دخلت السبت 29 أبريل/نيسان، الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع، المرتكزة بصورة رئيسية في العاصمة الخرطوم، أسبوعها الثالث دون وجود بارقة أمل في وضع حد لقتالهما الذي قد تتعدى آثاره من تعميق الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والإنسانية إلى تقويض قدرة بقاء السودان.
وفي خضم قتال القوتين الضاري، انخرطت قوى سياسية وأطراف من الحركة الاحتجاجية السلمية ونقابات وكيانات مهنية جميعها مؤيدة للديمقراطية، في تأسيس ائتلاف “الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية”، ليعلنوا في 27 أبريل/ نيسان الحاليّ عن البيان التأسيسي التنسيقي.
تعهدت هذه الأطراف بالعمل على الإيقاف الفوري للحرب وتوفير الاحتياجات الإنسانية والصحية والخدمية واستعادة الانتقال المدني الديمقراطي، إضافة إلى إبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية والاقتصادية وإجراء إصلاحات عليها تقود إلى جيش مهني موحد عبر خطوات سلمية.
وأكدت في البيان التأسيسي، أن الهدف النهائي للحرب الجارية هو عسكرة الحياة والقضاء على جذور الحياة المدنية والحكم المدني الديمقراطي.
تشمل خطط الجبهة المدنية، بحسب بيانها، مواجهة خطابات الانحياز والاصطفاف على الأسس الدينية والإثنية والمناطقية، ومقاومة الحملات الدعائية والإرهابية، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي في الشؤون الوطنية عدا المساعي الدولية العاملة من أجل إيقاف الحرب وتوفير الغوث الإنساني وإحلال السلام.
وتوافقت أطراف الجبهة المدنية (أبرزهم قوى الحرية والتغيير ونقابة الصحفيين السودانيين وحركة تحرير السودان المسلحة بقيادة عبد الواحد محمد نور)، على العمل المشترك عبر تنسيق، يتفق لاحقًا على تطوير آليات تساعد في سرعة اتخاذ القرار وتنفيذه على امتداد السودان.
تحاشي تحميل المسؤولية للبرهان وحميدتي
تحدث البيان عن اتفاق أطراف الجبهة المدنية على التصدي لخطط نظام الرئيس المعزول عمر البشير لاستعادة سلطته بالثأر من ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 ومحاولاته الحاليّة لعسكرة الحياة تحت راية الحرب.
ظلت القوى السياسية المنخرطة في العملية السياسية، تتحدث قبل اندلاع الحرب، عن سعي النظام السابق إلى إحداث وقيعة بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، بهدف نسف العملية باعتبارهم أكثر طرف متضرر منها، بعد أن منحه انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، مساحة من الحرية للتحرك وإيقاف إجراءات تفكيك بنيته الاقتصادية.
وتجاهلت هذه القوى التعزيزات العسكرية في العاصمة الخرطوم من الجيش والدعم السريع، فيما سعت إلى تخفيف حدة التصعيد الإعلامي بينهما، لكن دون تحميلها مسؤولية تحويل الخرطوم إلى ثكنة عسكرية.
لهذا، تحاشى البيان تحميل مسؤولية الاشتباكات إلى قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد قوات السريع محمد حمدان “حميدتي”، اللذين ارتكبا فظائع بحق المدنيين وانقلابًا على حكومة الانتقال وأخيرًا حرب دامية، وكل ذلك دون مساءلة.
يشير التاريخ الشخصي للبرهان وحميدتي، إلى أنه كلما اقترب تسليم الحكم إلى المدنيين يفتعلا أزمة تعطل الأمر برمته
ظهر البرهان على الساحة السياسية، حينما عينه نائب البشير جعفر بن عوف الذي أعلن عزل الأخير بواسطة قادة الجيش، رئيسًا للمجلس العسكري وسرعان ما اختار حميدتي ليكون نائبه.
وجرى عزل البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019، تحت ضغط ثورة سلمية نظمت اعتصامًا سلميًا أمام مقر قيادة الجيش، وفي أثناء تفاوض قوى الحرية والتغيير مع البرهان وحميدتي والقادة العسكريين، ظل المعتصمون يضغطون في اتجاه تشكيل حكومة مدنية.
لم يطق الجنرالات هذا الطلب، وفضوا الاعتصام بطريقة وحشية في 3 يونيو/حزيران 2019، وأعلن البرهان إيقاف التفاوض مع الحرية والتغيير، لكنه تراجع تحت الضغوط الشعبية، ليتوصلا في خاتمة المطاف إلى اتفاق بتقاسم السلطة، بموجبه أصبح البرهان رئيسًا لمجلس السيادة وحميدتي نائبًا له.
ومع اقتراب تسليم رئاسة المجلس السيادة إلى المدنيين افتعل البرهان أزمة سياسية على خلفية انقلاب عسكري فاشل، ليُنفذ انقلابًا هو الآخر مع نائبه.
وبعد أشهر من الانقلاب، انخرط البرهان وحميدتي في عملية سياسية مع الحرية والتغيير تحت رعاية إقليمية ودولية، تهدف إلى تسليم السلطة للمدنيين، وبالفعل، جرى التوافق على قضايا هذه العملية بما في ذلك بعض المسائل المتصلة بالجانب العسكري مثل دمج قوات الدعم السريع في الجيش وإصلاحه، لكن الخلافات تفجرت بين القوتين العسكريتين على قضايا السيطرة والقيادة وسنوات الاندماج.
يشير التاريخ الشخصي للبرهان وحميدتي السياسي، إلى أنه كلما اقترب تسليم الحكم إلى المدنيين يفتعلا أزمة تعطل الأمر برمته، لكن طموح كل منهما منفردًا هو التسيد على السودان، بغض النظر عن الطريقة، لهذا، كانت الحرب نتيجة حتمية.
وهي حرب تضرر منها معظم السودانيين، خاصة في الخرطوم التي تعمل بها 16% فقط من المرافق الطبية، حيث خرجت باقي المرافق الطبية عن الخدمة نتيجة تعرضها للقصف والإخلاء القسري وشح الكوادر الطبية والمعينات الطبية وانقطاع المياه الجارية والكهرباء، كما انعدم فيها الأمن تمامًا لتسود عمليات نهب الأشخاص والمنازل والمحال التجارية والمصارف والمصانع.
لا يمكن لقوى مدنية تؤمن بالحوار كوسيلة وحيدة لحل القضايا الخلافية أن تمارس ضغوطًا على جنرالات طامحين إلى السلطة ولا يعرفون طريقًا إليها إلا العنف
ويتوقع أن تتوسع الأضرار، خلال فترة وجيزة، لتشمل جميع مناطق السودان التي ارتفعت فيها أسعار السلع الغذائية والوقود التي توقف إمدادها نظرًا لوجود معظم المصانع والشركات الكبرى في العاصمة الخرطوم، ما يعني أن البلاد مقبلة على مرحلة ندرة في كل شيء ربما عدا الموت.
مساحة التحرك المدني
هيمنت القوى السياسية الداعمة للديمقراطية والحركة الاحتجاجية على الفضاء العام، منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد نظام البشير في ديسمبر/كانون الأول 2018، لكن مساحة نفوذها بدأت تتراجع منذ عزل البشير، لعوامل عديدة من بينها الخلافات الداخلية.
حتى في ظل حكومة الانتقال، كان العسكر يمسكون بأهم الملفات مثل معالجة الأوضاع الاقتصادية والتفاوض مع الحركات المسلحة والعلاقات الخارجية، ما أضعف ائتلاف الحرية والتغيير الذي كان بمثابة قاعدة سياسية للانتقال.
حاولت الحرية والتغيير تلافي هذه الأخطاء في العملية السياسية بإصرارها على إبعاد العسكر عن الشأن العام وتجريدهم من الاقتصاد الموازي الذي يديروه، غير أن عدم تحميلها مسؤولية فض الاعتصام وانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول إلى البرهان وحميدتي بجدية، يجعلها تخسر مساحة مناورة.
تملك القوى المدنية الآن فرصة ذهبية لتخفيف عسكرة الحياة، حال عملت على تسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها طرفا القتال ضد المدنيين وسعت إلى توفير الاحتياجات الحياتية المُلحة والإغاثة الإنسانية
وبالتأكيد، لا يمكن لقوى مدنية تؤمن بالحوار كوسيلة وحيدة لحل القضايا الخلافية أن تُمارس ضغوطًا على جنرالات طامحين إلى السلطة ولا يعرفون طريقًا إليها إلا العنف، لكن يُمكنها ممارسة ضغوط عليهم حال وجدت دعمًا شعبيًا واسعًا وموقفًا دوليًا واضحًا يؤيدها.
وتملك القوى المدنية الآن فرصة ذهبية لتخفيف عسكرة الحياة، حال عملت على تسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها طرفا القتال ضد المدنيين وسعت إلى توفير الاحتياجات الحياتية المُلحة والإغاثة الإنسانية، بما يمكنها من لعب دور سياسي فعال، لكن الأهم من ذلك ينبغي أن تمتلك رؤية واضحة لكيفية حل أزمات السودان على ضوء المتغيرات التي تجري منذ اندلاع الاشتباكات.
ولعل أول الأشياء التي تتطلب معالجة سريعة، هي إيقاف تحول الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في ولاية غرب دارفور غرب السودان، إلى نزاع على أساس عرقي بين القبائل العربية وقبيلة المساليت الإفريقية، فإذا انتقل هذا النزاع إلى مناطق أخرى قد يخرج إقليم دارفور عن السيطرة.
ومعروف أنه بمجرد إطلاق الرصاصة الأولي، يتوقف العمل المدني، لهذا يحتاج الائتلاف الجديد إلى جهود جبارة لإقناع طرفي القتال بعدم جدوى الحرب ومحاولة حشد أكبر كتلة ضد عسكرة الحياة العامة.