أثار ربط اعتقال رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي بموافقة الجزائر على ذلك، استنكارًا رسميًا وإعلاميًا في البلاد، مصنفين ذلك في خانة الحملة التي تستهدف العلاقات المتينة بين البلدين الجارين، خاصة أن الجزائر نفت علمها بالخطوة التي اتخذتها السلطات الحاكمة في جارتها الشرقية بشأن هذا الملف، بالنظر إلى أن هذه القضية شأن داخلي تونسي ولا علاقة لها بها، فما أسباب هذا الربط؟ ومن يقف وراء محاولة توريط اسم الجزائر في هذا الملف؟
ورغم تأكيد السلطات الجزائرية في عدة مرات وقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتخاصمة في تونس، فإن بعض الكتابات الصحفية لا تزال تحاول ربط اسم الجزائر بهذه القضية الداخلية التونسية المحضة.
اتهامات
بدأت هذه الاتهامات من خلال موقع “مغرب أنتليجنس” الذي زعم في مقال له منذ أيام أن “الجزائر كانت على علم مسبق بقرار السلطات القضائية التونسية توقيف الغنوشي في إطار صفقة سرية بين الرئيسين عبد المجيد تبون وقيس سعيد”.
وحسب الموقع، فإن القصر الرئاسي في قرطاج، أرسل مراسلات وأجرى اتصالات مع الرئيس الجزائري وحكومته لإطلاعه على خطة اعتقال رئيس حركة النهضة.
تربط حركة النهضة التونسية علاقات مع الأحزاب الجزائرية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين كحركة مجتمع السلم المعارضة وحركة البناء الداعمة للرئيس تبون، وهو ما استغلته هذه المواقع لتلفيق الادعاءات ضد الجزائر
وجاء في المقال أن الطرفين توصلا إلى “صفقة تتمثل في إلقاء القبض على راشد الغنوشي بسرعة، ومن ثم توجيه الاتهام إليه رسميًا أمام محكمة تونسية من أجل تبرير اعتقاله في نهاية المطاف، مع التزام قيس سعيد بضمان معاملة جيدة جدًا لزعيم النهضة تليق برتبته كشخصية سياسية بارزة في تونس والتعهد بعدم الإبقاء على راشد الغنوشي في السجن طويلًا وعدم إصدار أي إدانة جنائية شديدة بحقه، وذلك ضمن هدف أبعد هو السماح لقيس سعيد بتحييد حركة النهضة وتعليق أنشطتها السياسية دون إذلال قيادتها الوطنية أو إلحاق الأذى بزعيمها الأول، ما قد يعرض حالته الصحية للخطر”.
واستثمر الموقع ومنصات إعلامية أخرى في العلاقة التي تربط الغنوشي بالجزائر، بالنظر إلى أنه حظي في سنوات سابقة باستقبال من طرف مسؤولين جزائريين، إضافة إلى مكوثه في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي لدى فراره من نظام الراحل زين العابدين بن علي.
وتربط حركة النهضة التونسية علاقات مع الأحزاب الجزائرية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين كحركة مجتمع السلم المعارضة وحركة البناء الداعمة للرئيس تبون، وهو ما استغلته هذه المواقع لتلفيق الادعاءات ضد الجزائر.
وقالت صحيفة “لوموند” الفرنسية إن اعتقال رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، الذي اعتبرته “محميًا” منذ فترة طويلة من الجزائر، يؤسس لوضع جديد في العلاقات الثنائية بين البلدين، بالنظر إلى أن “الارتباط بين الغنوشي والجزائر تاريخي”.
وحسب الصحيفة، تعود العلاقة الجيدة التي تجمع الغنوشي بالجزائر إلى عامين من المنفى (1990-1991) أمضاهما زعيم حركة النهضة في الجزائر في أثناء فراره من قمع نظام الراحل زين العابدين بن علي.
وبعد الثورة التونسية 2011، استقبل الرئيس الجزائري الراحل بوتفليقة، رئيس حركة النهضة الغنوشي، في الجزائر العاصمة أربع مرات، وهو ما اعتبرته الصحيفة “ترددًا يشهد على قرب الارتباط”.
وترى الصحيفة أنه لطالما اعتبر قياديون داخل حركة النهضة، أن التأثير الذي تمارسه الجزائر على قيس سعيد يحمي الغنوشي بطريقة ما من خطر الاعتقال، كونه باختصار “خطًا أحمر لا يجب تجاوزه في عيون الجارة الكبيرة لتونس، التي لا تزال شديدة التطفل في الشؤون التونسية”، على حد وصف الصحيفة.
جهة واحدة
بالنسبة للجزائر، فإن هذه الحملة التي تستهدفها تقف وراءها جهة واحدة هي المغرب، بالنظر إلى أن موقع “مغرب إنتليجنس” معروف بقربه من المخزن الذي يموله، كون هذه القضية ليست الأولى التي يعمل فيها هذا الموقع الإلكتروني على ترويج “أكاذيب” تستهدف الجزائر، إضافة إلى أن الصحافة الفرنسية كثيرًا ما تتحامل على الجزائر، وفق المسؤولين الجزائريين.
وإن لم يصدر بيان من جهة رسمية جزائرية واضحة بشأن قضية ربط البلاد باعتقال الغنوشي، إلا أن قناة “الشروق نيوز” الخاصة نقلت عن مصادر تأكيدها أن الجزائر “لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بتوقيف راشد الغنوشي”، وأنها علمت بذلك “عن طريق وسائل الإعلام”.
وأوضحت المصادر ذاتها أن اعتقال الغنوشي “شأن داخلي تونسي لا صلة للجزائر به، كما أن سياسة الجزائر الخارجية واضحة بهذا الخصوص، فهي قائمة على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”.
أصبح استهداف المواقع الإلكترونية الرسمية والإعلامية وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي من ذباب المخزن أمرًا عاديًا في الجزائر، فكل منشور ينشر يلقى تعليقات تهجمية على الجزائر حتى لو كان الموضوع بسيطًا
ولفتت المصادر ذاتها إلى أن الحكومة الجزائرية أطلقت إجراءات متابعة قضائية، ضد الجهات التي روجت هذه الادعاءات.
ليست هذه المرة الأولى التي تستنكر فيها الجزائر الحملة التي تشنها الرباط ضدها، خاصة بعد تحالف نظام الملك محمد السادس مع الاحتلال، ففي شهر فبراير/شباط الماضي أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية حجب موقعها لساعات بسبب تعرضه لهجمات سيبرانية ومحاولة قرصنة مصدرها المغرب والإسرائيلي.
وفي سبتمبر/أيلول 2021، اتهم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون دولًا لم يسمها بشن هجمات إلكترونية على بلاده خلال كلمة ألقاها في لقاء مع ولاة المدن الجزائرية، مشيرًا إلى أن 97 موقعًا إلكترونيًا يهاجم الجزائر من دول الجوار.
ولم يوضح الرئيس الجزائري تلك الدول، لكنه قال إن دولة تونس ليست من الدول المهاجمة، وفقًا لما ذكرته وسائل إعلام محلية، وألمحت إلى أن الجهة المعنية هي المغرب.
وفي الحقيقة، أصبح استهداف المواقع الإلكترونية الرسمية والإعلامية وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي من ذباب المخزن أمرًا عاديًا في الجزائر، فكل منشور ينشر يلقى تعليقات تهجمية على الجزائر حتى لو كان الموضوع بسيطًا لا يستحق الحصول على تعليقات وتفاعلات كبيرة.
وفي تعليقها على ملف الغنوشي، قالت صحيفة “الخبر” واسعة الانتشار: “أبواق المخزن يستثمرون في إشعال الفتن عبر الترويج للأخبار المغلوطة والمضللة، بحثًا عن التأثير على العلاقات القوية بين الشعبين الجزائري والتونسي، وضرب الاحترام والتقدير الذي يميز العلاقة بينهما”.
وأضافت “آخر هذه الشطحات ما نشرته مواقع إعلامية تتحدث عن وجود دور جزائري في قرار السلطات التونسية توقيف رئيس البرلمان التونسي السابق ورئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، زاعمة أن هذا الأخير كان يحظى “برعاية” خاصة من الجزائر، قبل أن ترفع يدها عنه لاعتبارات إقليمية”.
وحسب الخبر، فإن “ما يؤكد بطلان هذه الرواية الخيالية، هو تناقضها مع سياسة الجزائر الخارجية القائمة على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، فضلًا عن أن هذه الأكاذيب لا تنطلي على الرأي العام في تونس، كما في الجزائر، لما يتمتع به من فطنة ووعي، بالإضافة إلى محاولات سابقة يقف وراءها المخزن وحلفاؤه ذوو النزعة الاستعمارية وأصحاب الأطماع التوسعية، لتسميم العلاقات بين الجزائر وشقيقتها تونس، وبين الجزائر ودول عربية محورية أخرى”.
وأصبحت العلاقات الجزائرية التونسية مادة دسمة للإعلام المغربي منذ أن استقبل الرئيس التونسي رئيس جبهة البوليساريو إبراهيم غالي إبراهيم غالي الصيف الماضي، للمشاركة في قمة اليابان وإفريقيا للتنمية “تيكاد”، باعتباره أحد رؤساء الدول الإفريقية المشاركة في القمة، حيث استدعت بعدها الرباط سفيرها في تونس وباشرت حملة دعائية ضدها، وقاطعت منافسات رياضية أجريت بتونس.
في المقابل، وعلى غير العادة لم يصدر رد رسمي من الجهات الرسمية المغربية بشأن الاتهامات الجزائرية، لكن الصحف المغربية تداولت ما ورد في موقع “مغرب أنتليجنس” على نطاق واسع، ولم تعط اهتمامًا لما ورد في صحيفة “لوموند”.
ولم تكن العلاقة بين الغنوشي والمغرب على الدوام جيدة حتى في ظل تولي حزب العدالة والتنمية الذي ينضوي هو وحركة النهضة التونسية تحت تيار الإخوان المسلمين، رئاسة الحكومة، خاصة أنه دعا بصفته رئيس البرلمان التونسي إلى فتح حدود بلاده والجزائر وليبيا وتبني عملة واحدة ومستقبل واحد لشعوب البلدان الثلاث، لتجاوز معضلة الاتحاد المغاربي المعطل، فقد أثار هذا المقترح الذي طرحه في فبراير/شباط 2021 استياءً واسعًا في المغرب لاستبعاده من هذا المشروع.
موقف النهضة
بطلان الحملة التي استهدفت الجزائر باستغلال العلاقة التي تربط الغنوشي بها أكدتها أيضًا حركة النهضة التونسية عبر السفير التونسي الأسبق في السعودية علي بن عرفة الذي نفى في تصريح لموقع “عربي 21” هذه الادعاءات التي كان محورها تشنيج العلاقات التونسية بالجزائر والرياض.
واستنكر بن عرفة ما ورد في بعض المواقع الإلكترونية من علم السلطات الجزائرية بقرار النظام التونسي اعتقال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وعدم ممانعتها اعتقاله، وتخليها عمن يعتبره البعض حليفها في تونس، إرضاءً للسلطات السعودية.
واتهم السفير بن عرفة “جهات لا تريد الخير لتونس وللمنطقة بكاملها“، بالعبث بالملف التونسي، مستغلة حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده البلاد منذ “انقلاب قيس سعيد على الشرعية، وانتهاكه لدستور البلاد في 25 يوليو/تموز 2021”.
وقال بن عرفة “على العكس من ذلك، فإن الجزائر والسعودية تربطهما علاقات أخوية تاريخية بتونس وجميع الطيف السياسي، وفي مقدمتها حزب النهضة وزعيمه الغنوشي”، مضيفًا “أعتقد أن السلطات الجزائرية ستعمل من خلال علاقاتها القوية مع قيس سعيد على وقف اعتقال الشيخ راشد الغنوشي؛ حرصًا على استقرار البلاد”.
وأوضح ابن عرفة أن الجزائر التي تترأس القمة العربية والسعودية، التي تستعد لاحتضان القمة المقبلة في مايو/أيار المقبل، يمتلكان القدرة لإنهاء المظلمة التي يتعرض لها الشيخ راشد الغنوشي وبقية المعتقلين السياسيين.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد قال مطلع الشهر الحاليّ في مقابلة مع قناة “الجزيرة” إن بلاده “لن تتخلى عن تونس وسنقدم لها يد المساعدة قدر المستطاع، لحفظ كرامة شعبها، وأتمنى أن يحافظ التونسيون على بلدهم”.
وعن إن كان يفضل بقاء سعيد رئيسًا لتونس في ظل معارضة يواجهها داخليًا، أوضح تبون قائلًا: “هذا الأمر لا يعنيني، فمثلما لا أقبل كلمة في إطار التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر، لا أسمح لنفسي بالحديث عن الأخ قيس سعيد”.
وعندما سئل تبون عن عدم ارتياح بعض الأطراف التونسية لموقف الجزائر من الوضع السياسي الراهن، قال: “نحن نريد الاستقرار لتونس، ونحاول أن نشارك في الحوار السياسي التونسي بلطف كأشقاء، ومن دون تدخل لصالح طرف، بهدف لم الفرقاء، أما فيما يتعلق باللعبة السياسية الداخلية التونسية، فلست مع هذا ولا مع الآخر”.
من المؤكد أن العلاقات المتينة التي تربط الجزائر من حكومة وأحزاب وتنظيمات بنظيرتها في تونس من حكومة وتيارات سياسية وجمعيات لا ينكرها أحد، إلا أنها ظلت على الدوام تستثمر من البلدين لتثمين هذه الروابط لا لتفكيكها بالنظر إلى العوامل الأمنية والتاريخية التي تجمع البلدين.