 1.5 تريليون دولار بنهاية عام 2028″، مع العمل على تطوير القطاعات الصناعية، لاسيما الدفاعية، والتوسع في المشروع الأكبر (قناة ومطار إسطنبول)، مع العمل على تطوير ملف الطاقة، وأن تصبح تركيا مركزًا عالميًّا لتوزيع الغاز.
وتمثل أسعار السلع والمواد الغذائية أحد منغصات الداخل التركي، وهي أزمة يرجعها أردوغان لعدة عوامل، هي “تجّار التجزئة، تأثر العالم بأزمة سلاسل الإمداد بسبب تفشي فيروس كورونا خلال السنوات القليلة الماضية، وتداعيات أزمة الاحتباس الحراري -الجفاف والفيضانات- على إنتاج الحبوب والزيوت”، كما تأثير سعر صرف الدولار على تكاليف إنتاج ونقل المواد الغذائية.
ولم تكتفِ الحكومة التركية بتشخيص الأزمة، لكنها بادرت بخطوات عملية لتحسين مستوى المعيشة للأتراك (زيادة الحد الأدنى للأجور بعد زيادة مرتبات الموظفين في الدولة والمتقاعدين، والتصديق على قانون التقاعد المبكر الذي يستفيد منه نحو 2.3 مليون مواطن، واتجاه الحكومة لإعادة النظر في أسعار الكهرباء للاشتراكات السكنية والتجارية، وفواتير الغاز الطبيعي للشركات الصناعية، للحدّ من تكاليف الإنتاج ومن ثم تخفيف التكلفة على المستهلكين).
تبدو الحكومة التركية الجديدة أمام خيارَين: وضع سياسات علاجية وتنشيطية وتحفيزية، أو أن تلجأ إلى المسكّنات التي تفاقم أزمات الاقتصاد.
في المقابل، تقدّم المعارضة التركية نفسها للناخبين على أن لديها قامات اقتصادية مهمة في صفوفها (وزير الاقتصاد الأسبق في حكومة أردوغان علي باباجان، الذي سيكون نائبًا لرئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية حال فوز كمال كيليجدار أوغلو بالمنصب)، ومستشارين اقتصاديين أجانب (الخبير دارون عاصم أوغلو، والاقتصادي الأمريكي جيريمي ريفكين، والأكاديمي ريفيت جوركيناك، والاقتصادي الشهير هاكان كارا).
ويندرج معظم ما تطرح المعارضة من تصورات في الملف الاقتصادي تحت مظلة السياسات التقليدية المطبّقة في الغرب الأمريكي الأوروبي، إلى جانب جملة وعود وتعهُّدات اقتصادية أخرى ترتبط بإصرار المعارضة على العودة إلى النظام البرلماني، كونه سيعيد تصحيح الأوضاع ويسهم في تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى تركيا.
بين هذا وذاك، يبدو الاقتصاد التركي بعد كارثة الزلزال أمام اختبار حقيقي تفرضه تحديات التنمية وإعادة إعمار الولايات الجنوبية، وتبدو الحكومة التركية الجديدة (من واقع ما ستكشف عنه الانتخابات المقبلة) أمام خيارَين: وضع سياسات علاجية وتنشيطية وتحفيزية لإنقاذ العملة المحلية (الليرة) ومواجهة الركود، وتعزيز الطلب الاستهلاكي والإنتاج الصناعي؛ أو أن تلجأ إلى المسكنات التي تفاقم أزمات الاقتصاد.