تشهد تونس منذ ليلة 25 يوليو/تموز 2021، تراجعًا كبيرًا في الحريات، رغم تأكيد الرئيس قيس سعيد المتكرر حمايته حرية الفكر في بلاده، إذ عطل عمل الأحزاب وقيد نشاط السياسيين وضيق الخناق على المجتمع المدني والصحفيين وشرع قوانين تكمم الأفواه في الواقع وفي المجال الافتراضي.
طوع القضاء والأمن وكل مؤسسات الدولة خدمة له، وهو الذي كان ينتقد مثل هذه الممارسات، حتى الكتب لم تسلم منه، فلأول مرة منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011 يُصادر كتاب في تونس، ذنب صاحبه أنه أراد تعرية الواقع والكشف عن بعض فساده.
فرانكنشتاين تونس
دقائق قليلة على زيارة الرئيس قيس سعيد لمعرض تونس الدولي للكتاب رفقه عدد من الوزراء والسفراء الأجانب لدى بلاده، حتى اقتحم عناصر من أمن وزارة الثقافة جناح مؤسسة “دار الكتاب للنشر”، وأغلقوا الجناح أمام مرأى الجميع.
فضلًا عن غلق جناح المؤسسة، صادروا كتاب يحمل اسم “فرانكنشتاين تونس، تأملات في الشأن السياسي التونسي في عهد قيس سعيد”، ويوجه هذا الكتاب – الذي حمل غلافه الصورة التخيلية المعروفة لشخصية “فرانكنشتاين” الهوليودية – انتقادات لرئيس البلاد قيس سعيد، وفق مؤلفه.
يقول مؤلف الكتاب كمال الرياحي لـ”نون بوست” إن الحملة ضد كتابه بدأت منذ أيام، تحديدًا منذ نشر غلاف الكتاب، وكانت هناك نية مبيتة لمصادرته، كما نادى أنصار قيس سعيد باعتقاله في العديد من المدونات والصفحات بمواقع التواصل الاجتماعي، ويقول صاحبه إنه ليس رواية إنما كتاب في السياسة وتدبر الواقع التونسي.
سقط سعيد في أول اختبار وأثبت أن حديثه وتعهداته السابقة باحترام حرية التفكير وحمايته، لم تكن سوى كلام فقط
يتكون الكتاب من مجموعة مقالات عن مدة حكم الرئيس قيس سعيد و”انهيار الحريات وتتبع الانقلاب يومًا بيوم، وتحليل شخصية الرئيس من وجهة نظر ثقافية، ويعود قسم من الكتاب إلى ما قبل وصول سعيد إلى الحكم”.
وجاء على غلاف الكتاب على لسان الرياحي: “قبل أن يشقى فكتور فرانكنشتاين، في رواية ماري شيلي، وراء وحشه، كان يعيش قلقًا وحزنًا بسبب موت أمه، فانهمك في العمل على أبحاثه ليصنع الوحش، إن مشاعر اليتم الخلاقة هذه هي نفسها التي كان يتخبط فيها الشعب التونسي قبيل انتخاب سعيد، فقد فشل هذا الشعب في العثور على حل لتيهه التاريخي بعد إسقاط ديكتاتور كان يعتقد أنه المعرقل الوحيد أمام إدراكه السعادة”، وأضاف الكاتب “فما هلل هذا الشعب يومًا لحاكم إلا وانقلب عليه، فلا نفعه الحقوقي والمناضل ولا حتى السياسي المحنك”.
مضيفًا “لم يكن أمام هذه الحشود من الجماهير ومن لم يقتنع بأحد إلا صناعة وحش من خيباتهم، شخص لا يعدهم بشيء لأنهم ملوا الوعود الكاذبة، لم يكن أمامهم إلا صوت ذلك الأستاذ السوريالي الذي لا يضحك أبدًا لكي ينتقموا من الكل، من السيستم الذي ظل مستمرًا رغم تغير الوجوه والقادة”.
يذكر أن فعاليات الدورة الـ37 للمعرض الدولي للكتاب في تونس، انطلقت أمس الجمعة، بمشاركة 22 بلدًا عربيًا وأجنبيًا، ويقام المعرض هذا العام تحت شعار “حلق.. بأجنحة الكتاب”، وستتواصل فعالياته حتى يوم الأحد 7 مايو/أيار المقبل.
نفاق السلطة
قلنا في البداية إن مصادرة الكتاب جاءت بعد وقت قصير من زيارة سعيد لمعرض الكتاب، زيارة دعا فيها التونسيين للإقبال على الكتاب والقراءة، قائلًا: “لا مستقبل لنا إلا بالثقافة”، مضيفًا “تحصيل العلم والمعرفة لا يمكن تحقيقهما في ظل فكر جامد أو في ظل بعض المفاهيم التي انتهت صلاحياتها”.
يدعو سعيد إلى تحرير الفكر، لكنه في الوقت نفسه يخشى كتابًا فيه بعض المقالات التي تنتقد نظام حكمه والأنظمة التي سبقته، يدعو سعيد إلى تحرير الفكر، لكن يُصادر كتابًا لم يحمل نفسه قراءة ما يحتويه وأصدر قراره بناءً على غلافه.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها سعيد عن حرية التفكير، فقد تطرق لهذا الأمر في أكثر من مرة، وكان قد أكد أن من دون حرية التفكير، تصير كل الحريات شكلية، وأن هذه الحرية تسبق حرية التعبير، وفق قوله.
أكدت حادثة الأمس، أن الرقابة في تونس مست كل النواحي
لكن سعيد سقط في أول اختبار، وأثبت أن حديثه وتعهداته السابقة باحترام حرية التفكير وحمايته، لم تكن سوى كلام فقط، كغيرها من التعهدات التي يلجأ إليها كلما اقتضت الحاجة، قصد تبييض نظامه وإظهاره في ثوب “حامي الحريات”.
وفرانكنشتاين لمن لا يعلم، هي رواية تحكي عن شاب يخلق مخلوقًا غريبًا عاقلًا في تجربة علمية غير تقليدية، تحول فيما بعد إلى وبال على الشاب وعائلته وأصدقائه لأن هذا المسخ لم يجد من يقبل به فحقد على الجميع، وبالذات على صانعه، الأمر الذي دفعه للانتقام.
يبدو أن الرياحي استحضر قصة فرانكنشتاين، لوجود وجه شبه كبير بينها وبين شخص قيس سعيد، ذلك الشخص الذي أنشأه شعب يريد التعبير عن رفضه للنظام القائم منذ ثورة 2011، لكن تبين فيما بعد أنه يحقد على الجميع ويسعى للانتقام.
نكسة للحريات
اعتبر كمال الرياحي في حديثه لنون بوست أن “ما حدث أمس، يمثل نكسة كبيرة للحريات وحرية التعبير في تونس، بإشراف مباشر من الرئيس قيس سعيد الذي افتتح المعرض وأعطى أوامره فيما بعد بمصادرة الكتاب بتواطؤ من المشرفين على المعرض”.
وأضاف الرياحي لـ”نون بوست” عبر الهاتف من كندا حيث يقيم: “كتاب فرانكنشتاين تونس انتقد واقع الحريات في البلاد، وجاءت السلطة وأكدت ذلك ووقعت عليه، لتوقع بالتالي على انتهاء حرية التعبير في تونس، وهو ما أنتقده بشدة، خاصة أن الرئيس كان يدعي حماية الحريات”.
وتابع المؤلف حديثه بالقول “يبدو أننا نختبر هذا النظام بعد انقلاب 25 يوليو/تموز 2021 ونختبر وضع الحريات في تونس، لنتبين أننا أمام فضيحة كبرى للثقافة وحرية التعبير في البلاد”، وهو الموقف الذي شاركه فيه العديد من التونسيين.
وفق الرياحي، فإن تونس أصبحت تعيش على وقع نظام شمولي وديكتاتوري يقوده فرانكنشتاين الذي صنعه الشعب بيده، إلا أنه أجهز على الثورة وكل مكتسباتها، دون أن يولي أي اهتمام لتطلعات الشعب ومطالبه، كغيره من الحكام المستبدين.
أكدت حادثة الأمس، أن الرقابة في تونس مست كل النواحي، وبلغت الرقابة على الإنتاج الثقافي والفكري، رغم أن هذا الأخير لا يخضع عادة لمعايير السلطة ومن مهامه المعارضة ونقد الأنظمة وتعرية خورها وفسادها.
تكشف حادثة مصادرة كتاب “فرانكنشتاين تونس”، الوضع الذي وصلت له الحريات في تونس زمن سعيد، فمنذ انقلابه على مؤسسات الدولة الشرعية ودستور البلاد ليلة 25 يوليو/تموز 2021 وواقع الحريات في البلاد في تراجع متواصل.
حرية التعبير والتفكير، مكسب مهم انتزعه التونسيون منذ ثورة 2011 بعد عقود من القمع والاستبداد، لكن يبدو أن نظام سعيد وضع نهاية لهذا المكسب كغيره من المكاسب الأخرى.