لم يكن اسمه مطروحًا على طاولة الحياة السياسية قبل 2019، كل ما كان يعرف عنه أنه عسكري منضبط، ليس له توجهات أيديولوجية واضحة، تدرج في مختلف المراتب العسكرية حتى أصبح قائدًا للقوات البرية، وفي حزمة التعديلات التي أجراها الرئيس المعزول عمر البشير في ذلك العام تمت ترقيته إلى فريق أول ليتولى بعدها منصب المفتش العام للقوات المسلحة.
في 12 أبريل/نيسان 2019 اختاره الفريق أول أحمد عوض بن عوف – آخر وزير دفاع في عهد البشير الذي تولى إدارة الجمهورية ليوم واحد فقط بعد عزل الرئيس الأسبق -، رئيسًا جديدًا للمجلس العسكري المشكل حديثًا، ليتسلم مهامه رسميًا بعد أداء اليمين الدستورية ليصبح الحاكم الأول في السودان.
الفريق عبد الفتاح البرهان.. رجل الظل الذي أصبح فجأة ودون مقدمات رئيسًا للمجلس السيادي والقائد العام للقوات المسلحة السودانية وصاحب الكلمة العليا في المشهد السوداني، واللاعب الأبرز وراء إشعال الموقف الحاليّ وإدخال البلاد في آتون الصراعات والنزاعات جراء أطماعه السلطوية التي شاركه فيها نائبه ومنافسه محمد حمدان دقلو (حميدتي).
أوهم الشارع السوداني في ظهوره الأول للأضواء بنصرته للثورة ودعمه لمطالب الثوار في مواجهة نظام الإنقاذ، وكان أحد من أبلغ البشير بقرار عزله وتنحيته عن المشهد، لكن سرعان ما تغيرت الدفة وتبدلت وجهتها حين كشف عن رغبته الجامحة في الانفراد بالسلطة وعرقلة كل سبيل يقود إلى الحكم المدني.. فمن هو البرهان الذي يراهن عليه البعض في استمرار مسيرة عسكرة الدولة السودانية؟
نشأة صوفية من الدرجة الأولى
نشأ البرهان في أسرة متدينة، متجذرة في الصوفية، فوالده هو الحاج البرهان عبد الرحمن البرهان، ووالدته صفية الصديق، ابنة الشيخ علي الحفيان، وكلاهما، الأب والجد للأم، أحد رموز الصوفية في البلاد، أما جده لأبيه فكان قبره مزارًا صوفيًا للمريدين في العاصمة الخرطوم.
ومن هنا عاش البرهان المولود في 11 يوليو/تموز 1960 في قرية قندتو بولاية نهر النيل (تبعد 173 كيلومترًا عن العاصمة الخرطوم) حياة تهيمن عليها أجواء التصوف والتدين التي رغم عدم الانخراط بداخل عباءتها بشكل تنظيمي كما فعل والده وجده، كانت ظهيرًا جيدًا له في مستقبله العسكري ومن ثم السياسي.
ينتمي البرهان وأسرته إلى الطريقة الختمية، واحدة من أكثر الطرف الصوفية انتشارًا في السودان، وهي الذراع الدينية للحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد عثمان الميرغني، وكان لها تأثيرها الواضح على تكوينه الشخصي الذي ظهر فيما بعد في علاقاته مع الغير وتوجهاته السياسية والفكرية.
تلقى عبد الفتاح تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس قريته، وفي الثانوية انتقل إلى مدينة شندي القريبة من بلدته، وقد حرصت العائلة على إدخاله الكلية الحربية أسوة بأقرانه من العائلة حيث الميل نحو إلحاق أبنائهم بالعسكرية، ليتخرج فيها ضمن ضباط الدفعة الـ31 ليبدأ مرحلة جديدة من حياته العسكرية.
تنبأ والد البرهان بأنه سيكون له شأن كبير في الدولة، كما جاء على لسان شقيقه عبد القادر خلال حديث صحفي له في 2019 حين قال إنه يتذكر يومًا ما، حينما كانوا جلوسًا وهم أطفال مع والدهم البرهان عبد الرحمن، الذي توجه يومئذ بالحديث إلى شقيقهم عبد الفتاح ليبشره بأنه سيصبح قائدًا كبيرًا، وستكون تلك الفراسة محل اختبار الإثبات أو النفي، في مرحلة صعبة من تاريخ البلاد، وعلى طريقة تعاطي (ابن القبتين) مع معضلات الشأن السوداني، في تجلياتها السياسية والاقتصادية.
ويفسر الكاتب السوداني جعفر عباس تلك النبوءة بأنها وسيلة معتادة لدى المتصوفة لمغازلة التيار الصوفي ذات الشعبية الجارفة في السودان، لافتًا أن البرهان حاول منذ الوهلة الأولى اتخاذ الصوفيين كظهير شعبي له في معتركه السياسي منذ 2019 وحتى اليوم، وأن ذلك ديدن من سبقوه من المنتمين لهذا التيار، إما تنظيميًا وإما برغماتيًا، كما هو حال جعفر نميري وعمر البشير، ممن تعاملوا مع أقطاب الصوفية كتمائم تقيهم من السقوط وتحميهم من المؤامرات الداخلية والخارجية.
عسكري صارم
بدأ البرهان حياته العسكرية ضابطًا بقوات حرس الحدود وسلاح المشاة، ثم ملحقًا عسكريًا في الصين، ليعين بعدها قائدًا لقوات حرس الحدود، ومنها إلى نائب رئيس أركان عمليات القوات البرية ثم رئيسًا لها لاحقًا، وقد خاض معارك عسكرية في صفوف الجيش خلال حرب الجنوب وحتى انفصال جنوب السودان عام 2011.
أشرف – إلى جوار حميدتي – على القوات السودانية المشاركة إلى جانب قوات التحالف العربي في اليمن منذ عام 2015، وهو ما يفسر علاقته الجيدة بالرياض رغم الخلافات الأيديولوجية، كما تولى قيادة القوات البرية عام 2018، ومن بعدها رئاسة أركان القوات المسلحة حيث رقاه البشير إلى رتبة فريق أول في 26 فبراير/شباط 2018 وفي اليوم التالي ترقى إلى مفتش عام للقوات المسلحة.
وفق شهادات زملائه من ضباط القوات المسلحة فإن البرهان أحد أكثر الضباط السودانيين صرامةً وحزمًا، ويتمتع بشخصية قيادية ملتزمة عسكريًا، ومن الصعب التكهن بما يفكر فيه، حيث يكتنفه الغموض في الكثير من مواقفه، وهو ما يجعله رقمًا صعبًا داخل المؤسسة العسكرية رغم أنه اسمه لم يكن مطروحًا ضمن نخبة الجيش وقادته المعروفين.
أهل البرهان نفسه أكاديميًا وعسكريًا من خلال حرصه على تلقي العديد من الدورات التدريبية في مجال القتال والإدارة العسكرية، فحصل على دورات عدة من مصر والأردن وبعض البلدان العربية، وعمل مدربًا في بعض المعاهد العسكرية في منطقة جبيت، شرقي السودان، كل ذلك ساعده على الحصول على عدة ترقيات متتالية وفي وقت قصير.
ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.. دخول المعترك السياسي
كانت شرارة ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 نقطة التحول الأبرز في مسيرة البرهان، الذي نجح في قراءة المشهد مبكرًا حين ارتأى عدم الصدام مع المحتجين، وفي 12 أبريل/ نيسان 2019 نزل الجنرال إلى ميدان الاعتصام أمام مقر القوات المسلحة، وبدأ في الحديث مع المتظاهرين الذين كانوا يرفعون شعارات إسقاط النظام، وكان من بينهم رئيس حزب المؤتمر السوداني السابق، إبراهيم الشيخ.
كان وجه البرهان غير مألوف للشارع السوداني، مقارنة ببقية الجنرالات المعروفين والمقربين من البشير، ومن ثم لم يتم لفظه مبكرًا كما حدث مع بن عوف الذي لم يستمر في منصبه كرئيس للمجلس العسكري المشكل بعد عزل البشير لأكثر من 24 ساعة، بل كان الجنرال الصوفي أحد الأشخاص الثلاث الذين أبلغوا رئيس نظام الإنقاذ بعزله من الرئاسة بحسب “الأناضول”.
وهنا وجد العسكر أنفسهم في مأزق، فأمام تلك الأمواج الثورية الهادرة، ورفض كل من كان على علاقة مباشرة بنظام البشير، كان لا بد من اختيار شخصية غير معروفة، تتمتع باستقلالية نسبية، غير مؤدلجة، وليست محسوبة على تيارات سياسية بعينها، لكنها تدين بالولاء التام للمؤسسة العسكرية وجنرالاتها، واجتمعت تلك الصفات في الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الشخصية التي قضت معظم فترات أعمالها خارج البلاد، في اليمن والصين والإمارات ومصر، كما أن سجله العسكري في حرب الجنوب حافل بالإنجازات، ومن ثم لم يتردد بن عوف في تعيينه رئيسًا للمجلس العسكري خلفًا له.
كان اختيار البرهان لتلك المهمة اختيارًا ذكيًا من جنرالات الإنقاذ، فالرجل يتمتع بقبول نسبي لدى مختلف الأطياف السياسية، الحزبية والفصائلية، كونه خارج دائرة الاشتباه في سلسلة الجرائم التي ارتكبها عسكر النظام بحق المدنيين والمعارضة، كما أن وجوده على رأس السلطة يضمن لهم حياتهم وأمنهم وسلامتهم من الملاحقة القضائية والأمنية في ظل تصاعد الأصوات التي تطالب بمحاسبة رؤوس النظام من الجنرالات المتورطين في جرائم الدم والتعذيب بحق السودانيين.
الاصطفاف مع الثورة.. مؤقتًا
في 12 أبريل/نيسان 2019، خرج بن عوف في خطاب بثه التليفزيون الرسمي السوداني قائلًا: “أُعلن أنا رئيس المجلس العسكري الانتقالي التنازل عن هذا المنصب واختيار من أثق في خبرته وجدارته بأن يصل بالسفينة إلى بر الأمان وبعد التفاكر والتشاور أعلن عن اختيار الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن ليخلفني في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي”.
اعتبر الثوار ما حدث نصرًا مؤقتًا، خاصة أن الرجل لم يثبت عليه قبل هذا الوقت التورط في جرائم زمرة جنرالات البشير، هذا بخلاف اصطفافه المبكر مع الثورة والثوار والنزول إلى جوارهم في الميادين، لكن تعيين عسكري على رأس السلطة بعد الإطاحة برأس النظام السابق لم يرق للكثيرين من التيارات الثورية التي تطالب بحكم مدني كامل، أو على الأقل جزئي مرحلي لحين إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت، ومن هنا علت الأصوات التي تنادي بتشكيل حكومة مدنية، وبقي المعتصون في ساحات الاعتصام أمام مقر القيادة العامة في الخرطوم.
وفي 3 يونيو/حزيران 2019 هجمت قوات من الجيش مدعومة بأفراد من قوات الدعم السريع على الاعتصام في محاولة لفضه بالقوة، ما أدى إلى مقتل أكثر من 128 قتيلًا وإصابه المئات، وسط اتهامات مباشرة للعسكر، البرهان وحميدتي تحديدًا، بالتورط في تلك الجريمة، وتم تشكيل لجنة للتحقيق في هذه الحادثة، لكنها لم تتمكن من تسليم خلاصة ما وصلت إليه إلى الجهات المختصة.
كان الهجوم الشعبي إزاء مجزرة مقر القيادة العامة كاسحًا، وهنا لم يشأ الجنرال الجديد خسارة الثوار بشكل نهائي، بعدما جس نبضهم في مسألة استعمال القوة المفرطة، وفي يوليو/تموز 2019 بدأ الدخول في مفاوضات مع زعماء الثورة وقادة المعارضة من قوى الحرية والتغيير (التيار الأقوى الذي قاد الثورة في ذلك الوقت) من أجل تدشين حكومة مدنية جديدة، ونتيجة لضغوط الداخل والخارج، ظهر ما عرف بـ”الإعلان الدستوري” في أغسطس/آب من نفس العام (2019) الذي يؤسس لبرلمان ثم حكومة مدنية.
وفي 20 أغسطس/آب 2019 تم تعيين الاقتصادي المعروف، عبد الله حمدوك، رئيسًا للوزراء، ليصبح أول رئيس حكومة بعد سقوط نظام البشير، ورغم استبشار الشارع حينها بتلك الخطوة، فإن ما تلاها كان صادمًا للجميع، حيث قُيدت أيادي حمدوك وغلت أطرافه عن أداء دورها وتحقيق أهدافها المنشودة في ظل العراقيل والتحديات التي وضعها العسكر أمام الحكومة الجديدة، التي كان يخطط لها الفشل وفق ما ذهب مشاركون في الاحتجاجات، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة الجنرال الذي بدت إرهاصات أطماعه السياسية في الاستئثار بالسلطة تلوح في الأفق.
السلطة تداعب خيال الجنرال
حاول البرهان تعميق علاقاته الدولية خلال فترات حكمه الأولى، مستفيدًا من حالة التخبط التي يحياها التيار المدني المتنازع فيما بينه على كعكة السلطة، حيث طرق الجنرال أبواب الأمريكان في سبتمبر/أيلول 2020 لتقديم أوراق اعتماده كقائد قادر على إدارة المرحلة، محاولًا رفع اسم بلاده من قائمة الدول الراعية للإرهاب من أجل انفتاح العالم والمؤسسات المالية على اقتصاد السودان المترهل جراء تلك القيود والعقوبات.
كما سعى الجنرال إلى تعزيز حضوره لدى القوى الإقليمية الأخرى وفي المقدمة منها “إسرائيل”، وهناك تصريح منسوب للمتحدث السابق باسم الخارجية السودانية، حيدر بدوي، في 18 أغسطس/آب 2020 قال فيه إن بلاده تتطلع لإبرام معاهدة سلام مع “إسرائيل” تكون قائمة على مصلحة السودان، لكن من دون التضحية بالقيم والثوابت، وهو التصريح الذي وضع البرهان في موقف حرج، ما دفع الخارجية لنفيه لاحقًا قبل أن يتم التيقن من صحته فيما بعد حين خرجت المباحثات بين الخرطوم وتل أبيب من نطاقها السري إلى العلن، حيث اللقاءات والزيارات الرسمية المتبادلة والحديث صراحة عن تطبيع قريب بين الدولتين في إطار اتفاقية “أبراهام” التي تقودها الإمارات، عراب التطبيع في المنطقة، توجت تلك المفاوضات بلقاء رئيس مجلس السيادة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عنتيبي الأوغندية في فبراير/شباط 2020، وأعقبه الإعلان عن توقيع اتفاق التطبيع في 6 يناير/كانون الثاني 2021.
سبق ذلك المسار ترتيبات وتفاهمات دشنها البرهان مع بعض القوى الإقليمية، في المقدمة منها القاهرة التي خصها الجنرال بأولى زياراته الدولية في مايو/آيار 2019، حيث التقى بالرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس جهاز المخابرات العامة، عباس حلمي، وبعدها بأيام قليلة كانت زيارته الثانية للإمارات.
التنسيق مع “إسرائيل” والزيارات المكوكية لمصر والإمارات، بجانب زيارة حميدتي للسعودية ولقائه ولي العهد محمد بن سلمان، أثاروا الكثير من الجدل بشأن أهداف تلك التحركات التي وصفها البعض بـ”المشبوهة”، فيما ذهب آخرون إلى أنها جزء من مخطط الانقلاب على متطلبات وأهداف ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، خاصة مع اقتراب موعد تسليم المكون العسكري للسلطة للتيار المدني.
الانقلاب على الثورة
قبيل أشهر قليلة على موعد تسليم العسكر للسلطة، فوجئ السودانيون، والمهتمون بالشأن السوداني في الخارج، بحديث متلفز للبرهان صبيحة 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 أعلن فيه الإطاحة بحكومة حمدوك والقيام بانقلاب ناعم على السلطة المدنية، فيما تحفظ على رئيس الوزراء في منزل تابع له بحسب وسائل إعلام محلية.
وبعدها بأقل من شهر وتحديدًا في 11 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام 2021 أعلن تشكيل مجلس سيادة انتقالي جديد، أصبح فيه حميدتي نائبًا وقوامه عسكري بامتياز، مكون من: شمس الدين كباشي وياسر العطا ومالك عقار والهادي إدريس والطاهر أبو حجر ويوسف جاد كريم وأبو القاسم محمد أحمد وسلمى عبد الجبار المبارك موسى.
وأمام الانتقادات الدولية التي بلغت حد التحذير والتدخل اضطر البرهان لإطلاق سراح حمدوك في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، ثم في 4 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام صرح بأن الجيش سيخرج من الحياة السياسية بعد الانتخابات التي قرر لها يوليو/تموز 2023 قائلًا: “عندما تُنتخب حكومة، لا أعتقد أن الجيش أو القوات المسلحة أو أي من القوى الأمنية ستشارك في السياسة. هذا ما اتفقنا عليه وهذا هو الوضع الطبيعي”.
وأمام الانتقادات والضغوط جدد تأكيده على تسليم السلطة للمدنيين في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2021، حين شدد في خطاب له على التزامه “ببناء جميع مؤسسات الحكومة الانتقالية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، في موعدها المحدد، في يوليو/تموز 2023″، وأعاد التأكيد على هذا الأمر مرة أخرى في 4 يوليو/ تموز 2022.
الخلاف مع حميدتي.. صراع المصالح
الهجوم الذي تعرض له البرهان بسبب انقلاب أكتوبر/تشرين الأول دفع حميدتي لمحاولة القفز من المركب سريعًا، رغم أنه شريك أساسي في الانقلاب الناعم الأول على حمدوك، وضلع أساسي في الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين منذ 2019 وحتى اليوم، حيث حاول إيهام الشارع السوداني بأنه رافض للانقلاب وداعم للثورة والمطالب الثورية، في محاولة لكسب دعمهم في مواجهة البرهان.
وبعد العديد من المعارك السياسية التي خاضها الجيش والتيار المدني، والضغوط الداخلية والخارجية، أجبر البرهان على توقيع اتفاق إطاري مع بعض القوى المدنية يهدف إلى الإعداد لمرحلة انتقالية مدتها عام تبدأ من ديسمبر/كانون الأول 2022، على أن تنتهي بتسليم السلطة للمدنيين وإجراء انتخابات عامة وإعادة الجيش إلى ثكناته.
ورغم المؤشرات التي كانت تذهب إلى اقتراب موعد توقيع هذا الاتفاق وحسم الجدل في تلك المسألة، فإن المخاوف والشكوك كانت تساور البعض بشأن انسحاب العسكر من المشهد السياسي والتخلي عن المكاسب والامتيازات التي حصلوا عليها طيلة السنوات الأربعة الماضية، ويبدو أن تلك الشكوك كانت في محلها.
وقبل توقيع الاتفاق الإطاري بشكل رسمي، توترت الأجواء أكثر وأكثر بين البرهان وحميدتي، ووصل السجال بينهما إلى مستويات غير مسبوقة، انتهى به الأمر إلى نشوب معركة عسكرية بين الجيش وقوات الدعم منذ 15 أبريل/نيسان الحاليّ وحتى اليوم، أسفرت حتى اليوم عن مقتل المئات وإصابة الآلاف فيما نزح الكثير من سكان الخرطوم وأجوارها.
الملاحظ هنا أنه قبيل موعد تسليم السلطة للمدنيين يختلق العسكر أزمة ما للهروب من تلك الالتزامات، الأولى كانت بالانقلاب على حكومة حمدوك وقوى الحرية والتغيير، والثانية بإشعال المعركة بين الضلعين الأكبر في المكون العسكري وإدخال البلاد في نفق مظلم لا يعلم أحد مداه، فيما تتصاعد مخاوف التدخل الخارجي الذي قد يعيد السودان مئات السنين إلى الوراء.
وتنقسم الآراء بشأن تفسير الصدام الحاليّ بين حميدتي والبرهان، البعض يرى أنه صراع نفوذ في المقام الأول، فكل جنرال يؤمل نفسه بالسيطرة على الحكم، مستندًا في ذلك إلى فريق إقليمي ودولي يدعمه، حيث يدعم البرهان من مصر والولايات المتحدة والسعودية (رغم تحفظها على وجود إسلاميين في المؤسسة العسكرية)، فيما تدعم الإمارات وروسيا وإثيوبيا قوات الدعم بقيادة حميدتي.
وفريق آخر يميل إلى أن ما يحدث هو تبادل أدوار بين الجنرالين لإقصاء المدنيين عن الحكم وتعزيز هيمنة العسكر على المشهد، وأن الأمر في النهاية سيقود البرهان وحميدتي إلى طاولة المفاوضات والتهدئة رضوخًا للضغوط الإقليمية والدولية شريطة أن يظلا في الحكم أو تتقاسم السلطة بينهما، المهم ألا تخرج عن سيطرة المؤسسة العسكرية.
وسواء كان ما يحدث صراع نفوذ أم تبادل أدوار، فإن البرهان – كما حميدتي – انقلب على الثورة التي زعم أنه داعم لها بداية الأمر، ونجح من خلال سياسة “فرق تسد” التي اتبعها في تفتيت لحمة التيار المدني وإحداث الوقيعة بين أطيافه، ليؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن تمسك العسكر بالسلطة ليس رغبة سياسة قدر ما هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم، وأن إثنائهم عن ذلك سيكون مكلفًا للغاية.